نائب رئيس مجلس السيادة يلتقي رئيسة منظمة الطوارئ الإيطالية    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية توت قلواك: كباشي أطلع الرئيس سلفا كير ميارديت على استعداد الحكومة لتوقيع وثيقة إيصال المساعدات الإنسانية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ليالي الظلم الحالكة: الفُرّار يُحاكمون الكُرّار (1)
نشر في الراكوبة يوم 05 - 04 - 2013

أعتذر للقارئ الكريم على تعجلي نشر هذه المادة في شكل مقالات صحفية وذلك لارتباطها بالشأن الجاري – محاكمة الضباط الإصلاحيين في الجيش كما وصفهم أستاذ العلوم السياسية بجامعة كمبردج د.عبد الوهاب الأفندي- وهو تطور مؤسف ما كان لقيادة الحزب أن تعمد إليه إلا بعد أن أيقنت توهماً بأنها قامت بعملية اخضاع وتدجين كامل لعضوية الحزب التي باتت مغلوبة على أمرها، فوصل بها الهوان أمام قيادتها إلى أن يُقال لها (هذا هو الحزب ومن لا يعجبه الحال فعليه أن يذهب ويؤسس لنفسه حزباً آخر) وكأنهم ورثوا هذا الحزب عن الزبير حمد الملك أو محمد ابراهيم فرح أو بابو نمر أو ود اب سن وود ابجن، تعميماً للفائدة سيجد القارئ الكريم مزيداً من التفاصيل في الكتاب الذي هو تحت الطبع (مائة يوم من أجل الاصلاح) والذي يتناول مسيرة الأيام المائة التي انصرمت منذ فجر 21 نوفمبر الماضي وحتي مطلع مارس المنقضي.
الفصل الثالث
أصوات الإصلاح في الجيش
تعرضنا في الفصول السابقة لقضية تشتت الرؤية السياسية الجامعة لكيان الحزب والمشاكل التي خلقت حالة الاحتقان في المشهد السياسي الحالي وقلنا إن الأزمة الوطنية الماثلة ليست أزمة اقتصادية تتلخص في إعادة ضخ النفط وتثبيت سعر العملة لأنها وصفة خاطئة بكل المعايير فقد كانت في البلاد أموال أضعاف أضعاف ما نطلبه الآن (بحسب تقارير البنك الدولي وصندوق النقد، فقد دخلت الميزانية العامة لحكومة السودان حوالي سبعين مليار دولار في فترة الثلاثة عشر عاماً التي شهدت تصدير النفط من ميناء بشائر جنوب بورتسودان، ويطالب مفاوضو الحكومة السودانية الآن في أديس أبابا بمبلغ عشرة مليار دولار عاجلة يقولون إنها لآزمة لإعادة إنتشال الإقتصاد الوطني السوداني من الوهدة التي وقع فيها الآن). إذاً الأزمة التي نعاني منها الآن هي أزمة سياسية تختص بمكون "العقل السياسي" أي الفكري السياسي، وهذا هو المدخل الأساسي واللآزم لأي معالجة تتجه لتشريح الوضع الراهن بغرض الخروج بوصفة صحيحة تنقذ البلاد، أو تقصد إلى التعاطي مع ما أسميناه "أزمة الرؤية" وفي الحقيقة هو إنعدامها لدى الطرف الحاكم والمعارض، وغير خافي أن هذا هو الشئ الذي انتهي بنا إلى حالة البؤس والذبول التي يعاني منها الوطن في كافة مناحي الحياة. إلا أن الذي يعنينا اليوم هو البحث في جذور ومحركات الأحداث التي كونت واقع المشهد السياسي الماثل، وكيف وصلت قضية انعدام الرؤية الرشيدة داخل العقل المتحكم إلى أن تقودنا إلى سلسلة أزمات من طابع بركاني يتحرك ويعتمل في باطن الأرض ولا يعلم مدى وتوقيت انفجاره إلا الله عز وجل، فتصارعت مع جذع الشجرة التي تستند إليها وإلى جذورها المتدلية هي منها.
في هذا الفصل نحاول الدخول إلى منطقة يحب المتحكمون تعتيمها وجعلها حكراً عليهم وبغرض مناقشة التفجير السالب الأهم في المائة يوم الماضية وهو ما قامت به قيادة الحزب في قضية الضباط الإصلاحيين في الجيش، وهذه القضية عوضاً عن أنها شغلت الرأي العام باعتبارها كان من الممكن أن توفر معبراً آمنا لإنتقال ديمقراطي سلس - إن نجحت وصدق هؤلاء الضباط في اطروحاتهم التي تداولوها في تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة- إلا انها أيضا تدعونا للنظر والتدقيق فيها بأكثر من جانب لما لذلك من مدلول على مثار الأحداث من بعد: فأولاً في التوقيت الذي اختارته "قيادة الحزب السياسية والتنظيمية" لهذه القضية وهل صحيح أنهم كانوا على أهبة التحرك(1)؟؟ ثانياً دلالة المكان الذي وقعت فيه وهو مؤسسة القوات المسلحة وذلك في أعقاب تكسير أجنحة الإصلاحيين من منتسبي الحركة الإسلامية من الجيل الجديد في مؤتمرها الأخير، والجيش بظنهم هو المؤسسة الوحيدة التي تبقت ويمكنها اجهاض مشروع تسنم السلطة من قبل هذه العصبة المتحكمة التي تضرب بأطنابها على الحزب والدولة والوطن، ثم يجب التملّي وإمعان النظر ثالثاً في الطريقة التي تم بها تفجير هذه القضية، ولكل من ذلك دلالته وخطوط اتصاله وتشابكه بالماضي والحاضر وربما المستقبل الذي نؤمن بأنه خط زمني متوهم وكما يقول سارتر (المستقبل هو ما نصنع اليوم). ولعل الذين ارتكبوا تلك الجناية الوطنية الكبرى في حق البلاد والجيش والحزب وحق أنفسهم بتوقيفهم هؤلاء النفر الكرام الذين ضحوا بكل شئ ... وقت وعرق ودماء وما بخلو على بلادهم وأفكارهم التي آمنوا بها وجادوا بما هو أكثر مما تحتمله طاقة البشر، لعلهم لم ينشغلوا بمثل هذه الحسابات بل كان كل همهم هو استعراض العضلات ذات الطبيعة البالونية والقضاء على مراكز المقاومة المحتملة لإنفاذ مشروعهم السلطوي ذلك مهما كلف الثمن أو أدى لنتائج حتى لو هدم المعبد من فوق رؤوس الجميع بما فيهم هم أنفسهم داخله على الطريقة الشمسونية وربما كان هذا مرده نتاج مباشر لسكرة السلطة وشهوة المُلك التي تُزينها بطانة السوء وحاشية الفساد المتحلقة من حولهم والمنصرفة إلى ارضاء النزوات والشهوات لا تقدر تاريخاً لأحد ولا سابقة فضل لكائن من كان حتى وإن كان من ينام على تأمينها ويطعمها بيديه، وصدق عز من قائل ( إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور).
مدلول التوقيت:
كما نقلنا في مقدمة الكتاب مقال بروفيسر الطيب زين العابدين فإن شهر نوفمبر مثّل خلاصة ذنوب وخطايا الإنقاذ حيث شهد تبعات ضربة مصنع اليرموك بواسطة طيران العدو الإسرائيلي، كذلك تداعيات مرض الرئيس وسفره وعودته إلى الخرطوم، إنعقاد مؤتمر الحركة الإسلامية والمفاصلة الصامتة بين إنتصار متوهم للعناصر التحكمية وخيبة أمل وإحباط لجماهير العضوية التي تدعو للإصلاح والتي جرى تزويرإرادتها بصورة قاطعة وفجة، استمرار تعثر السلام مع دولة الجنوب، ثم كانت المفاجئة الكبرى هي إعلان السلطات الرسمية توقيفها لعدد من ضباط الجيش بما تقول إنهم يخططون للإنقضاض على السلطة. من هذا السرد يتضح أن التوقيت ليس معزولاً عن السياق الوطني العام لمجريات الأحداث في الساحة الوطنية في داخل الحزب أو خارج أسواره. قياساً بالتراكمات التي خلّفتها مسيرة الثلاثة والعشرين عاماً الماضية خاصة التداعيات المُرّة لإنفصال الجنوب والطريقة التي جرى بها ذلك الإنفصال إبتدأ من معاملتهم لرئيس الدولة في احتفال الإنفصال وإنتهاءً بتحويلنا من مالك حق أصيل إلى محض كائن مذعور تتسلل الأوراق من يده ثم يضحى متسولاً في موائد اللئام من وسطاء يُتوهم حياديتهم إلى أرباب النظام الدولي القساة القلوب الغلاظ في التعامل الذين لا يعرفون غير لغة القوة للنقاش ولا المصلحة والحساب بالأرقام لما يريدونه، كذلك الحديث عن الفساد والذي بلغ حداً لا يمكن السكوت عليه مع شيوع مظاهره بطريقة لا يمكن نكرانها أو التستر عليها في ظل، وذلك بما تقول به وثائق المراجع العام وتشير إليه بصورة يومية مظاهر نمو طبقة طفيلية مرتبطة بأطراف الحكم، مع نفي رسمي قاطع من قمة قيادة الدولة أن يكون هناك فساد رغم الدلائل الدامغة وذلك شئ محير!! بالإضافة إلى بعض القضايا الداخلية التنظيمية التي تهم القوات المسلحة كمؤسسة قومية يجهلها الكثيرون وربما ليس من اللائق مناقشتها في الهواء. وكل تلك الأشياء تتصل بطريقة مباشرة بسوء الإدارة وتردي الأوضاع الذي أشرنا إليه في الفصول السابقة من هذا الكتاب بطريقة مفصّلة خاصة في المجال السياسي الحزبي الذي هو ليس ببعيد عن اهتمام كثير من أبناء الجيش الذين لم يكونوا ولا ينبغي لهم أن يكونوا يوماً في جزيرة معزولة عن بقية المكونات الوطنية والاجتماعية في الساحة العامة. فضلاً عن سابقتهم في التزامهم بالفكر وفدائهم للمنهج.
الأسلوب والطريقة:
الأسلوب مرتبط بصورة مباشرة بما ذكرناه في السابق عن التوقيت والسياق الذي جرت به الأحداث وهو أيضاً متصل بما ذكرناه من حالة الإنكفاء التي باتت طابعاً سلبياً مُميزاً لعضوية الحركة في القطاعات المختلفة كنوع من "العصيان المدني" الصامت أو شكل من "العناد الخفي" الذي تواجه به التسلط والتحكم الذي تقوم به بعض العناصر المحسوبة على أطراف في القيادة وتفرض بذلك سطوتها على البقية. ومن أجل فرض حالة من الانضباط المزيف وإخراس الأصوات الناقدة واسكات الناقمين على الأوضاع كان لابد من إحداث تفجير مدوّي له صدىَ يصمّ الآذان وينشر حالة من الرهبة والرعب بدعوى متوهمة أن الأمور ستعود إلى سيطرتهم وزمام المبادرة سيرجع إلى أكفهم، وفق القاعدة القديمة (لا صوت يعلو على صوت المعركة) فقامت الاولجكارية التحكمية بما توهمت أنه اصطياد عدة عصافير بحجر واحد في ظنها أولاً أنها تقوم بإخراس الإصلاحيين في الحركة بصورة عامة الذين رفضوا الطريقة التي جرى بها تزوير إرادتهم في مؤتمر الحركة الأخير، ثانياً تقمع كل أصوات الإعتراض في الجيش على خلافتها للبشير وذلك لأنها في ضربها لمن يظنهم الناس عناصرها الصلبة وكتلتها المتماسكة ستبطش بكل من ينبس ببنت شفاه إذا اعترض طريق أي شخص جديد ستقدمه هذه العصبة، ثالثاً وهذا مربط الفرس هذه المجموعة المراد توقيفها يتركز فيها الثقل النوعي لمجموعات المطالبة بالإصلاح في القوات المسلحة والتي طلبت من الرئيس بصورة واضحة وكتابة أن يفصل بين الحزب وجهاز الدولة (راجع مذكرة الجيش منشورة ضمن الملاحق اكتوبر 2010م) بمعنى أن يحرم هذه المجموعة من أهم ميزة تستند عليها وتغري بها الناس وهي سند السلطة وكما هو معروف فإن الحزب بصورته الحالية لا مقام تفضيلي له في النادي السياسي السوداني إذا انقطع منه ثدي الدولة التي ترضعه عسلاً ولبناً وتحرم الآخرين منه، وبهذه المطالبة تفقد هذه المجموعة أداة الإغراء والضغط الوحيدة التي تلّوح بها في وجه خصومها داخل الحزب أو خارجه، فلا هي تنتج أفكاراً ولا تقدم نموذجاً يُحتذي ولا تشغل نفسها بكل هذا بل يكفيها السيطرة على جهاز الدولة والمال (سيف المعزّ وذهبه) وتصفية العناصر الإصلاحية أو المناوئة ومن ثم الإنفراد بالأمر في ظل تغييب القيادة الشرعية، رابعاً هذا هو منتهى وعيها وفهمها وسقف ادراكها للعمل في السياسة لغة المؤامرة وقرع طبول الحالات الاستثنائية ولا صوت يعلو على صوت المعركة كما ذكرنا وهذا ليس بجديد فهي لم تتعود ولا تعرف كيف تبسط سلطانها وتحكم البلاد إلا بهذه الطريقة الظلالية (الحكم من الظل)، وتجد في فرض الأحكام العرفية هذه الظروف المثالية لممارسة كل نزواتها في التسيّد ونزعاتها في التسلط، لذلك جاء لها هذا السياق كما في المثل السوداني "وقيعة عين"، وأخيراً وهذا هو العنصر الضاغط أن هذه المجموعة تواثقت – مطلع نوفمبر قبل أيام وقتها- أن ترفض أي من الشخصين المتسابقين والمتصارعين على الرئاسة بين نواب الرئيس الذين كانوا يسعون إلى استقطاب الضباط خاصة الكبار منهم وسنعرض لهذا الكلام في هذا الفصل بشئ من التفاصيل لعلها تنير للقارئ بعض الجوانب والخلفيات مما يجري في بلاده، كذلك يمكنها زج والتخلص من بعض عناصر القلق الكامن مثل مدير الأمن السابق رغم العداء المعروف والمشهور بينه وبين هؤلاء الضباط والذي وصل إلى درجة التأهب للقتال وتعبئة الدبابات (هذه الواقعة بالتفاصيل في الكتاب(1).
لكل هذه الأسباب والدوافع عمدت هذه العصبة المتنفذة للخروج إلى الساحة العامة بهذه الجولة وبتلك الطريقة بقصد نشر حالة من الهلع والتوعيد والترهيب وإعلاء الصوت بغرض اضفاء مؤثر فاعل يشيع الرهبة ويجعل الصورة أكثر قابلية للتصديق وكما هو معلوم فإن البرميل الأجوف يصدر صوتاً عالياً ولا يكون في ذلك دلالة أكثر من كونه برميل وربما كان صدئاً.
بدأت اللقاءات صبيحة يوم الخميس في دار المجاهدين بإمتداد الدرجة الثالثة بالخرطوم وقد جُوبه المتحدثون بما يشبه العاصفة من الرفض والنقد وشكك الكثيرون في الرواية الرسمية التي بدت غير متماسكة خاصة مع اعتمادها على كثير من التلفيق والأوصاف التي لا تنسجم مع سيّر "الرجال" الذين يعرفهم الناس ويعرف أخلاقهم (تخريب إغتيالات ...إلخ)، في مقارنة بين ما حدث للبعثيين في اجتماع قاعة الخلد الشهير في بغداد في تموز 1979م الذي أعدم صدام فيه عدداً من أعضاء هيئة القيادة اتهمهم بالتآمر كتب أحد قادة مذكرة الألف أخ الأستاذ أبو الفيض مختار على صفحة الانترنت (إنها جلسة للحزب الحاكم – حزب البعث- وقيادته القطرية وكوادرهم الرئيسية والقائدة للحزب والدولة.. أنظروا للرفاق متزلفى السلطان وهم يقولون فى رفاقهم أقسى الكلمات ويفوضون صدام بإنزال أقسى العقوبة بقتلهم ومحوهم من الوجود.. أنظروا إلى موقفهم وهم يقفون كلما وقف الرجل ويجلسون كلما جلس ويرتجفون ويهتفون باسمه ويختارون أنقى العبارات الزائفه يقدمونها قرباناً له هل تصدق أن هذا الاجتماع لقيادة الحزب والدولة وليس للعامة من الناس؟؟ حضرت التسجيل وأنا اقارن لقاء المجاهدين الحاشد مع الزبير ومحمد عطا عقب محاولة ود ابراهيم وتذكرت كلمات الرجال فى حق الرجال وحمدت الله أن جعلنى فى هذا الصف (الضكران)).
سبق ذلك اللقاء في الدفاع الشعبي تنوير بمباني جهاز الأمن للضباط في ذات الصباح كان المنسوبون أكثر هدوءاً لكن مع حالة من المعاندة الخفية للوقائع المسرودة، بادر ضابط برتبة عميد ابتدر الحديث ثم ثنّاها آخرون كُثر عن وجوب معاملة المعتقلين بكرامة واحترام تتناسب مع سبقهم وتاريخهم وربما تكون هذه أول مرة تقع في جهاز أمن في السودان. في القوات المسلحة كان الأمر أشد غرابة فقد قام بعض أعضاء هيئة القيادة بالتحضير لتنوير إلاّ أن الأمن الايجابي قرأ مؤشرات ما وقع في الدفاع الشعبي وجهاز الأمن وطالب أن يتم ترفيع مستوى التنويرات وتجزيئها وذلك بأن يقدم التنوير وزير الدفاع والذي لم يكن أقل حظاً في النقد من سابقيه، فلم تقم سوى تنويرات منعزلة متقطعة على غير ما جرى في العرف العسكري – مثلاً في ظروف مشابهة في أحداث الرابع من رمضان أو الثامن والعشرين من رمضان- وهو بجمع الضباط من كل الرتب في كل وحدة أو قطاع من قطاعات المناطق العاملة في الخدمة في نطاق القيادة المعنية ويتم مخاطبتها في تنوير عام وفي بعض الأحيان ينقل التلفزيون جزء من ذلك، إلا أن حالة الهياج والرفض العام منعت من كل ذلك فقد جُوبهت المسرحية برفض تام من القواعد وحالة من التصدي غير متحسب لها ورفض القوى الأكبر من القطاعات الشبابية والاجتماعية الركون أو الخضوع لهذا الابتزاز الذي بات واضحاً من قيادة كان البعض يظن بها الخير حتى ذلك الوقت قبل أن تكشف عن وجهها القبيح المتمثل في الكذب والتدليس فخرجت بمسرحية التسجيلات الصوتية وقام بعرضها السيد نائب رئيس الحزب لشئون السياسة والتنظيم برفقة مدير جهاز الأمن الذي نسي أنه يقود جهازاً قومياً وأن هذه التسجيلات إن صدقت محلها النيابة العسكرية وليس قاعات العرض السينمائي للصحفيين فطعن هؤلاء في قدسية المؤسسات التي يقودونها وفي تأهيلهم المجروح في قيادتها قبل أن يقوموا بغرس سكين الماثيدور في ثور كان يطعمهم ويحرسهم، وربما انطلى شيئ من تلك الحيل أو مثل هذه الروايات الفطيرة على بعض العناصر الرخوة من ضعاف النفوس والمنافقين ورثت ابن ابي سلول أو من أصحاب الغرض، ولكن يبقى بحق ويسجل للتاريخ أن حالة الرفض المطلق التي ظهرت جلياً في كل التنويرات والاجتماعات التي عقدت بغرض شرح تلك الرواية الأفاكة لاقت مقاومة ورفض عنيف من العضوية، فلم يعرف الناس عن هذه المجموعة من الشباب الا الإنضباط والإلتزام الخلقي والروحي والفكري ناهيك عن القانوني والأدبي، وتفاجأ الجميع وحق لهم، هل من الممكن أن يتحول محمد ابرهيم وفتح الرحيم والشيخ عثمان أو خالد أحمد المصطفى إلى مخربين وقتلة وسفاكي دماء ؟؟!! قام يوم الجمعة التالي للأحداث جهاز الأمن باصدار بيان وألزم الصحف بنشره بطريقة بارزة يقول فيه إنه يتعهد بأن الموقوفين يتلقون معاملة كريمة وأنهم بصحة جيدة وأن التحقيقات معهم تجري في ظروف احترام كامل، وغني عن القول أن نسجل أن هذه سابقة أيضاً تحدث لأول مرة من جهاز الأمن أن يخرج ببيان يُعلن فيه التزامه القاطع بمعاملة كريمة لمعتقلين بعينهم بعد ساعات من اعتقالهم بل كان يتم النقيض لذلك وهو نشر روايات في بعض الأحيان تكون مختلقة بواسطة أجهزة الدعاية التابعة للأمن الغرض منها ترهيب الذين لم يطالهم الإعتقال وقمعهم ولو معنوياً، ولكن السياق العام لردود الأفعال وسط قواعد الحزب والجيش والأجهزة النظامية إضطرهم إلى ذلك لامتصاص الغضب المتصاعد وهذا يكشف إلى درجة بعيدة حالة الإنكسار النفسي في الإحساس بعدم المشروعية لدى السجّان الذي كان يعلم أنه يفعل الخطأ ولكن يحاول التبرير له مرغماً بعد أن أجبر على اتخاذه دون وعي حقيقي أو تدبر كافٍ.
كان الأمر يبدو أقرب إلى الدراما الإغريقية أو مسرح اللامعقول الذي يُحكى عنه، فهؤلاء "الرجال" حتى في فترة الحرب والتي يكون الكل فيها في حالة فوضى ولا سلطان للناس أو على الناس إلا ضمائرهم ووازعهم الديني وأخلاقهم التي نشأوا عليها لم يسجل على أي منهم حالة نهب أو سلب لكوخ أو "قُطية" مواطن أو بهائمه أو أرض أو سيارات أو ممتلكات ..إلخ فكيف يتم إتهامهم بأنهم يخططون لتخريب المنشآت وتدمير العقارات وقتل الأنفس البريئة؟؟!! إذا كان هؤلاء يريدون الاستيلاء على السلطة بذات الطريقة التي أوصلت أخاهم عمر البشير فهذا في كل الأعراف والقواميس السياسية يسمى إنقلاب أو تغيير عسكري، ليس تخريب أو إغتيالات، فلماذا لا تكشف القيادة الحقيقة وتجليها للناس؟ ولماذا تعتمد الكذب والتضليل والدعاية السوداء؟
في المساء وفي المكتب القيادي للحزب ورغم رخاوة التأسيس والتحضير للتنوير (2) إلا أن الرفض كان قاطعاً، وقد عبّر عنه مسئول المنظمات في الحزب والقيادي المخضرم دكتور قطبي المهدي في تصريح صحفي (إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اتصالات في طورها الأولي) وقطبي الذي لا يمضغ الكلام ولا ينعوج له لسان وهو على خلاف مشهور مع بعض المعتقلين إلا أن تشكيكه في الرواية التحكمية بتلك الصورة يسجل له التاريخ تجرده من كل عاطفة سالبة، فالذي لم يقله وإن بان بين ثنايا عباراته أنه لا داعي لكل هذه الضجة فالموضوع أبسط مما يثار حوله.
إن العقل السياسي الذي خطط لمثل هذا البيان ليس جاهلاً ولا حديث عهد بمثل هذه القضايا فلماذا يعمد إلى تلوين الحقائق وتزييف الوقائع، وهذا اسمه الكذب والتضليل؟؟ من أبرز مظاهر الرفض هو ما سطره بيراعه العسكري الفذّ والقائد المحنك الفريق أول محمد محمود جامع رئيس أركان الجيش الأسبق الذي كتب ناصحاً للرئيس واصفاً هؤلاء النفر ب "الأبطال" وب "القادة" (الحقيقة التي لا مراء فيها أن الرجال الذين اتهمهم الناس هم أبطال الساحة بالأمس وهم الثقاة عن الرئيس، إن الخاسر الأكبر بفقد هؤلاء الرجال هو الرئيس البشير شخصياً، إن الرابط الأكبر هم أنهم قادة تحرير هجليج فبدلاً من أن تنصب لهم السرادق وتفرش لهم الورود وتملاً صدورهم بالأوسمة والنياشين يجازون الآن بطريقة سنمار) (صحيفة القوات المسلحة نوفمبر 2012م) هذا نموذج لقائد تحول إلى مقاعد الجمهور برتبة فريق أول عقدت الدهشة لسانه وعجز عقله عن أن يصدق أن أبناءه الذين تربو على يديه في مؤسسة القوات المسلحة العريقة يمكن أن تصل بهم الحال الى أن يُفعل بهم هذا، فسطر هذا الذي كتبه على صدر صحيفة "القوات المسلحة" الناطق الرسمي باسم الجيش وليس في أي مكان آخر.
اضطرت القيادة السياسية وبعقلها غير الراشد ذاك إلى ممارسة أشياء اقل ما توصف به أنها لا أخلاقية فكانت أن قامت مستندة إلى بعض الصحف التي جعلت من نفسها شققاً مفروشة بالعمد إلى الكذب والتضليل وإشانة السمعة فخرجت على الناس بمهزلة جديدة أقرب ما تكون إلى روايات شكسبير هذه المرة كان "بطلها فكي ودجاجة" ورؤية منامية سخر منها حتى الأطفال واليُفع:
وكم بذا مصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكاء
كتبت شيماء (مواليد 1995م) نجلة العقيد الموقوف محمد زاكي الدين تتسآءل بسخرية مريرة (لماذا لم تحدد لنا الحكومة نوع تلك الدجاجة وهل هي من دجاج كنتاكي ذو الخلطة المستوردة أم أنه من نوع دجاجي يلقط الحب الذي درسنا عنه في المدارس)
كتب كذلك الاستاذ صديق محمد عثمان المعلق السياسي المعروف من لندن (قابل الرأي العام بإستهجان شديد ما كشفته السلطات السودانية من معلومات قالت إنها إعترافات مصورة للمتهمين في المحاولة الإنقلابية التي أعلنت إحباطها الأسبوع الماضي، وتناولت صفحات المواقع الإجتماعية ومنابر الحوار والمجموعات البريدية النكات بشأن رواية الحكومة السودانية بشأن إعترافات المتهمين، فالسلطات – التي يبدو أنها في حالة تخبط مزرٍ- لم تحترم عقول المتلقين لروايتها الفطيرة التي لا تقف على ساقين إلا في مخيلة مديري الامن الحالي والأسبق اللذين تعاونا على عرض إعترافات المتهمين المزعومة على الصحفيين في لقاء سمي بالخاص، ولا أدري الخصوصية في اللقاء إذا كان تم بالصحفيين).
في الحلقة القادمة هؤلاء المعتقلين كما يعرفهم الناس..
(1) حدث خلاف مشهود بين اللواء صديق فضل والمهندس صلاح قوش في مكتب وزير الدفاع وبحضور الوزير يوم الثلاثاء 6/مايو/2008 وبحضور عدد من الضباط الكبار، وذلك بسبب رفض اللواء صديق جلوس صلاح قوش معهم على طاولة الاجتماع في هيئة معينة، وهدد بأنه ليس ملزماً بالبقاء بهذه الطريقة وللأمانة لم يشأ الوزير ارغام صديق، وتم له ما أراد. ولم يكن هذا بعيدا عما سارت فيه الأحداث بعد يومين من هذا الاجتماع حيث وجه صديق 40% فقط من قدرته القتالية إلى منطقة الكباري التي شهدت القتال واحتفظ ببقية جاهزيته تحسباً "لتطور داخلي قد يقع" وهذا ما ذكره الرئيس البشير للصحفي اسحاق فضل الله وسنعرض له في حينه بالتفاصيل.
(2) قيل لبعض أعضاء المكتب القيادي إن ود ابراهيم غضبان لأنه لم يُتحدث عنه بطريقة لائقة في تحرير هجليج، وهذا استخفاف بالعقول ورهشاشة في التفكير لمن أطلق مثل هذه السماجة المقززة مما يدعو للإشمئزاز.
عبد الغني أحمد إدريس
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.