الوقت ليس بالقليل ظلت قنوات الأخبار مُسهدة تصوب عدساتها بقلق، لمواكبة تداعيات الاستقالة المدوية لبابا الفاتيكان،كطامة أخرى في مسار الكنيسة الكاثوليكية العاثر ،العاصف بسلسلة الفضائح الأخلاقية والمالية المنتنة، التي ظلت تفوح من عمق الدهاليز الكهنوتية.وهكذا فقد أشتد النخر على متن ذاك الكيان الديني (المهيب)، سيما بعد تعثر المهام الإصلاحية التي حاول البابا الاضطلاع بها مع زمرة من الحادبين.لكن الأمر قد انتهى بالبابا، كما وصفته الصحيفة الناطقة باسم الفاتيكان، (راعياً وحيداً تحاصره الذئاب) وتنوشه بلا هوادة.فلا يشفع له حينها كدحه المعرفي واجتهاداته الفكرية اللاهوتية، وكتاباته ومواعظه الرصينة.فطغمة المتنفذين الفاسدين المتضررين من برنامجه الاصلاحي، وحملته على الفساد ، قد دقت لذلك ناقوس الخطر فاجتمعت بليل في الأكليروس الكنسي العتيد ، ومكرت واستقوت على البابا حتى دفعته للاستقالة، متعللاً بالعجز والمرض.ولم تكتف بذلك بل ظلت تمارس ضغوطها الخبيثة على مجمع الكرادلة، الذي سينتخب البابا المقبل لتأمين المستقبل. لا جديد رغم هول ما حدث ! فبطون كتب التاريخ تقول بأن ذلك لا يعدو أن يكون محض نموذج مكرر يُعرض على العالم عبر الحقب.وبعض من أمثلة أخر ى واضحة فاضحة على الطغيان السلطوي باسم الدين،ومن وراء أستار القداسة المزعومة.فهكذا يمضي أصحاب الرتب العليا، بما حصدوا من نفوذ وسلطة، لاستغلال الدعوة للفضيلة لممارسة الوصاية العلنية على الفضاء المجتمعي العام،بينما يتنادوا سراً للتكالب الضاري الذي لا يُلجم شرهه الدنيوي ، على الاستثمار المربح باسم المقدس.وتسخيره بدهاء لخدمة شهواتهم السلطوية المتزايدة المتمادية بلا اخر، تغذيها المطامع والأهواء الشخصية ،والتوله برخاء الامتيازات والافضليات ،والتربح والحرص على المغانم، ولو على حساب جوهر الدين وروحانيته وقداسته. أوليست هي ذات الشروخ الغائرة التي تمددت وتشعبت واتسعت في الفاتيكان ؟! فلم تراع حرمة الشيخ الطاعن في السن، أو حتى الأطفال والقصر الذين التجأوا واستجاروا بحمى الكنيسة (الآمن الحصين) ،فطالهم الأذى الجسدي والمعنوي الفاجع الجارح ، من لدن الذين نصبوا أنفسهم كأوصياء على حمى الفضيلة، ومن الأولياء القابضين على دفة إدارة المعتقد الديني.حتى أن البابا بنديكتوس لم يجد عندها سوى أن يجأر بشكواه المريرة من الذين حولوا التفوق الروحي والقيمي والحضاري للدين، إلى محض خديعة و(عادة شكلية سطحية ) لا تمس الجوهر.وليدعو من فوق منبره إلى ضرورة إعادة اكتشاف جوهر الايمان.ثم يمضي البابا ليقف في دبلن 2012 أمام جمهور المؤتمر العالمي للتراث الديني أسيفاً كسيفاً ليدين ما جنته أيدي (أولئك الذين قوضوا مصداقية رسالة الكنيسة). ولكن هل يرتدع أصحاب المطامع والمكاسب؟ ممن نزلوا بمسوح الدين إلى أسواق السياسة، وساحات التجارة،وانخرطوا في ممارسات ربحية محترفة، طلباً للمزيد من الجاه والنفوذ والسلطة،بعد الحرص على التوشح بعباءات القداسة، ولبس الدين كدرع واق.ومن ثم التواصي فيما بينهم على إشهار سلاح( التخوين) المجرب النافذ، واتهام الآخر الباحث عن الحقيقة بالضلال ومعاداة الدين، بل والتجديف والكفر .وياله من سلاح فاعل ناجع في إرباك العقول والاطباق على الحناجر والاقلام.ولا ينسوا بالطبع تحريك آلة الدعاية الديماغوغية الضخمة، لتحشيد العوام ، بالتجييش الماكر للعاطفة الدينية.فيتساقط اثر ذلك الكيد الحبيك أهل الإصلاح صرعى تحت وابل تلك الأسلحة الهائلة القاهرة.فها هو الشيخ الفاتيكاني يتهالك مقهوراً تحت وطأة حصار ماكيافيلي مُحكم ،ودسائس وحملات تشويه منظمة، وصولات ضغط شرسة لا ترحم،حملته بعد أشهر قليلة من تصريحه ذاك،ليعلن تنحيه مسوغاً ومبرراً الأمر الجلل بالضعف والمرض، وعدم القدرة على تأدية مهام رسالته. ولا جديد كما أسلفنا ،قرصنة كهنوتية محترفة، توثقت حلقاتها وخبراتها الوطيدة عبر العصور، منذ القرون الحالكة ،مروراً محاكم التفتيش، والجندية الجبرية وإزهاق الأرواح في سعير محارق الحروب الدينية. وهو نذر يسير مما تفحصه أهل المعرفة والتدوين،ومنهم الكواكبي الذي وقف في (طبائع الاستبداد) عند تسخير الديني والغيبي والروحي لخدمة الاطماع الذاتية،اذ يكتب في باب الاستبداد باسم المقدس (ما من مستبد سلطوي إلا واتخذ صفة قداسة يطال بها مقام الاستعانة ببطانة منتفعة تماليه في ظلم الناس باسم الدين).ليبذل الكواكبي الأمثلة عن الكيفية التي تعمل بها تلك الطغمة الفاسدة،وايدلوجيتها الراسخة للإرباك وقلب الحقائق في الأذهان،ليعلو في تلك البيئة المريضة قدر الطامع المتصاغر المتملق.بينما يتحول طالب الحق الحصيف المدقق إلى معتد آثم وملحد خارج.فينشغل الناس بحابل ونابل ، بينما يتفرغ أهل السلطة لحصد المغانم، والتفاوت في الثروات،من وراء مسوح التدين والنزاهة والعصمة.والعمل على تفصيل الرتب السلطوية والكهنوتية بمسميات روحانية سابغة صابغة،تستطيع ان تتغمد كل ذلك الشره والضلال والشهوات البدائية الجامحة، التي لا تدرك شبعاً أو إرتواء.بل تحرص على ديمومة النفوذ السلطوي،ولو اريقت كل الدماء، باسم ملكوت السماء. ويمضي الكواكبي ليقرر أن ذلك مجتمعاً هو أس الإفساد والانهيار القيمي والخروج عن السوية،و الإنحطاط التاريخي والاستفال الحضاري.وهو عين ما صدح به البابا، قبل أسابيع قليلة ، وهو يتحدث عن (المياه المضطربة) التي تبحر فيها السفينة الكنسية، ويتضرع للمولى أن يجنبها الغرق.وما أشبهها بسفن أخرى (مباركة) ترجو النجاة ومخازنها السفلية طافحة بمغانم النهب والدجل والفساد .اما طاقمها المتكالب المتصارع فهو لا يكف، في غمرة هذيانه، عن دعاوى احتكار الحقيقة ،والفوقية القيمية والمعرفية،ومنجز النهضة والنجاعة الحضارية.ومن خلفهم تلك الشبكة الانتفاعية بتشعباتها المديدة المتينة ،وبزمرة العلماء العارفة بفنون الحياكة، ونسج كل ما قد ينسدل ليستر ذلك الجدث الهرئ،وليتفرغوا من بعد لحشد التخريجات المحبوكة ،التي توفر السند الفقهي لشرعنة تلك الأغراض والطموحات السلطوية. ويمضي الأمر متواتراً ليعيد نفسه حيناً بعد حين، بتفاصيل وحيثيات أخرى لذات الحكاية القديمة المتجددة.فهاهي الديوك المتواعظة لا تكاد تكف عن الصياح على ذات خرائب القيم التي هدمتها.دون أن يغشاها طائف من حياء، وهي تعلك على الملأ تعريفاتها الرخيمة الفخيمة للفضيلة والزهد،دون أن تحفل بتقديم مثال مفرد لذلك،ناهيك عن بذل قدوة ،أو تأسيس نموذج حضاري إنساني كوني تتداعى لوهجه الأمم. فإلى متى يا ترى يهدر بها الكواكبي ورفاقه ( هي صرخة في واد،إن ذهبت مع الريح،لقد تذهب غداً بالأوتاد). و يتجرعها جاليليو كأس زعاف، وهو يمضي غير هياب لفضح الاستغلال والاستغفال والزيف الكهنوتي ، رافعاً صوته: (لسنا مركز الكون، أن الأرض تدور) ! لمياء شمت [email protected]