يتحدث الناس هذه الأيام وفي أعلى درجات الدولة عن الإصلاح، وحتى أن الحركات السياسية المنشقة عن الأحزاب بما فيها حزب النظام اتخذت من الاصلاح اسماً ورمزاً لها!! والإصلاح لا يبدو مجرد شعار يُرفع، إنما منهج متكامل يشمل كل مناحي الحياة، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية، وهذا المنهج يطبق على السياسة والاقتصاد والمجتمع!! معناه إن الذين يمكنهم الله في الأرض يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وأقف عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «أمر ونهي».. ماذا يعني الأمر بالمعروف لا تستطيع أن تأمر أحداً بأن يتصدق مثلاً، ولكن الأمر بالمعروف الذي أراده المولى عز وجل هو إصلاح أحوال المجتمع الذي مكنهم فيه!! والأمر بالمعروف بعد التمكين هو تحسين أوضاع المواطن والمعروف الذي تشير إليه الآية ليس ذلك المعروف الذي نفهم ونقصره على فعل الخير والصدقة، إنما المعروف الذي أشارت إليه الآية الكريمة هو العدل لذلك ارتبط بفعل الأمر، كما أن المعروف المشار إليه هو توفير أساسيات الحياة للمواطنين من تعليم وعلاج وعمل وسكن بواسطة اولئك الذين مكنهم الله فيهم!! أما النهي عن المنكر وهو كذلك أمر إلهي فالمقصود به ذلك المنكر الذي يمس المجتمع ككل والمعني به الفساد الذي يعاني منه أول ما يعاني المجتمع حيث لا يجد التعليم ولا العلاج ولا العمل ولا السكن!. وتحسين أوضاع الدولة لا يتم بسن بعض القوانين والتغييرات الشكلية التي تدغدغ مشاعر الناس وتكسب عواطفهم، وتشغلهم بالحديث عنها وتصرفهم عن القضية الأساسية التي تهمهم ردحاً من الزمان حتى تصدر قوانين أخرى وتغييرات شكلية مشابهة يواصل فيها النظام بقائه ويواصل المجتمع ذات الحديث القديم وينشغل عن القضية الأساسية!! إقامة العدل تنفيذ للأمر الألهي بالمعروف، والعدل يتحقق بأن يكون للشعب برلماناً تُعرض عليه الميزانية وأن يراقب الشعب ميزانيته عن طريق ممثليه ليعرف أين وكيف تصرف أمواله!! من العدل ألا تفرض على المواطن الزيادات في أسعار المحروقات واستحداث الضرائب الجائرة ومن العدل أن تقدم كل هذه الزيادات لمناقشتها ورفضها إن كانت ذات مردود سلبي على المجتمع وليس من العدل فرضها فهذا نفي لمعروف وترسيخ لمنكر وهو في هذه الحالة طغيان بيّن. والأمر بالمعروف يتم دائماً بالشورى وتمحيص القضايا وبحثها بحثاً دقيقاً ومستفيضاً، أما المنكر فهو أخذ العزة بالأثم والإصرار على الأمر دون مشورة الأمر الذي يستقطب العداء وعدم الحوار يجعل العصا هي المتحدث وهذا هو المنكر المنهي عنه!! والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معني به أولئك الذين مكنهم الله في الأرض أي أصبحوا حكاماً على المسلمين وحتى على غير المسلمين لذلك وردت الآية بالأمر والنهي والأمر بالمعروف للحاكم يعني الحكم بالعدل والنهي عن المنكر للحاكم هو ألا يفسد ولا يدع مجالاً للفساد لوزرائه ومساعديه وحتى عشيرته الأقربين!! ماذا فعل الذين مكنهم الله في الأرض؟!! لم يأمروا بمعروف بل أعانوا على المنكر وفهموا التمكين فهماً مغلوطاً واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. التمكين يعني إقامة العدل وزهق الباطل المتمثل في الفساد وليس أن تتمكن في شؤون الناس فئة بعينها تضع نفسها في خانة لا تسأل عما تفعل!! ماذا جنت البلاد من خير بعد إبعاد الذين أبعدوا..؟ هل طرأ تحسن ولو طفيف على المجتمع، أو حتى على السياسة، فالذين أبعدوا فاقدي القدرات والذين بقوا كذلك، فتحت تمكينهم عاش السودان ربع قرن من الزمان، لم يتقدم السودان خطوة واحدة إلى الأمام بل أخذ يتناقص من أطرافه!! الأمر بالمعروف الذي عنته الآية الكريمة هو دعم المزارع السوداني واغرائه بزراعة المحاصيل الإستراتيجية كالقمح والذرة، ولكننا بدلاً من دعم المزارع السوداني ندعم الأمريكي والاسترالي والكندي الذي تدعمه حكوماته، فنشتري منهم القمح وبأسعار خرافية، لو قدمت للمزارع السوداني لما عاش السودان فجوات غذائية «اسم الدلع للمجاعات»!!. إن دعم المزارع السوداني بالعملة المحلية يوفر علينا أكثر من مليار دولار ننفقها استيراداً للمحاصيل الغذائية ودعماً لمزارع آخر وفي دعم المزارع السوداني حفاظ على قيمة العملة المحلية التي تفقد من قيمتها الكثير بعد كل طلبية من المحاصيل الإستراتيجية!! كما أن الأمر بالمعروف يتمثل في توفير المياه للزراعة والرعي، وتوفير وسائل النقل الرخيصة في بلد شاسع كالسودان لا يمكن ربطه إلا بالسكة الحديد، ويدخل في فهم الأمر بالمعروف أن يجد المواطن العمل والعلاج والتعليم والسكن!! إن الأمر بالمعروف هو إيقاف السنين العجاف التي تجاوزت السقف القرآني المحدد بسبع مثنى وثلاث ورباع!! هذا بعض ما يعني الأمر بالمعروف، أما النهي عن المنكر فيتمثل في الإصلاح الجذري للنظام وهذه عملية جراحية مؤلمة جداً لقلة لا تذكر إذا قارنا نسبتها إلى الشعب السوداني الذي سيسعد كثيراً بمثل هذه العملية!! إن الذين تمت إزاحتهم نسبة لا تذكر، وتمثل إزاحتهم مخدراً موضعياً محدود الأثر تعود بعده الآلام أشد برحاً وإيلاماً!! فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر يا هداكم الله!! د. هاشم حسين بابكر [email protected]