الخرطوم، المدينة الحلم، التي لا نذهب إليها نحن أهل الأقاليم، الا ل( الشديد القوي).نفخر حين يأتي ألينا أهلها، وينتشر الخبر في الناحية: - ناس فلان معاهم ضيوف من الخرطوم ويأتي من يأتي، للترحيب والفرجة معا. نتعجب من سلوكهم المتحرر، الذي لم نألفه، والذي يثير امتعاض البعض، ظاهريا، وفي السرائر ما فيها. أول مرة أسافر إلى الخرطوم, في بداية الخمسينات من القرن الماضي, مكافأة لي على نجاحي في الدخول إلى المدرسة الوسطى, وما أدراك ما الدخول إلى المدرسة الوسطى في ذلك الزمان. طلب والدي من جارنا، العم (السيد عمر)، رحمهما الله, أن يصطحبني معه، وهو رجل كثير الأسفار إلى الخرطوم، بحكم عمله التجاري.كانت فرحتي لاتضاهيها فرحة, ونظرات الحسد من أقراني، تتابعني وأنا أحمل شنطة الصفيح، المزركشة بالزهور، وبداخلها ملابسي القليلة, ممسكا بيد العم ( السيد)، حتى وصلنا إلى موقف الشاحنات. كانت مطيتنا شاحنة موز، مالكها وسائقها عمنا (عثمان بشير). ركبت بالخلف أعلى شحنة الموز، بصحبة مساعد اللوري. وبدأنا رحلتنا صباحاً، متجهين إلى الخرطوم مرورا ب(الكرب)، وهي مرتفعات رملية ماقبل كبري البطانة القديم، يخشاها المسافرون باللواري، لانحداراتها الحادة، مما يتسبب أحياناً في انقلاب اللوري وذهاب الأرواح. تعدينا كبري البطانة الحديدي، وهو المعد أصلاً لمرور القطارات, ثم اتجهنا غربا, (شاقَين البطانة)، و صوت ماكينة اللوري يأتي ناعماً عند المنبسطات, مخنوقاً نائحاً، عند المطبات والمجاري, وما أكثرها. وصلنا عند المغيب إلى ( ريرة )، حيث تقف اللواري للراحة والمبيت. عند الفجر تحركنا، مروراً بابوذليق، وام ضوا بان، حتى الخرطوم بحري، ثم الخرطوم، ثم إلى امدرمان، حيث منزلتنا, العم ( السيد) وأنا. 3- الخرطوم, الهدوء, النظافة, الجمال, سيارات بعدد اصابع اليد, الترام الكهربائي يسير على خطوط كخطوط القاطرات. والذي تذكرت حين رأيته، حكايات أهلنا عنه، وما سببه للبعض من عاهات، ووصاياهم لكل من يسافر إلى الخرطوم، أن يحذر من الترام أو ( الترماج)، كما كانوا يسمونه. بصات شركة مواصلات العاصمة, أعلى مستوي من الانضباط، والنظام، والنظافة، والدقة في المواعيد, البوتيكات، بأبوابها الزجاجية، ودواليب العرض ذات المرايا, اضواء النيون، (النايلون)، كم كنا نطلق عليها, لافتات المحال التي (تطفي وتولع)، العصير بخلاطات الكهرباء, البيبسى كولا، والكيتي كولا, الحدائق الخضراء المزهرة, النيل أبيضه وأزرقه، وملتقاهما، قصر الحاكم العام الانجليزي، ( القصر الجمهوري حاليا), الشوارع المسفلتة، اللامعة النظيفة، تحفها من الجانبين الأشجار الضخمة الظليلة.حديقة الحيوانات، سينما برامبل. كل ذلك جعلني أحس، وكأني أسبح في فضاء لا متناهي من الانبهار والدهشة. مما حدا بمرافقي (ود امدرمان) أن يسألني متعجبا: - انتو في بلدكم مافي حاجات زي دي ؟. 4- وعدت الى مسقط رأسي. منتفشا، كالديك الرومي، أشق طريقي بأزقة الحي، متباهياً على أولئك الأوباش الصغار، الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ما رأيت. أسمع المندهشون وهم يتهامسون: - والله بختو،كان في الخرطوم. والحاقدون يرمقونني بغيظ ويحاولون إثارتي: - وين ياود الخرطوم وكلهم، المندهشون والمعجبون والحاقدون، حين يأتي المساء، يجتمعون حولي لأحكي لهم عن الخرطوم. [email protected]