كثيره هي الاسئله التي يطرحها المهتمون والمحللون عن لماذا تأخر التغيير في السودان رغم توفر أسبابه فيه أكثر من غيره من الدول التي أسقطت فيها الانظمه؟ كعادة الطغاه دائما، يرجع المؤتمر الوطني - او (الاتحاد الاشتراكي النسخه العُمريه ، او كما اسميتها هنا إختصارا ب "اشنع" ، كما حاول رئيسه نفي التهمه او التشابه) - أسباب عدم تمكن المعارضه من إسقاطه لضعفها وعجزها ! وكأنن التاريخ يعيد نفسه، ففي السابق تواتر عن رئيس الاتحاد الاشتراكي ( الاصل) او النسخه الجعفريه، قوله لقادة الجيش في عام 1982م " والله انتو ما تقلبوا البرنيطه بتاعتي دي" ثم قام بعد ذلك الاجتماع بقليل بإحالة كامل قيادة الجيش للتقاعد. لم يكن الرجل وقتها يدري أن الارض تمور تحت قدميه وان رمال الثوره تتحرك و أن ساعة سقوطه كانت قد أزفت! واليوم وفي مشهد مأسآوي يكاد يتطابق مع سابقه يزعم قادة ( الاتحاد الاشتراكي النسخه العمريه - اشنع) ان المعارضه ضعيفه وعاجزه بالرغم من أن المعارضه المسلحه تفعل به الافاعيل واستطاعت في اقل من عامين تمديد عملياتها الي مناطق جديده لم تشهد أعمالا عسكريه منذ الاستقلال، اما المعارضه السلميه فقد فشل (اشنع) في كسر شكوتها رغم غلوائه وبطشه، وأصبحت تعلن عزمها لاسقاط حكومته جهرا من داخل الخرطوم وفشل (اشنع) في فركشة تماسك صفها ووحدتها رغم ما لديه من أجهزه قمعيه لم تعرفها البلاد من قبل أو دنانيره التي لا تفر من البنان! لكن السؤال الاساسي الذي يظل قائما، هو لماذا تأخر التغيير كل هذا الوقت؟ من وجهة نظري التي سأحاول استعراضها هنا، ان سبب التأخير يتعلق بالمعارضه وليس بتماسك او قوة (اشنع)، فاشنع كما يعلم الجميع أوهي من بيت العنكبوت رغم التهريج والعنتريات التي ما قتلت ذبابه التي يثيرها قادته من حين لآخر. فالعويل والنهيق- وقد جاء في الذكر الحكيم (إن أنكر الاصوات لصوت الحمير) - من فوق منصات الخطابه الهوجاء ما عادت تخيف أحدا حيث اثبتت الاحداث ان ذلك العويل والوعيد الاجوف سرعان ما تذروه رياح الواقع بمجرد خروجه من صدور خاويه لم يعرف السودانيون عنها إلا الكذب! لكن دعنا نترك الزعيق والنهيق والوعيد جانبا وندلف الي موضوعنا الاساسي حول تأخر التغيير. أعتقد أن ما يؤخر التغيير هو وجود مدرستان من التفكير في المعارضه . المدرستان متفقتان علي إسقاط الحكومه والفارق بينهما كما سنبين مقداري وليس نوعي وبالرغم من ان المدرستين اقتربتا كثيرا من توحيد هدفهما إلا أنه – وحسب اعتقادي – ما يزال هنالك مجهود يحتاج أن يبذل وتطمينات يجب ان تبذل وأطر يجب ان تعد ووثائق يجب ان تصاغ وجسور يجب أن تبني، كل هذا يحتاج الي عمل دؤوب بداء من قبل ولكن يجب ان يكمل رغم كل العوائق والدعايه السلبيه والتشكيك التي يقوم بها ( اشنع). وعلي كثرة التيارات ومدارس التفكير في المعارضه إلا انه يمكن بصوره عامه تقسيمهما الي مدرستين لا تخرج القوي المعارضه منهما: أ) مدرسه تعسي لاسقاط الحكومه ب) مدرسه تسعي لاسقاط الحكومه وتغيير الدوله واعادة تركيب وبناء مؤسساتها دعنا نتناول في الجزء الاول من هذا القمال المدرسه الاولي بقليل من التحليل ثم نعود لنتناول المدرسه الاخري في الجزء الثاني الذي نختتم به، آملين ان يثير المقال بجزءيه بعض الافكار ليتناولها اخرون من المهتمين بالتغيير في بلادنا. أ) مدرسة إسقاط الحكومه تسعي هذه القوي ( بعضها من مكونات قوي الاجماع وبعضها ناشطين ومثقفين أغلبهم بلا انتماء سياسي واضح) لاسقاط الحكومه وتنصيب حكومه مكانها، تتيح قدرا مقبولا من الحريات الاساسيه مع المحافظه علي شكل ومؤسسات الدوله القائمه. تعتقد هذه القوي أن خلاص البلاد يكمن في التخلص من حكومة (اشنع)، لذلك تقتصر دعوتها علي إسقاط الحكومه فقط. لاتشير هذه القوي في أدبياتها ( التي تتوفرفي شكل تصريحات او لقاءات لبعض قادتها الخ) الي أبعد من ذلك. بل حتي خطتها وموافقتها علي قيام مؤتمر دستوري لا تعدو أن تكون في الكثير من أوجهها وما يمكن استنتاجه منها ما هي إلا قبول بما هو قائم من هياكل الدوله مع محاولة تحسين صورتها عن طريق تغيير قيادتها وتحسين ممارستها شريطة ان لا يمس ذلك بجوهر هذه المؤسسات. ولهذا الموقف ما يبرره ، فبعض من قيادات هذه القوي إرتبط بصور شتي بمؤسسات الدوله القديمه وربما يصعب عليه استيعاب حقيقة أختفاء هذه المؤسسات او إعادة صياغتها - يشمل هذا نظام الحكم، من حكم مركزي قابض الي حكم فدرالي موسع اقرب للكونفدريشن وما يقتضيه مثل هذا الترتيب من اعادة صياغه لبقية مؤسسات الدوله - بما لا يتناسب مع شروطها ومصالحها الطبقيه. بعض هذه القوي تري أن اعادة بناء الدوله وهيكلتها بالكامل سيحتم بالضروره عليها إعادة قراءة مفاهيمها القديمه للصراع المتداخل والتقاطعات الجديده التي ستنشاء في البلاد وهو الامر الذي تعمل لتجنبه. المازق الذي تواجهه بعض هذه القوي هو ان بعضها سيجد صعوبه حقيقيه في تكييف مفاهيمه وآلياته وأطره القديمه لكي يواكب التحولات الهيكليه العميقه التي ستنشاء في حالة اعادة تركيب مؤسسات الدوله بكاملها. من الثابت تعرض الاحزاب السياسيه السودانيه بكامل طيفها وتوجهاتها لقمع شديد وطويل خلال الخمس عقود الماضيه، هذا لم يمكنها من تطوير الياتها الداخليه ولا تطوير مفاهيمها الفكريه لتحليل الواقع او تناول المشاكل المختلفه بصوره علميه ومدروسه . قاد كل هذا الي ان تنشاء الافكار الجديده عن الصراع المحتدم سلميا وعسكريا خارج اطرها التنظيميه وقد ادي هذا بدوره الي تكلس مفاهيم الاحزاب ودورانها المستمر حول الافكار القديمه او القيادات التاريخيه. ومن نافلة القول ان بروز قيادات حزبيه جديده يحتاج الي بروز افكار لتتفاعل وتختبر داخل اليات الحزب وأطره التنظيميه، لكن مع القمع الطويل اصبحت الاحزاب لا تجد المساحه الضروريه للحركه بين مكوناتها الداخليه، فتكلست هياكلها الداخليه وانصب كل همها علي مقاومة القمع الحكومي وسخرت كل الموارد فكريه وتنظيميه وغيرها للحصول علي حريتها في الحركه وتوفير مساحه معقوله لالتقاء اعضائها. والحال هكذا، اصبحت هذه الاحزاب عاجزه او متردده عن تبني افكار وبرامج سياسيه في غاية الاهميه من شأنها ان تساهم بصوره مباشره في حلحلة الكثير من قضايا البلاد خاصة فيما يتعلق بنظام الحكم وتطويره. لكل ذلك تظل هذه الاحزاب والقوي السياسيه متمسكه بنظام حكم مركزي عفا عليه الزمن وتخطته الشعوب واستنبطت أنظمة حكم جديده تناسب ظروفها الداخليه حققت بها الاستقرار وحلت بها اشكالات توزيع الموارد والثروه. مخاوف هذه القوي من عدم قدرتها علي التفاعل مع نوع الصراع الجديد في حالة اعادة بناء الدوله بصوره مختلفه عن ما هو قائم أمر مفهوم لذلك يجب مخاطبته بصوره مباشره. هذا الامر يقتضي علي القوي الثائره الخروج من عموميات ( اعادة تركيب الدوله وتأسيسها) الي الدخول في تفاصيل هذه الدعوه وتبيان مفاهيمها ومعانيها حتي لا تفهم بعض القوي أن الثوره المسلحه تسعي فقط لاقصائها من المسرح السياسي. هذا الامر ليس بالامر اليسير ولا السهل، وبنفس القدر الذي تقدم به القوي الثائره العظيم من التضحيات بالمهج والارواح يتوجب عليها ايضا بذل مجهود مواز يقرب طرحها للاخرين يشرحه ويفصل مضامينه ويحل ما إدلهم عليها من أهداف ورؤي. من الناحيه الأخري كان لتكلس بعض الاحزاب وحلة شبه الموات الفكري والتنظيمي نتائج مدمره عليها حيث اصبحت هذه القوي تكتشف في كل مره ان عوامل متشابكه ( ربما لا تجد لها حلا ميسورا) تدفعها خارج الصراع وأنها لا تملك شيئا يمكّنها من الاستمرار إن تغيّر شكل الدوله، لذلك تجد نفسها إما في دور المتفرج او تسعي بصوره مرتبكه لللحاق بصف القوي اللآفله (كاشنع). وهكذا ونتيجه للقمع الطويل وما أدي اليه من ضمور فكري وتقاصر معرفي تجد هذه القوي نفسها أمام خيارات مصيريه يصعب عليها إتخاذ قرار لتحديد إتجاهها الامر الذي يربك مكوناتها من القوي الفاعله التي تشربت بافكار جديده وأصبحت لا تجد مبررا مقنعا لماذا ترفض قياداتها بعض افكار التغيير التي تروق لها. وكنتيجه لذلك اصبحت هذه القوي تتمزق من الداخل وتقل او تنعدم فعاليتها في الصراع وينكشف صراع الاجيال داخلها حتي يبدوا الحزب الواحد وكأنه مجموعة أحزاب تتفاوت رؤي اعضائه حتي في القضايا الاساسيه التي تحدد اهداف اي تنظيم سياسي. لكل هذا يبقي خيار هذه القوي المرتبكه – ولضمان استمراريتها - هو اسقاط الحكومه فقط والاستمرار بمؤسسات الدوله القديمه والابقاء علي شكل الحكم المركزي بقبضته الحديديه واستمرار إستغلال موارد الولايات ( طبيعيه وبشريه) من قبل المركز دون أن يكون لأهل الولايات قرارا فيما يختص بمواردهم وحياتهم ومصيرهم. " 2 " تناولنا في الجزء الاول الوهم الذي يعيش فيه طغاة المؤتمر الوطني الذي أطلقنا عليه إسم ( الاتحاد الاشتراكي النسخه العُمريه واختصرناها في " اشنع") وقلنا ان رئيس أشنع يحاول جاهدا نفي هذه الحقيقه عن حزبه المتهاوي لا محاله. تناولنا ايضا جزء من اسباب تاخير التغيير في السودان و اشرنا الي وجود مدرستين من التفكير في المعارضه وقلنا ان هنالك تفاوت مقداري في فهم مستوي التغيير المطلوب . اوردنا تحليلا مختصرا لموقف المدرسه الاولي التي قلنا أنها تسعي لاسقاط الحكومه والاحتفاظ بمؤسسات الدوله القائمه نتيجه لظروف موضوعيه تاريخيه تتعلق ببقائها داخل الصراع ودائرة الفعل ,اشرنا الي هذه القوي تحتاج لتطمينات وتأكيدات وانه يتوجب علي القوي الثائره بذل المزيد من الجهد وبناء الجسور للتواصل معها فمركب التغيير يجب أن تشمل الجميع. في هذا الجزء نتناول المدرسه الاخري التي تعمل لاسقاط الحكومه واعادة تركيب الدوله من جديد. ب) مدرسه تغيير الدوله واعادة تركيب وبناء مؤسساتها أما المدرسه الثانيه فهي مدرسة إسقاط الحكومه واعادة بناء الدوله ومؤسساتها من جديد. تشمل هذه المدرسه قوي الهامش والقوي الشبابيه الحديثه بتكويناتها المختلفه حيث تتوحد وتتكامل بصوره سافره او مستتره خلف الجبهه الثوريه وتدعم نهجها وبرنامجها. بالنسبه لهذه القوي، فاسقاط الحكومه أمر مفروغ منه ستبلغه بعد غد إن لم يكن غدا خاصة وانها قد أثبتت مره بعد الاخري علي قدرتها علي منازلة (اشنع) وتقديم التضحيات الغاليه من أجل التغيير. هذه القوي هدفها ليس إسقاط الحكومه وأخذ مكانها فقط، إنما هدفها الاساسي الذي تقاتل من أجله هو إعادة تركيب وتأسيس كامل للدوله ومؤسساتها بالشروط التي توفر الكرامه الانسانيه للمواطنيين وتناسب حياة البشريه في الالفيه الثالثه. لقد استوعبت هذه القوي تجربه الحكم منذ الاستقلال وترسخت لديها قناعه قويه وراسخه بأن إسقاط الحكومه وحده لم يعد كافيا لتحقيق التغيير الذي يتطلع له جميع السودانيين بعد مرارات خمس عقود من الحرب والدمار. ما يجمع بين قوي الهامش ممثله في الجبهه الثوريه وبين القوي الشبابيه المختلفه هو معاناتهم المتصله من ممارسات الدوله السودانيه القديمه ومؤسساتها. فقوي الهامش عانت و لاتزال من الحروب والاضطهاد ونهب الموارد، اما القوي الشبابيه الحاليه بمختلف مكوناتها فقد عانت من استغلال الحكومه لها وسوقها قسرا لمحرقة حروب لاطائل منها ولا مبرر لها، يضاف لهذا وقوع القوي الشبابيه ضحيه لسياسات (اشنع)المدمره للتعليم حتي اصبحت شهاداتهم الجامعيه بلاقيمه تذكر ولا تؤهلهم لمواقع ذات بال، لقد اضاع اشنع حياتهم ومستقبلهم وإصطاد قياداتهم بالرصاص وزج بالكثيرين منهم في غياهب السجون دون سبب ولازال يلاحق الناشطين منهم بلا هواده. يضاف لكل لهذا، العزله الدوليه التي صنعها (اشنع)بسياساته الرعناء حتي اصبحت البلاد منبوذه ترفض اغلب دول العالم التعامل معها مما قلل من فرص الاستثمار وخلق الوظائف الجديده للشباب الامر الذي ضاعف من تفشي البطاله بينهم وضياع مستقبلهم تحت حكومه لا يهمها الشباب ولا تابه لمستقبله وتنظر لهم فقط كمخزون استراتيجي لحروبها التي لا تنتهي كما قال بذلك صراحة رئيس اشنع الذي زعم ان " الشباب لن يبخلوا بأرواحهم للدفاع عن سلطته" وكأن الاجيال السودانيه لا هدف لها في الحياه إلا الدفاع عن طاغوت متجبر لايري في الشباب إلا بيادق في صاحونة نزواته ومغامراته المدمره التي لا تنتهي. لكل ذلك اصبح لهذه القوي الشبابيه مصلحه حقيقيه في التغيير تجمعها بصوره مباشره مع الجبهه الثوريه وبرنامجها المعلن لدحر اشنع وإعادة بناء الدوله. هذه القوي التي عانت من الدوله القديمه وبطش مؤسساتها ، تمتد نظرتها لهدف أبعد من إسقاط الحكومه وتسعي جاهده لبناء دوله تسع الجميع دون تمييز ديني او عرقي او ثقافي وهذا ما يضعها في مقدمة ركب التغيير وموقع قيادته. سعت هذه القوي ولا زالت تسعي جاهده بين مكونات القوي السياسيه لتحقيق تغيير شامل يحقق الاستقرار للدوله وينهي دورة الحروب وعدم الاستقرار. إذن يمكن القول ان أحد أهم الاسباب التي قادت لتأخير التغيير في السودان هو التفاوت المقداري بين قوي المعارضه المختلفه حول الهدف من التغيير. فبعض قوي المعارضه تري ان اسقاط الحكومه هو نهاية المطاف، تتبعه انتخابات ( ربما بعد عام او نحو ذلك) لكي تعود الدوله بمؤسساتها وهياكلها القديمه بوجوه بعضها جديد وبعضها قديم. خلافا لذلك تري القوي الثائره والقوي الشبابيه أن إسقاط الحكومه ما هو إلا المدخل الصحيح لبناء الدوله من أساسها وإعادة صياغة مؤسساتها بالصور التي توفر الاستقرار الدائم وتفتح الطريق أمام الاجيال للخروج من دائرة الانقلابات العسكريه والفوضي والفساد والحروب الاهليه الخ... الواقع الماثل اليوم في السودان – بعد انفصال الجنوب- يقدم براهين متعدده علي أن الدوله بشكلها القديم قد فشلت، بجانب أنه لا يدع مجالا للشك أن الدوله القديمه عاشت وتعيش علي انتاج الحروب وتوليد الازمات وتكريس المعاناة الانسانيه. فإن لم توجد اسباب للحرب، يمكن اختراعها ( دارفور، جنوب كردفان، النيل الازرق) وإن لم توجد كوارث، يمكن صنعها ( السدود)، وإن لم توجد معاناة يمكن خلقها ( الواقع المعيشي للمواطنين واهمال الدوله لدورها في الصرف علي الخدمات). لذلك فالازمه قائمه وموجوده في جوهر الدوله القديم وهو مكمن الازمه ومصنع الكوارث والحروب. لكل ذلك اصبح حل الازمه يتمثل في تفكيك مركز السلطه واعادة بنائه علي أسس جديده برؤيه جديده في دوله جديده تحمي مواطنيها ولا تقتلهم، توفر الامن ولا تصنع الحروب، تحارب الفساد ولا تحميه تطبق القانون علي الجميع ولا تمارس ( الخيار والفقوس) وتفرق بين المواطنيين أمام القانون،تصرف الموارد علي التعليم والصحه والخدمات العامه لا علي أجهزتها القمعيه لتحمي سلطتها الباطشه. لقد جرب السودانيون من قبل في إكتوبر1964 وأبريل 1985م إسقاط الحكومات المتسلطه عندما كانت وقتها أغلب شعوب المنطقه تسبّح بحمد طغاتها وتحرق لهم البخور وتضرب لهم الدفوف و تتغني بخيباتهم! أما بالنسبه لشعب السودان فقد جرب تغيير الحكومات هذا قبل اكثر من نصف قرن وليس بإمكان هذه الشعوب المزاود عليه او اعادة أختراع العجله، وقد اخترعها السودانييون قبل عقود وهم نيام. إذن لقد جرب السودانيون اسقاط الحكومات من قبل اكثر من مره ، وفي كل مره كانت تنصّب حكومه بديله وتجري انتخابات الخ... كانت المحصله لكل ذلك هي دوران دولاب الدوله البائس من جديد لينتج نظام قمعي باطش أسواء بكثير من ذلك الذي اسقطته الجماهير. لكل ذلك فإن نوع التغيير المطلوب هذه المره مختلف تماما عن سابقتيه، هذا تغيير مناط به إعادة هيكلة الدوله وليس فقط اسقاط الحكومه وتنصيب اخري بديله غيرها. ما يمكن أن يستفاد من تجربتي إكتوبر وابريل هو أن إسقاط الحكومه واستبدالها بأخري قد فشل، وإن الامر أكبر بكثير من تغيير حكومه او إسقاط أحزاب فاشله مثل (اشنع) او شاكلته. ما اثبتته التجربه هو أن جهاز الدوله القائم هو جهاز فاسد لا يملك – من أجل استمراريته – إلا أن ينتج احزاب من شاكلة أشنع لكي يستمر في رفد الطبقات المستفيده من وجوده. والحال هكذا ومن أجل ايقاف هذه الدوره الشيطانيه، اصبح لا مفر، إلا باقتلاع مبايضها المريضه من مواقعها وزرع مبايض جديده تلد نظاما سياسيا صحيحا يوفر الحياه الحره الكريمه لكل أهل السودان ويدعم اواصر التعايش يعاقب القتله والمجرمين والفاسدين. إن التحديات التي تواجه ( ما تبقي من السودان) تحديات مصيريه وخطيره إن لم تنهض القيادات السياسيه بواجبها فستكون النتائج مدمره، ويجب ان لا تضيع القوي السياسيه الكثير من الوقت في البحث عن آليات اسقاط النظام، فسقوط النظام واقع لا محاله، وحده النظام سيختار ويحدد الطريقه التي سيسقط بها، لكن ما يتوجب علي القوي السياسيه القيام به هو كيفية وضع حد نهائي للدوره الشيطانيه من عدم الاستقرار السياسي التي كلفت البلاد والعباد موارد وتضحيات ووقت كانت كافيه لبناء دوله عصريه يفتخر بها سكانها. لن يتحقق الخروج من الدوره الشيطانيه بغير إعادة السلطه والثروه في البلاد لولايات البلاد المختلفه لتدير شؤونها وتدبر احوالها في تعاون مع المركز ومع بقية الولايات. إن التوجه العام عند القاده السياسيين حاليا يجب أن ينطلق من مفهوم ( ما هي السلطات التي ترغب الولايات مجتمعه في منحها للمركز وليس العكس). فالصلاحيات التي يمارسها المركز يجب ان تكون هي مجموع ما تنازلت الولايات علي منحه للمركز حتي تقبل الولايات بسلطته عليها وحتي يبني نظام الحكم علي الطوعيه وليس علي القهر. وهذا هو بإختصار الهدف المركزي لعملية اعادة تركيب مؤسسات الدوله واعادة صياغة نظام الحكم فيها من جذوره. أحد اسباب تأخر التغيير تتمثل أيضا في أن القوي الثائره من جانبها تعتقد ان بعض الاحزاب متردد في تبني عملية تحويل مركز السلطات من المركز للولايات، بل تري أنه يرغب في تغيير الحكومه واخذ مكانها للاستمرار في الحكم المركزي القابض الذي دمر الاقاليم وافقرها وقاد في نهاية المطاف الي وقوع الحروب. إن لم تتم مخاطبة شكوك القوي الثائره؛ ومع تمدد امد الحرب والمعاناه الانسانيه سيتحول الصراع الحالي من صراع من اجل قسمه عادله للثروه والسلطه الي مطالبه بتقرير المصير والخروج من الدوله. إن تجربة انفصال الجنوب بعد حرب لاكثر من خمسين عاما تعطي درسا واضحا لكل ذي عقل، فهل من معتبر! وبصرف النظر عن الدعايه العنصريه الجوفاء التي تمارسها أبواق ( اشنع) فقد اصبح من الضروري للمعارضه ( سلميه او مسلحه) – ومن أجل تقصير زمن التغيير- ان تجلس مره أخري لتتناول نظام الحكم الذي تسعي لاقامته خاصة قضية الفدراليه الموسعه، إذ بدون التأكيد علي أيلولة موارد الولايات لها، ليس هنالك من مخرج لازمة البلاد الراهنه، في غير ذلك سيستمر المركز في نهب موارد الولايات وقهرها بالقوه الغاشمه أن رفضت نهب مواردها. إن تقريب شقة التفاوت في المفاهيم بين بعض القوي التي نشأت في كنف الدوله المركزيه وبنت خططها وبرامجهاعلي ذلك، وبين القوي الناهضه للتغير واعادة بناء الدوله علي اساس فدرالي موسع، ليس بالامر الصعب، يحتاج فقط الي نقاش اعمق ومصداقيه وتطمينات والتزام. أما خطوات تنفيذه فيمكن الاتفاق علي مرحلتها بعد إزالة اسباب الحرب والدمار الذي تسببت فيه خمسون عاما من التيه والدكتاتوريه والخلف! [email protected]