إلي : صديقي جلا؛ محمد عبد الرازق الشيخ .. صار نومي ،منذ فترة ، خزازاً ومليئاً بالتخلُّعات . أول البارحة صحوتُ من النوم عند الثانية صباحاً ، مخلوعاً مهلوعاً، وإحساسٌ بفقدٍ غير مشخَّص يُعكِّمني ويكبسُ أنفاسي . أخذتُ كتاباً أقطعُ به تسلسل النوستالجيا- مقطوعة الطاري- وأصدُّ به هجوم الذكريات و... الخيبات ؛ قرأتُ قرأتُ قرأتْ . ما فهمتُ ما فهمتُ ما فهمتْ ؛ صارتِ اللغةُ ألغازاً وصرتُ أنا ذيَّاك الغبيُّ العييْ. وضعتُ الكتابَ جانباً وقمتُ أتصفّح شبكة العنكبوت ؛ الأخبارُ مِنشارٌ ؛ طالع ينشر نازل ينشر.. أُطالع المنشور : وثبة الوطني تتوثَّب . الشعبي يحاور الوطني . الترابي يصرِّح ضاحكاً . المهدي يلتقي الجَّهَدي . الجَّهدي يشتم المعارضة ويهذي . الترابي يُثمِّن دعوة الوطني للحوار وبلا سببٍ يضحك . الميرغني يمد يده وأحد المريدين يقبِّلُها . آخرٌ ، مبتسمٌ ببلاهةٍ ، يحملُ عنه الحذاءَ " الشريف " بيدٍ ويتأبطُ أحذيةً أُخر . أفففففف . كبفْ نفس القطار الذي احترق حين أكل جوفه اللَّهب : تأففتُ تأففتُ تأففتْ ، إذ ، تأذَّيُتُ تأذَّيْتُ تأذَيتْ . كذي النونِ يُونُسَ في جوف الظلماتِ ناديتُ ناديتُ ناديتْ : يا الله ! يا الله ! يا الله! قفلتُ الكمبيوتر بصفعةٍ قصدتُ بها أربعة الخوازيق أعلاه. ثمَّ .. " لعنتُ كافورا ونمتُ مقهورا" في النوم داهمتني التسعينياتُ كوابيسٌ كوابيسٌ كوابيسْ : الترابي رئيساً للمجلس الوطني . نساءٌ ، كبراميل الزِّفت ،متَّشحاتٌ بالسواد . مشيهُنَّ زحيح ، صوتُهنَّ فحيح وكُلُهنَّ قبيحٌ قبيحٌ قبيح ؛يزغردن لموت شابٍ مات وهو يحاربُ أهله ، يزفنَّه عريساً لحورٍ عِينٍ مُتوَهَمَات ، في محيطِ دائرة الكابوس ملتحون موتورون " بأوداجٍ متشحِّطةٍ ممتلئةٍ دماً " يصيحون : عاع عيع عاع عيع . الموت . الله أكبر . الدم . عاع عيع عاع عيع . ورعبٌ يفتكُ بالجوعى والضعفاءَ وأمهات القتلى ؛ رعبٌ يصعدُ دخاخين دخاخين فيسُدُّ الأفق .في محيط الكابوس الأول يقفُ الشابُ الوسيم مجدي ، في قُبَّعةِ وروب التخرُّيج من الجامعة، مبتسماً يقفُ وحبلُ المشنقة فوقه يتأرجح . في محيط الكابوس الثاني علي فضُل الطبيب ينحني يجسُّ مريضاً . المريضُ يلاحظ مسماراً غليظاً مدقوقاً بيافوخ الطبيب .الطبيبُ يتهاوى. المريضُ يجسُّ الطبيبَ . الطبيبُ يفارق الحياة و..عاع عيع عاع عيع . الموت . الله أكبر. الدم . عاع عيع عاع عيع. في محيط الكابوس الثامن الشيخ والجنرال منتشيان يرفعان السبابة ؛ يرقصُ الأول ويبتسمُ الثاني ومهدي الخلاص المنتظر- ذاك الذي ما صدقَ أهله يوماً - مشغولٌ في تحديد الطريقة المُثلى للجوكي في إمتطاء الخيول التي ما فتأت تجقلب وشكرها ، أبداً ، مُجيَّرٌ لحمَّاد المنتظر . في محيط الكابوس الرابع خوجلي عثمان يحتضنُ عوده وبذات العزف الرَّصين يُغنّي ( درِّسني بس قانون هواك . أحفظ حروفو حرف حرف . ما بنختلف ) يلتفتُ ، والعودُ في حضنه ، لِيُريَ الجمهورَ المبهور ظهره : خنجرٌ فيه مشكوكٌ من جهة القلب ، حتى مقبضه، عميقاً يمتد . يرتدُّ المشهد لمحيط الكابوس الأول ورزازٌ من الدم يدسُر : عاع عيع عاع عيع . الموت . الله أكبر . الدم . عاع عيع عاع عيع . خوجلي عثمان يواجه الجمهور المقهور. في محيط الكابوس الرابع ؛خنجرُ خوجلي يلوِّنُ ابتسامتَه الطروبةِ بالدم : (تمِد إيديها يا رب ليْ ! تفوت تنساني لالا مُحال) .دخاخينُ الرعبِ تملأ الفضاء؛ ملتحون موتورون يسحلون نساءً. يجلدون نساءً. يغتصبون نساءْ، وفي قلب الكابوسِ قطيعٌ مُطيعٌ من أصابع السبّابة يبرز من فوق الدخاخين : هي لله . عاع عيع . الموت.الدم. هي لله. عاع عيع . المريضُ في محيط الكابوس السابع يحملُ الطبيب . يسقط المسمار الغليظ من اليافوخ فينبثقُ من ثقبٍ في اليافوخ دمٌ حارٌ يبقبق . يجري نهرُ الدم حتى محيط الكابوس الثالث ؛خنجرُ خوجلى يتقدّم والمُغني يُغنِّي . خنجرُ خوجلي يثقب الصدرَ والمُغني يُغنِّي. خنجرُ خوجلي ينغرسُ في العود ؛ دمُ العود يعودُ حاراً يبقبق .يملأ الأبهاء ، دمُ المُغني يُغنِّي (درِّسني بس قانون هواك . أحفظ حروفو حرف حرف . ما بنختلف)، سمّاعةُ الطبيبِ ترتجف إذ تنتحب. في مركز الكابوس الخامس عشر يأخذ الجنرال هيئة بروكرستس قاطع الطريق ، يبتر الجنرال بروكرستس بخنجر بروكرستس الشيخ ثلث الوطن حتى يتطابق الباقي مع قامتيهما ، يخلعُ الشيخ جُبَّة بروكرستس ؛ يتصنَّعُ الغضب.. يضحك حين أشلاءُ جسد الوطن تسقط ، تتقيأُ أنهارُ النيل كُلها كُلها كُلها دماً حين يسقط الجسد المبتور: بحر العاديك ،اللتبراوي ، بحر الزراف ،بحر أبيض ، نهر الجور ،السوباط ، القاش ،التُّرَد، الدندر ، بحر الغزال ، خور القنا ، الرهد ، بحر العرب خور أبْ حبل ، خور برنقه ...كُلَّها كُلَّها. في محيط الكابوس الخامس ، أيضاً ، بحرٌ من الدَّمِ دفّاقٌ ينبجسُ من معسكر كلمة وكراكير الجبال . الحسيبُ النسيب يمدُّ يده للتقبيل والتبرُّك ومازال ذلك الأهبلُ المبتسمُ سعيداً يحملُ الحذاء "الشريف" و... فجأةً تغيمُ الرؤىَ كُلَّها كُلُها كُلَّها. تهجرُ الكوابيسُ مُحيطاتها . يقدَّم صلاح السنهوري مهرهُ نهراً من الدم : دمُه ، لرفيقة استشهاده سارة عبد الباقي التى تجلسُ منهمكةً في تخضيب كفَّيها وقدميها بالدمِ : دمُها. في مركز الكابوس الناكص يجلسُ مهدي الخلاص المنتظر- ذاك الذي ما صدقَ أهله يوماً- يجلسُ منهمكاً في تخضيب لحيته بالحنَّاء والحنَّاءِ والحنَّاءْ . الشهيد مصعب ، دائبٌ ، يلوِّنُ بريشته بيت الزوجية السعيد ووفاء عبد الرحيم تُغني دويتو مع هزَّاع وكورالٌ من الشباب حولهما : علاء الدين بابكر ، عمر عبد العزيز، أحمد حمد النيل ،مايكل، منصور،بدوي،أسامة ... كُلُّهم كُلُّهم يضعون أياديهم ضماداتٍ على قلوبهم ورؤوسهم ؛ ضمَّاداتٌ تسدُّ موضع الطلقات. ينزعون أياديهم ، فجأةً ، في حركةٍ مسرحيةٍ مباغتة فتنبجسُ الدماء: دمائهم ؛ حارةً فوَّارة ، ينظرون إلي الدماء سُعداءَ .. يغنَّون : "ؤسال الدم في أرض الوادي .فدينا النُّور بالروح يا بلادي" . تلتقي محيطات الكوابيس كُلُّها في كابوسٍ واحدٍ مكفهرٍ عبوسٍ هو ذاك الذي في محيط الدائرة الأول : الشيخُ والجنرالُ ، ثانيةً ، منتشيان : يرقصُ الجنرال ويضحكُ الشيخ .وسباباتٍ مرفوعاتٍ تنشر القُبحَ والكُرهَ في الأرجاء . و.. عيع عاع . هِيَ لله . عيع عاع . هِيَ لله . تنحسرُ الكوابيسُ فأجوسُ في سهل الرؤىَ حزيناً حزيناً حزينْ؛ هناك : كان الربُّ الإلهُ ، أيضاً ، مكتئباً وحزين . صحوتُ ، مخلوعاً مهلوعاً مفزوعاً ، ممتلئاً بذات الفقد وعرسُ الشهداءِ بوشٌ عامرٌ يصدحُ صنجه وتتجاوب أصداءه . صحوتُ وخوجلي عثمان ، بذات الخنجرالمشكوك في قلبه، يملأ مسامعي : تمِد إيديها يا رب ليْ ! تفوت تنساني ! لا لا مُحال !! .. [email protected]