خرج المستعمر الإنجليزي من هذا البلد قبل حوالي ستة عقود من الزمان، و كما نعلم ترك فيه أفضل أساسيات البنية التحتية ومقومات الخدمة المدنية. وتبقت مسألة الدستور ومشكلة الجنوب ومعضلة التنمية، وكلها تحديات كان من الواجب تجاوزها لإنشاء دولة قوية. فربما لو أتيحت مثل هذه الظروف لشعب آخر، تقوده نخبة سياسية أخرى لأستطاع تجاوز هذه المعوقات ونهض ببلده لتصبح من الدول الكبرى، كجنوب أفريقيا مثلا. فلم نحافظ على وطننا ونسير به إلى الأمام، بل تأخرنا ورجعنا للوراء. ومن السخافة والسذاجة أننا علقنا تحديات إنشائنا لدولتنا، وفشلنا في كل مرة في النهوض على شماعة المستعمر الأجنبي، وكأننا كنا ننتظر منه أن يسلمنا وطنا ليس به مشاكل وتحديات وطنية البتة. فليس هناك في التاريخ الحاضر والمعاصر بلد لا يواجه معوقات. فالتحديات الوطنية تهم أهل البلد ولا تهم المستعمر في شئ، و هو واجب النخب السياسية (الوطنية) حلها. المهم، غار الغريب وأعتقدنا أننا أصبحنا أمة حرة. و لكن ما لبثنا إلا أننا تفاجئنا برزوحنا تحت نوع آخر من الإستعمار. إنه الإستعمار الوطني، أو المحلي. إستعمار شرذمة من بني جلدتنا على الآخرين من أفراد الشعب. هؤلاء لم يراعوا لشرف الإستقلال، وخانوا أمة السودان التي أصبحت حرة من الإستعمار الأجنبي، فتغولوا على حرية الآخرين بإعتقادهم أنهم الأفضل من غيرهم في قيادة هذا البلد العظيم وشعبه. للأسف كان معظم هؤلاء من النخب السياسية الميكافيلية غير الوطنية الخالصة، والتي تنظر لتحالفات واجندة خارجية. فلم تنتظر حتى تأتي للسلطة ديمقراطيا بل إستعانت بالعسكر لتضمن لهم السيطرة المطلقة و المحكمة على العباد والبلاد. وآخر إستعمار وطني، وهو الأطول، ونشهده لربع قرن من الزمان هو إستعمارنا بواسطة حزب الجبهة الإسلامية (الكيزان) والذي تحور إلى المؤتمر الوطني. فالمؤتمر الوطني هو نموذج مثالي للمستعمر الوطني. فالإستعمار معناه الاستيلاء على بلد سياسيا واقتصاديا وإخضاعه بالقوة بواسطة فئة معينة، وشل إرادته السياسية لتنفيذ أفكار و أجندات (لا يتفق عليها أهل البلد)، ولكن تروق لتلك الفئة فقط، لتريهم إلا ما يروا. ومن ثم لنهب الثروات وفرض سلطات، لمزيد من التحكم والتمكن في مفاصل الدولة، مما يتعطل بذلك إمكانات النمو وحرية التفكير والإبداع. وهذا حدث بالضبط منذ بدء الإنقلابات الشمولية والديكتاتورية التي سطت على السلطة الديمقراطية. فخطفت البلاد وتم إخضاعها بالقوة لحكم الغصب والإستبداد. وكانت النتيجة أن أتخذت القوات الأمنية، والشرطية، وحتى الجيش لحماية تلك الأنظمة الشمولية. فتصرف أكثر من نصف موازنة الدولة، للكبت والقمع وتكميم الأفواه والفكر، والطبالين والأرزقية، لتكسير الثلج، وقطع رقاب الحقائق، والنوم النوم المغناطيسي. ومن ثم يقوم المستعمر الوطني بتفصيل نظام ديمقراطي بمزاجه وعلى مقاسه، وخج الإنتخابات كما يخج البيبسي. بذلك تكون إرادة الاختيار السياسي مشلولة تماما. و إرادة الإختيار السياسي بالإنتخابات، لا تعنى أنها ستأتي بالأصلح من تلقاء نفسها، لكن المهم أنها تتيح مناخ الحرية السياسية، و التجربة والخطأ، والآلية السليمة التي تمنح تداول السلطة سلميا و التي يمكن ان يتفق عليها الجميع إذا تمت بنزاهة وشفافية بالتأكيد. وهذا لم يحدث ابدا لأجل فئة معينة إرتأت أنها أفضل السودانيين ولنهب السودان من جديد بطريقة إنتخابات تتيح تصفير العداد كل مرة، والتي يعتقد المعتوهون منهم أن الناس ستظل نيام إلى يوم ينفخ في الصور. فهذا هو الإستعمار الوطني في أبشع صوره و بكل ما تعنيه الكلمة من شعور بالقهر والعجز السياسى. ثمة فارق جوهري هو أن الإستعمار الأجنبي من بين مشروعاته البناء والإعمار، والتي يأتي منها أصل الكلمة، لأن الفكرة هى إقامة مستوطنات خارج حدود الدولة الغازية، تكون امتدادًا لها فى نفس الوقت ويستطيعون فيها الإقامة وإتخاذه بلدا ثاني. ولكن في الإستعمار الوطني يأتي العكس. المستعمرون الوطنيون يتمتعون بأنانية مفرطة وإستئثار كل موار الدولة لهم. هؤلاء المستعمرين بلا ثقافة تهذبهم من الشهوة المتوحشة للثروة، والتي يغلفونها بالدين. لا يهتمون بالإعمار، ولكن ينهبون ثروات البلد ليقيموا بها مستوطنات وقصور ومشاريع خارج الدولة تمكنهم من الفرار وكب الزوغة فيما بعد. وبهذا هدم وحرق وأشاعة الفساد فى البلاد لإحتكار مراكز القرار، وتمكين أفرادهم لدوام إستعمارهم فيتواصل الإنحطاط الوطني. هؤلاء المنحطون الوطنيون، حرامية وطن، يملكون ثروات متوحشة، وعقولا فارغة، وأرواحًا معتمة. أتحدث عن أغلب أغنياء الاستعمار الوطني. فهم يشبهون أغنياء الحرب الذين كانوا مسخرة الصحافة بعد الحرب العالمية الثانية. جمعوا ثروات من التجارة فى مخلفات الحروب وانتقلوا بسببها من خانات الفقراء إلى الأثرياء. وسنحتاج إلى بحوث في المستقبل طويلة جدا عن حركة المال فى عصر الاستعمار الوطنى. فلم تحدث في البلد نقلات لا فى الوعي ولا الثقافة ولا الذوق. أغنياء الاستعمار الوطني هم نتاج حروب نظامهم غير الشرعي على الشعب السوداني بأجمع. فلم تكن لهم حروب يوما على الجبهات الخارجية بل قبلوا على الشعب كجبهة داخلية. فوجهوا مدرعاتهم لتجثم فوق صدور الشعب. وكان قرار الحرب على الداخل باب السعد والثروة لجيل جديد من أغنياء الحرب برعوا في جمع ثرواتهم من تجارة الموت، موت البلد والناس، وكل الأحلام الكبيرة فى دولة قوية. هؤلاء المنحطون الوطنيون سبب حالة النستوليجا الدائمة، أو الحنين إلى الماضي والحسرة والندم والبكاء والعويل على الإستعمار الأصلي بإعتباره رمز زمن السعادة حيث البناء والنهضة. فكانت الخرطوم من أجمل المدن في العالم بحيث تمنى أحد الرؤساء الخليجيين أن تصبح عاصمة بلاده مثلها. حنين لكان المستعمر الأجنبي، وكان أبي. حنين بدون وعي، لا يرى التفاصيل ولا يدقق فى ملامح الصورة. لا يرى الحفاء والجوع والتشرد والمرض والفقر والذل والقهر والقمع من المستعمر الوطني. حنين يحتفل بذكرى سعيدة في مناسبة حداد كذكرى مأتم سنوية لعزيز إنتقل. حنين لا يهتم بالعبر والدروس، لكنه ينجذب إلى زمن بعيد عن كوارث ومآسي الواقع الذى نعيشه ويخاف ويُحذر من المجهول الذى ينتظرنا، ولكنه يحتفل!. الآن نحن أمام وصول الجيل الثالث للمستعمر الوطني، والذي يجب أن لا ننسى أنهم أساسا بعض العسكر الذين وراءهم الإسلاميون. فقد أثبتوا بسنين إستعمارهم المؤبد التي مضت إنهم بلا مشروع، ليسوا رأسمالية ولا وطنية، بل مصنع للديكتاتورية والدراكولات مصاصى الدماء الذين يديرون كل شىء لحساباتهم الخاصة، بؤرة يشع منها فساد السنين. إنهم شىء محير فعلا. فلا زلنا مستعمرين للأسف من قبلهم. والبلد ما تزال مفتوحة أمام جحافل تجار الدين الذين يريدون مواصة الإستعمار بوجوه جديدة و بما لا يخالف شرع الله. ولكن تبقى كثرة الإستعمار بتعلم الإستحمار. ولذا، إذا الشعب يوما أراد الحياة، سيتغابى حينها أشد الغباء، والويل يومئذٍ لكل مستعمر وطني. [email protected]