كلما أنتويت السفر الى السودان ومهما تكن المدة التي أعتزم قضاءها هناك ، فانني كنت أتهيب كثيرا لحظة الوداع حتى و قبل أن تطأ قدماى أرض الوطن العزيز ! لذا فأنني أهرب منها بشتى السبل ! فلا أقوى على عناق الوالدة وهي تسكب عصارة حبها دعوات من حنية قلبها التي تعجز حيالها كل ادعاءات الشاعرية وسنوات معاقرة الحرف الطويلة ، فتتحول داخلي الى صمت خانق يتمدد جمرة لاعبرة فحسب تسد الحلق فأصبح أميا تجاه فلسفة الوالدة الفطرية ، وهي تضمني اليها مودعة .. والكلمات تتقطع في مشوار صوتها المتهدج ..لترسم لحنا لم أسمعه الا من بين أنفاسها العذبة وحدها .. يا ولدي .. ( أودعتك رب الوحي الذي لا ينمحي ) هل أبكي وقد أصبح الأبناء والبنات في مراحل من عمرهم المديد باذن الله تتطلب النظرة في أعينهم الوجلى في تلك اللحظة القاسية صبرا تضيق به مساحة الضلوع ! وهم لا يعلمون ، انني لا زلت طفلا ..لم يغادر حجر والدته رغم الفضاءات الفاصلة ! الان كم أشتاق حقيقة لانكسارة الوداع وان كانت مرة .. مثلما أشتهي قبلات اللقيا.. وقد طال الفراق عن الوالدة وشريكة الحياة التي قاسمتني ردحا من زمان صعب بين طيات سحاب المهجر وقد بنينا لعصافيرنا عشا من عيدان الاصرار وأهداب العيون ، وهاهم الان بيني وبينهم سنوات وصحاري ! آه يا أمي .. وقد أمتد بي الشوق حريقا يشق الفؤاد ويندلق بركانا يسبقني الى سكة الرحلة .. يعتصر خيالات العودة العصية على الخطى المغروسة في رمال العثرات المتحركة ! وآه.. من جراحات تلك الأجنحة التي قصقصتها ظروف الحاجة الى دفء الصددر البديل ، فاستكانت مهيضة عن كره واجبار ، لا رضى وبطر ! كم هم الذين غابوا مثلي وغرقت مراكبهم عند شواطي الشتات واشتعلت أشرعة مقدرتهم على الابحار وباتت رمادا يعبيء العيون الدامعة بسواد الحسرة! كم أشتاق اليك ياأمي .. ويا وطني .. ويا رائحة أهلي التي هي من عبق التراب الذي قويت من طينتة بنيتنا التي ساقتها الرياح بعيدا وأنحنت مهزومة أمام شقاء البعاد القسري ! هل نحن أحرار في تحديد مدة هجرتنا ؟ سؤال يؤرق حتى الأجابة التي تقول متسائلة..! وهل سنكون أحرارا في وطننا المسلوب اذا ما عدنا الان ؟ *** قد أبدو حرا لكنّي.. مكتوف بهمومي وحنيني .. اسئلة تسحق تفكيري.. وشكوكي تفترس يقيني.. حلمي بالشاطي سندان.. والموج مطارق يثنيني.. احترقت سفني وأجنحتي.. وأنظر مينائي يناديني .. أسخر من قدري يصفعني.. ابتلع ضحكاتي وأنيني.. لساني يتدلى يشقيني .. ظمآن لضفاف ترويني .. أرقص على صخب الذكرى.. جمرات كلماتي ولحوني.. لا أسمع الا زفرات .. تلهب أنفاسي تكويني.. قد أبدو حرا لكني.. مصلوب في قيد يدميني.. **** ..مع أمنياتي من خلف قتامة الحزن الكثيفة..للجميع بدوام الفرح.. في وطن الغد الذي نحلم بأن يسع الجميع ، ويلم شعث أبنائه تحت أجنحته التي سيفردها في سماوات الحرية التي نراها في متناول الأكف.. ويراها الغافلون بعيدة على طيور التغيير التي ستتفرخ من بيضة الأمل الذي لم ولن يموت فينا أبدا ! وسامحونا .. محمد عبد الله برقاوي.. [email protected]