د. الشفيع خضر سعيد.. وما لم تتوقف الحرب الدائرة في البلاد، وما لم تتشبع البلاد بأجواء الديمقراطية وبسط الحريات، لن يتوقف أو ينتهي العنف في المؤسسات التعليمية ولما كنا نعيش في عصر الفضاءات المفتوحة، عصر البحث عن تساوي الفرص دون أي إعتبارات لأي محفزات نجاح قديمة يتم الإستقواء بها، مثل إسم العائلة أو القبيلة أو أي إرث قديم، عصر يتميز بصعوبة، إن لم يكن إستحالة، الفصل بين الداخلي المحلي والخارجي الأجنبي، عصر وكأنه أنتج تركيبا كيميائيا من الخطورة تفكيكه إلى عناصره الأولية...، لما كنا نعيش في هذا العصر، وبسماته هذه، فإني أرى إستخدام قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم لمصطلحات، من نوع الأجندة الخارجية والإرتباطات بالأجنبي، في اتهام واضح للطلاب، هي محاولة بائسة لإستجداء الرأي العام قليلا من الدعم. وكأنما تواجد وإستقرار القوات الأجنبية في البلاد وتحويلها إلى أكبر قاعدة عسكرية أجنبية في تاريخها، وكذلك التواجد الدائم للبعثات الأممية، وكأنما المفاوضات والإتفاقات، وفق ريموت كنترول الرعاة الدوليين، في أبوجا ونيفاشا ونيويورك والدوحة وأديس أبابا، وكأنما الإستثمار المتبادل بين الخرطوم وعواصم جنوب وجنوب شرق آسيا وغيرها...، كأنما كل ذلك حدث في عهد الزعيم الأزهري ولم تتم من بين ظهرانيهم. أعتقد أن أي مجموعة داخل المؤتمر الوطني تتكرم على نفسها بفرصة واحدة لمراجعة الذات ستكتشف أن نظام الإنقاذ هو المتسبب في خلق المشكلات المزمنة والمتجددة يوميا منذ الثلاثين من يونيو 1989، وأنه لا يقدم إلا الحلول الملغومة. وحتى هذه الحلول الملغومة لا تأتي إلا بعد ضغوط مكثفة، أيضا خارجية!، ليأخذ بعدها النظام نفسا عميقا قبل أن يعاود نشاطه الأساسي في تعقيد وشربكة مشكلات البلاد. السودان، في ظل الإنقاذ، أصبح دائرة مركزها الهروب، وضياع الأنا الجمعية، ضياع “نحن"، بعدأن إنفرط عقد التعايش الموروث، أوالمتخيل في فرضيات القادة ذوي الخلفيات الآيديولوجية. والهروب ليس وجهة الخائف وحده، بل هو أيضا وجهة الذي يبحث عن مكان يليق بإنسانيته، حيث أرض الله واسعة، والثورة التكنولوجية محت المسافات والحدود. قبل أن ينفعل قادة الإنقاذ، ومن ضمنهم الوزير المسؤول الأول عن التعليم العالي، ويدينوا الطلاب ويدمغوهم بقلة العقل التي تفجر العنف إعتباطا، تمهيدا لتمرير فكرة حظر النشاط السياسي الطلابي، أو إتباع سياسة الغيتوهات والمناطق المقفولة، سيئة الصيت وكارثية النتائج، كدعوة إرجاع طلاب دارفور للدراسة في مناطقهم...، عليهم أن يتذكروا أن العنف في الجامعات ليس نبتا شيطانيا، بدأ أمس لينتهي غدا بقدرة يد تستطيع أن تبطش، وإنما هو نتاج القمع وخنق الحريات، داخل وخارج الجامعة، ونتاج تفاقم حدة الصراع السياسي في البلاد الذي وصل حد الحرب الأهلية. وما لم تتوقف الحرب الدائرة في البلاد، وما لم تتشبع البلاد بأجواء الديمقراطية وبسط الحريات، لن يتوقف أو ينتهي العنف في المؤسسات التعليمية. لن يكون ممكنا حسم العنف بالمجادلة الحسنة والإدارة الحكيمة للتفلتات، إلا بإشاعة وتوفير الحريات وكل الحقوق الأساسية للكافة، وبإلتزام كل الخصوم السياسيين بالمبادئ الديمقراطية في إدارة الإختلاف. وبالأمس، ملأ قادة الإنقاذ الشاشات بالوعود المكررة، والتي ظلت تأتي غير مصحوبة، حتى من التفسيرات المبطنة، فنحن لا نحلم بأقل درجات النقد الذاتي، لحالة الاتفاق وعدم التنفيذ والخصومة والحرب بين السودان والدولة الخارجة لتوها من رحمه. وقبل أن يواصل هولاء القادة نثر الوعود، التي لم يعد يأبه لها أحد، عليهم أن يضعوا حدا للحرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور. فدون ذلك، ستظل بذرة العكننة موجودة، والتي مالم نجتثها من جذورها لن يهدأ بال الوطن. لكن، الإجتثات أبدا لن يكون بالحرب، التي حتى اللحظة لم ينتصر فيها طرف، بينما هزم الوطن وأنهك الشعب ودمرت الموارد. السبيل الوحيد للإجتثاث هو التحاور والتفاوض حتى الوصول إلى نقاط التوافق. لقد سئم الشعب تلك الحلول التي سينقلب عليها الموقعون أنفسهم قبل أن يجف حبرها. وما يحدث في دارفور عبرة لمن لا يعتبر. فإتفاقات دارفور العديدة، والتي عادة ما تهندسها أطراف “خارجية!"، وغالبا ما ترفض التوقيع عليها هذه الحركة أو تلك من الحركات الدارفورية، هذه الاتفاقات، ومهما إرتفع سقف التوقعات بشأنها، عادة ما تصطدم بنفس الطريق المسدود..! لا جديد...: فقط أنبذوا الحلول الجزئية، وأوقفوا الحرب التي تتسع رقعتها كل صباح لتدخل مضامير جديدة. وحتى قصة إكتشاف الذهب، الذي جعل عقل “ميداس" يكاد أن يذهب، ستنتهي أيضا يدعوة أوقفوا الحرب. فقد تمكنت منا حمى البحث عن الأصفر النفيس لتصبح المقابل المتاح لقتل الفقر والفاقة والعطالة، ولكن، ومثل ما حدث تماما في كاليفورنيا والغرب الأمريكي، في دولة لم تتأسس فيها الدولة آنذاك، قتل المغامرون بعضهم بعضا لتسقط الأجسام التي كانت تهفوا للإنعتاق من الفقر لتنعتق من كل الحياة. أما في دولتنا، دولة اللادولة هذه، فقد إعتدنا على أن كل ما يحدث فيها من مصائب كبيرة لا يثير الضجة المرجوة. إن تجاهل أسباب الحرب،قديم الأسباب وجديدها، لهو جريمة شنعاء تضاهي جريمة القتل نفسها. المشاكل والأزمات في السودان، مترابطة ويقود بعضها إلى بعض، مثلما في قصة العروس عاوزة المنديل..، والمنديل عند الجهال..، والجهال...الخ. ومن الواضح جليا أن المدخل الوحيد لكسر هذا الترابط هو رحيل النظام. لكن، من الواضح أيضا أن فعل التغيير، أو الترحيل هذا، من الصعب أن ينجزه حزب واحد أو مجموعة واحدة وبمفردها، مهما كان كبر حجم ونفوذ هذا الحزب وهذه المجموعة، أو منعة بنيانهما الفكري والتنظيمي، كما لا يمكن أن يتم بمعزل عن مجريات وتقاطعات الحراك الدولي والإقليمي. أما كون نظام الإنقاذ بات يدفع بالبلاد من كارثة لأخرى بطريقة يعجز أي مستعمر نهّاب أو خائن جاسوس، على طريقة أدروب، عن فعلها، فهذا أصبح أمر لا يحتاج إلى رصد أو تحليل أو تنظير. ولكن، يبدو أن الذي نحتاج لإعمال الفكر فيه، هو طرائق تفكيرنا ومناهج عملنا التي كثيرا ما تقودنا من خطأ لآخر، وأن نتمسك بمبدأ النقد البناء للمفاهيم التي ظلت مطروحة منذ الأمس، وأن نختار مواجهة هذا العصر التكنولوجي بنفس طريقته التكنولوجية المتسارعة والمدهشة في إبتكار الجديد. فمن الواضح أن خطاب المعارضة، بكل أقسامها وفصائلها، أصبح يواجه معضلة في تثوير الأجيال الجديدة وإلهامها. وأعتقد أن ضربة البداية هي أن نستمع بتفهم وإستجابة إيجابية لكل لأصوات التي تنتقدنا، وتتهم المعارضة بالتوهان في متاهة الثنائيات العقيمة، والخادعة في نفس الوقت: سلمية/مسلحة، تغيير..إصلاح النظام/إسقاط النظام، ومتاهة الخلط بين الهدف (إسقاط..تغييرالنظام) ووسائل تحقيقه (إنتفاضة..ثورة مسلحة...إنقلاب...حوار/تفاوض)، ومتاهة عدم إكتشاف سر المفارقة العجيبة، مفارقة الحرب الدائرة في كل مناطق الهامش تقريبا، والنظام المهترئ الذي لا يزال يحكم في المركز، ومتاهة المواثيق والهيكلة والفعالية بعيدا عن إكتشاف كلمة السر الضرورية واللازمة لإحداث الحراك الشعبي الجماهيري. علينا أن نستمع إلى كل ذلك، ونتمثله بعقلية تتقن إستخدام منهج النقد والمراجعة وإعادة النظر، عقلية تقبل التعدد والإختلاف، فلا أحد يحتكر الحقيقة، ولا أحد أحق بالحرية والعدالة أكثر من سواه، ولا يمكننا المطالبة بالديمقراطية من غير الإنخراط في برامج عملية ملموسة لخلق مجتمع ديمقراطي، ولتسقط مفردات الأول/الفائز/ الغالب في العمل السياسي، والتي لم نحصد منها غير الحروب والدمار والأزمات المزمنة.