محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شنوا أشيبي والطيب صالح: أيقونتا إفريقيا
نشر في الراكوبة يوم 01 - 04 - 2013

هذان الطودان الراسخان...أتراب... وأرباب قوافي... وأبناء جيل واحد؛...ولد الأول بقرية أوجيدي بإقليم بيافرا مرتع قبيلة الإيبو بجنوب شرق نيجريا عام 1930، وبها ترعرع في كنف جده، وتشرب ثقافة شعبه الإيبو، رغم أنه أصبح مسيحياً منذ صغره، بعكس جده الذى رباه...والذي لم يعاقر ذلك الدين الجديد...ولكنه تعايش مع معتنقيه من أفراد الأسرة بكل تسامح وأريحية،... وتوفي أشيبي الأسبوع المنصرم بالولايات المتحدة حيث قضى السنوات الثلاث وعشرين الأخيرة من عمره.
وولد الطيب عام 1929 بقرية كرمكول قرب الدبة من أعمال قنتي، وبها ترعرع في كنف أهله البديرية الدهامشة. وذهب أشيبي لمدرسة أم أهيا الداخلية النائية حيث تلقي تعليماً إنجليزياً كأنه في مدرسة هارو العريقة بريف لندن؛ وكذا الحال بالنسبة للطيب صالح الذى تلقي التعليم الأوسط ببورتسودان والثانوي بوادي سيدنا – توأم أم أهيا – ومن ثم تم قبوله بعلوم كلية الخرطوم الجامعية.... حيث لم يطب له المقام...وكان يتردد على كلية الآداب ويحضر حصص الأدب الإنجليزي علي أيدي دكاترة إنجليز فطاحل، ثم ترك الجامعة بعد سنة وعمل بالتدريس.. وأُرسل لكلية السنتين ببخت الرضا، وبعد ذلك قبلته البي بي سي مذيعاً بها عام 1954... وذهب ليقيم بلندن ويعمل...ويحصل علي إجازة في الأدب من إحدى جامعاتها ...ويكتب بين الفينة والأخرى... حتى توفاه الله عام 2009. ولقد تكرر نفس المشهد مع أشيبي الذى حاز علي منحة لدراسة الطب بكلية إبادان، ولكنه بعد ذلك بعام قلب ظهر المجن للطب وللscience وتحول لكلية الآداب حيث درس اللغة والأدب الإنجليزي؛ وبعد التخرج عمل بالتدريس لوقت قصير ثم التحق بإذاعة إنوقو بشرق نيجريا محرراً وكاتب سيناريو؛ وفي عام 1956 أرسل إلي بريطانيا في بعثة تدريبية بالبي بي سي، و لا بد أنه التقي الطيب الذى كان في تلك اللحظة رئيساً لقسم الدراما بالبي بي سي العربية داخل بوش هاوس مبني هيئة الإذاعة البريطانية بلندن.
ورغم أن أشيبي كتب باللغة الإنجليزية المتأثرة بموروث الإيبو...
(وقال عن تطويعه للغة الإنجليزية:We will do with the English language things unheard of)
... ورغم أن الطيب كتب بالعربية المتأثرة بالإنجليزية، إلا أن العديد من القواسم المشتركة العظمي تجمعهما: فقد تميزت كتاباتهما بالسهل الممتنع، وبالاقتصاد في استخدام اللغة، بلا محسنات بديعية غير ضرورية أو تكرار أو حشو أو سرد دائري أو (في حالة الطيب) أي استخدام للمفعول المطلق. ومنهجهما الفني متأثر بالرواية الإنجليزية ذات التاريخ العريق، وآخذٌ بأحدث معطياتها الواردة في كتابات جيمس جويس وفرجينيا وولف....وهو تداعي الخواطر stream of cosciousness، ... ومتأثر بفنيات السينما - من زوم وفلاش باك - أي عدم التقيد بالسرد الكلاسيكي المتدرج من النقطة "أ" إلي النقطة "ي"...حيث ينتصر البطل ويتزوج البطلة ويهلك الخائن....وتقنية السرد غير الكلاسيكي وغير الكرونولوجي هي نفس التقنية التي كانت إميلي برونتي الروائية اليوركشيرية الإنجليزية (ت 1848) قد استخدمتها في (مرتفعات وذرنق Wuthering Heights) في القرن التاسع عشر، وكان قد لامسها قبل ذلك مؤسس الأدب الروسي الإسكندر بوشكين (ت 1837).
ولقد تميز الكاتبان بالحس الشاعري المرهف؛ (سطّر اشيبي العديد من القصائد، وصدر له ديوان شعر عام 1971 بعنوان Beware Soul Brother)، بينما كان الطيب عاشقاً للمتنبي وذي الرمة وشكسبير وكريستوفر مارلو والشعراء الرومانسيين الإنجليز، ويعتبر نثره شعراً...من حيث الاستخدام العبقري للموسيقي الداخلية والجناس والطباق وكافة أنواع الاستعارات والاستخدامات المجازية. وتميز الكاتبان بانفعالهما بقضايا شعبيهما، بدون تشنج أو لغة هتافية غوغائية، إنما بإماطة اللثام عن الأصالة في ثقافاتهما المحلية الوطنية...والدفاع عنها باعتبارها نداً كفؤاً للثقافة الغربية الوافدة مع المستعر، بدون الرفض الصمدي لمعطيات الثقافة الغربية...بل الأخذ بما فيها من خير وتعليم وتكنولوجيا، دون الذوبان فيها وفقدان الهوية والشخصية والأصالة. وتميز كلاهما بالانحياز للموقف الوطني العام المعادي للإمبريالية، دون التحزب الصريح أو الانتماء لهذا التيار السياسي أو ذاك، باستثناء أشيبي الذى انضم لحزب التحرير البيافري الماوي المتطرف بزعامة أيجوكوو إبان الحرب التي دارت بإقليمه بيافرا 1967 – 1970، ولكنه في نهاية تلك الفترة كفر بالحزبية مرة أخري وابتعد عن الساحة السياسية، وقال عن القادة الثوريين الماويين إنهم كالبرجوازيين أعدائهم من حيث اللهث وراء السلطة والبطش بالخصوم والبحث عن المنفعة الذاتية والضمور التام في الوطنية والتجرد...وآثر الانخراط في العمل الأكاديمي البحت، ثم عاد في 1976 لنيجيريا بعد أن عمل بالتدريس بالجامعات الأمريكية لبضع سنوات، ليصبح بروفيسيراً بجامعة نيجريا ويترأس تحرير مجلة "أواندي إيبو" واتحاد الكتاب، ويصبح نائباً لرئيس حزب الإنقاذ الشعبي People's Redemption Party.
وتميز كلاهما بعدم الإسهاب وعدم الإكثار من إصدار الأعمال: كتب الطيب فقط عرس الزين وموسم الهجرة إلي الشمال وبندر شاه، بفرعيها ضو البيت ومريود، وبضع قصص قصيرة مثل: نخلة على الجدول ودومة ود حامد، ما بين 1957 و1972، ثم كتب مقالات قصيرة أسبوعية - صفحة واحدة - بمجلة "المجلة".
ونفس الشيء بالنسبة لشنوا أشيبي الذي كتب:
Things Fall Apart 1958 الأشياء تتداعي
No Longer at Ease 1960 ما عدنا متمهّلين
Arrow of God 1964 سهم الرب
A Man of the People 1966 رجل الشعب
Anthills of the Savanah 1987 بيوت النمل السافانيي
بالإضافة للمقالات والأشعار، ثم ختم حياته بالسيرة التي صدرت بآخر العام المنصرم بعنوان There was a Country التي حكي فيها قصة حياته متداخلة مع صيرورة الحرب في إقليم بيافرا ومعاناة أهله الإيبو منذ عام 1966 عندما بدأت المجازر التي استهدفتهم في كل أنحاء نيجريا، إلي أن أستقر بهم المقام في منطقتهم بيافرا التي هاجروا لها فراراً من المجازر الجماعية – البوقرومز – التي استهدفتهم في الشمال والغرب...وإلي أن نشبت الحرب الشرسة بينهم والجيش النيجيري لثلاث سنوات تخللتها مجاعة فظيعة...وانتهت بهزيمتهم وكسرهم وإخضاعهم الكامل للحكومة الاتحادية في لاقوس...(وقد انتهت الحرب، ولكن مشكلة أقلية الإيبو ذات الثمانية مليون نسمة لم تنته حتى اليوم...كأنك ضمدت جرحاً فوق صديده.. ومصيرهم الانفصال كجنوب السودان).
وأهم شيء ميّز هذين العملاقين الإفريقيين أن لكل منهما فنه وأسلوبه المتفرد الخاص به الذى جعل رواياته تترجم لعشرات اللغات وتدرس في معظم جامعات الدنيا، ولقد تعرفت البشرية على الثقافات الإفريقية شامخة الأنف من خلال أعمالهما، وفي نفس الوقت مسّت كتاباتهما شغاف النفس البشرية ورسخت فيها أجمل المشاعر الإنسانية المشتركة بين الشعوب، فتخطت حواجز المحلية الخادعة التي تطالعك في رواياتهما وهي تحكي عن شخوص قرويين بود حامد وكرمكول أو بتلك القري النائية بجنوب شرق نيجريا....إذ تجاوزت رواياتهما المحلية المنغلقة وخاطبت بنى البشر في جميع الأماكن والأزمان ... وحققت الخلود...وانتشرت كنسائم عابرة للقارات والثقافات...وبلغت العالمية بحق وحقيق... وكانت ملهمة للمناضلين ضد الاستعمار والهيمنة وضد الفساد المحلي والوافد...إذ قال أشيبي :
“What literature should be about: right and just causes."
وقال عن رسالة الأدب:
“It begins as an adventure in self-discovery...and ends in wisdom and humane conscience."
ويكفي أشيبي ما قاله نيلسون مانديلا عن أدبه الذى تناهي إليه في عتمة السجن بجزيرة روبن:
“ There was a writer named Chinua Achebe in whose company the prison walls fell down."
ولقد حققا نبوءة الراوي الناطق باسم الطيب في "موسم الهجرة":
(أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي، فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف...كتب كثيرة تقرأ...وصفحات بيضاء في سجل العمر...سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء.) "الأعمال الكاملة – دار العودة بيروت – ص 15"
ولم يصنّف أي منهما أسفاره بهدف الكسب المادي، إذ فارقا هذه الدنيا ولم يتركا من عرضها ما يتقاسمه الوارثون، ولكنهما حتي الرمق الأخير كانا يحاضران بالجامعات وبالمنتديات المحلية والإقليمية والدولية...ويشاركان في الحوارات التلفازية، وينشران عبير الأدب ونفحات الشعر بين قرائهم ومعجبيهم في كل أرجاء المعمورة، وكانا ثريين بحب الناس لهما...وعاشا حياة متنوعة ومتجددة وعامرة بالمساهمة في إرساء دعائم الأدب الإفريقي والأدب العالمي.
ويرد الكاتبان علي الدعاوي الاستعلائية الواردة في كتابات الغربيين التي تناولت الحالة الإفريقية، مثل "قلب الظلام" لجوزيف كونراد Heart of Darkness - ولقد جاء ذلك في محاضرة تاريخية ألقاها أشيبي عن كونراد عام 1972 بجامعة أمهيرست بماساسوشتس بأمريكا - كما جاء في توصيف كل من أشيبي والطيب للقرية التي تجسد التوازن والطمأنينة والتصالح مع النفس والعمل الشاق لسؤدد وازدهار الأسرة المتماسكة...والمرجعية الفلسفية المتكاملة لأهداف العيش في تلك البيئة...ونوازع الخير ومكافحة الشر...والتعاون والتضامن بين سكانها من أجل المنافع المشتركة بين الجميع...سواء كان ذلك في دومة ود حامد التي وصفها الطيب صالح في رواياته التي تكاد تكون فصولاً من مسلسل واحد...أو في روايات شنوا أشيبي التي تتبع نفس المنهج التسلسلي...حيث تتداخل القصص مع بعضها البعض من حيث الشخوص والبيئة والفنيات....ففي "الأشياء تتداعي" نجد قرية أم أوفيا بمجتمعها المنسجم والمعافي، في إطار التقسيم العادل للمهام والمسؤوليات بين مجلس الحكماء كبار السن والكجور oracle أي المؤسسة الدينية التقليدية التي ليست لها مرجعية غير الآباء والجدود المقيمين في العالم الآخر...نجد مجتمعاً له حضارته الخاصة وطريقته في كسب العيش وفي ممارسة الحياة...وليس كياناً هلامياً بلا هوية أو أهداف يتوجب إلغاء تاريخه وتشريبه ديناً وثقافة جديدة...أي المسيحية والحضارة الغربية في أحدث تجلياتها...وكان ذلك في نهاية القرن التاسع عشر، في أعقاب مؤتمر برلين 1885 الذى تقاسمت فيه الدول الأوروبية قارتي إفريقيا وآسيا كمستعمرات ومناطق نفوذ، مع بداية التبشير المسيحي والتسلل الاستعماري البريطاني لنيجيريا والدول المحيطة بها...وركزت "الأشياء تتداعي" على إشكاليات اللقاء الأول بين الحضارتين الأوروبية المسيحية...والإفريقية...وعلي الفهم المغلوط الذى تعامل به الأوروبيون مع هذه الشعوب المقهورة...وعلي الجهل العميق المختبئ وراء الادعاء الأوروبي بأن الرجل الأبيض هو صاحب الحضارة الأفضل واليد العليا ...الذى يتعين عليه الأخذ بيد أخيه الأصغر الإفريقي...الضعيف والمفلس مادياً وثقافياً وروحياً...وما ذلك في حقيقة الأمر إلا غطاء ماكر لنهب الثروات واستغلال الكادحين الأفارقة كأيدي عاملةً.
ويلحق أشيبي هذه الرواية بعد ذلك بسنتين ب"No Longer at Ease"، وشخصيتها الأولي أوبي حفيد أوكنكوو بطل "الأشياء تتداعي"، وقد ذهب الحفيد لإنجلترا مبعوثاً ...وعاد لقريته موظفاً محترماً بالحكومة، ولكنه لم يضع الرحمن في قلبه، فما كاد يستقر بموقعه الجديد حتى امتدت يده للرشوة وانتهي به الأمر مجرجراً في المحاكم لجريمة تافهة كهذه، بينما كان جده قد ارتكب جريمة "وطنية"...إذ حاول أن يحرض أهله علي الثورة ضد الإنجليز لأنهم استعمروا بلاده وفرضوا إرادتهم ... فقام أهل أم أوفيا بقيادة أوكنكوو بحرق كنيسة بناها الإنجليز بالقرية، ولما جاءت فرقة من الإداريين الانجليز لتحقق في الأمر ضرب أوكنكوو أحدهم وأرداه قتيلا، وذهب لبيته لأن الباقين توجسوا خيفة وتفرقوا ولم يكن لديهم الحماس الكافي لخوض معركة ضد المستعمر. ولما جاءت الشرطة لأخذ أوكنكوو وجدوه قد مات منتحراً... فقد كره الحياة تحت هيمنة الغاصب الجديد... وكره الحياة مع قبيلته التي اتهمها بالخور والعجز...ولكن القبيلة بدورها ترفض الانتحار وتعتبره عين الخور والانكسار، و في هذه الحالة لا تقام المراسم التقليدية للدفن ويعتبر المنتحر كالخارج عن الملة.
أما الحفيد أوبي فلقد أفسدته الحضارة الأوروبية بما أكسبته من عادات استهلاكية ونوازع تفاخرية ومظاهر طبقية زائفة حاول أن يعيش بها وسط الكادحين الأفارقة، أسوداً متغربناً، ولما لم يمكّنه راتبه من تلبية تلك النوازع والرغبات امتدت يده للمال العام، وهذا هو السر الجوهري وراء الفساد الذى استشرى في نيجيريا منذ الاستقلال عام 1960 (وفي السودان كذلك) والذى تعرض له أشيبي في كل رواياته وكتاباته بعد "الأشياء تتداعي"، فهو يري أن الفساد ليس حكراً علي الطبقات الحاكمة وحدها، ولكن الثقافة الشعبية قد تشجعه في بعض الأحيان، فالناس لا يسخطون علي الشخص الفاسد، فقط يمقتونه إذا كان ساذجاً ولم يستطع أن يغطي ظهره...وسمح لسرقته أن تنكشف.
والناس في السودان يتفاخرون ب "الهمباتة" و لا يعتبرونهم لصوصاً بل أبطالاً عند ربهم يرزقون...ولصوص الحكومة "الهمباتة الجدد" يعتبرون نسخة محسنة من الهمباتة...والشخص الذى يراكم ثرواته من الاستخدام غير القانوني لجهاز الدولة يعتبرونه "مستنفعاً" و"حريفاً" و "كسّيباً" وتغني له المطربات الشاعرات، أما الشخص الذى يتجنب السحت ويكتفي بالعيش الحلال فهو "أبيض" و"حضيري" و"مغفل".
ولقد تناول أشيبي الأزمة النيجيرية المستدامة في مقاله المشهور المنشور عام 1983 “The Trouble with Nigeria"
وفي هذه المقالة يتحدث أشيبي عن الأزمات السياسية النيجيرية المتلاحقة وعن الفساد الذى نخر في قلب المجتمع واستمر لعقود متواصلة بدون أي ضوء في آخر النفق، ومع ذلك تدّعي النخب السياسية، خاصة المنتمية للشمال المسلم، أنها طاهرة مطهرة...وأنها تبتغي مرضاة الله، وباسمه تبطش بالإيبو وبالأقليات المسيحية. تماماً كما فعل الإخوان المسلمون في السودان الذين أثروا علي حسب شعب يتضور جوعاً، وفتكوا بالجنوبيين لأنهم غير مسلمين...إلي أن انفصلوا بجنوبهم...وهم الآن يبطشون بالإثنيات غير العربية الأخرى بجنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق؛ ولم يكتب الطيب صالح كثيراً عن الأزمات السودانية فيما بعد الاستقلال، ولكنه لمّح لأن مجتمع كرمكول - كنموذج - جدير بتطوير نفسه بنفسه بعد الاستقلال إذا سارت الأمور بالتوازن والحكمة التي اتسمت بها "العصابة"، أي الطبقة الوسطي الحاكمة، أهل الحل والعقد جمال الشيل، محجوب والطاهر الرواسي وعبد الحفيظ وسعيد عشا البايتات وغيرهم الذين رأيناهم في "عرس الزين" ورأينا أبناءهم في "بندر شاه".... وهو مجتمع جدير بإنتاج الخير الوفير الذى شهده "عام الحنين" عندما فاض الزرع والضرع بأكثر مما كان متوقعاً، وكل ذلك ببركات الصوفي الحنين وحواره الزين، وهما يمثلان دين الشعب المتصالح مع تقاليد القرية وإرث الآباء والجدود، الذى يسمح ببعض المسرة مثل حكاوي بت مجدوب التي شهدناها في موسم الهجرة تتعاطي شيئاً من الويسكي، كما يسمح بشيء من رقص الفتيات في عرس الزين...رقص طار منه عقل "الإمام" الذى كان يطمع في زواج حسنة عروس الزين...(فهو من رهط يحبون ملذات البطن والفرج)...والذى لم يخف غيرته وحقده علي الزين حينما نطق بمكنونات عقله الباطن معلقاً في صحن المسجد وهو علي وشك أن يعقد القران بأنه كان أصلاً معترضاً علي تلك الزيجة...بيد أن المجتمع عبّر عن استنكاره لسلوك الإمام ... وانتهره محجوب وذكره بأن ذلك خروج علي النص غير مبرر: الناس كلهم فرحون بعرس الزين، وليس من حق الإمام أن يفسد عليهم تلك البهجة. والإمام يمثل الفهم الأصولي للإسلام الذى جاء من نفس الكوة التي تسلل منها الإخوان المسلمون وسرقوا السلطة بانقلاب عسكري وبطشوا بأهل الصوفية والدين الشعبي...وجاءوا بدين المتطرفة والخوارج...فقال عنهم الطيب صالح:" من أين أتي هؤلاء؟". هذا، وقد ورد علي لسان محمود في "ضو البيت – الجزء الأول من بندر شاه" ...(ص 484 – الأعمال الكاملة):
"نحن ناس مسلمين...لكن ما عندنا تشدد في موضوع الدين...كل نفس بما كسبت...والله مخير في عباده".
إن شنوا أشيبي الذى رحل عن هذه الفانية بالأسبوع الماضي، والطيب صالح الذى سبقه بثلاث سنوات، عاشا حياة مليئة بالإبداع وحب الآخرين، وتركا وراءهما إرثاً لا يهرم و لا يفني عبر الزمن، نتزود منه حكمة ومعرفة، ونركن إليه بحثاً عن المتعة الوجدانية والروحية حينما يزعزعنا الدهر التماساً لتعسنا ونكسنا...فنتماسك ونقابل جور الزمان بالصمود ...فيالهما من ملهمين للخير في نفس الإنسان...و يا لهما من عملاقين خالدين.
والسلام.
الفاضل عباس محمد علي
EL FADIL Mohamed Ali [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.