قال لي :عندما فصلت للصالح العام وكنت أعمل في التلفزيون عدت في تلك الليلة الممطرة إلى البيت ولم أصح مما شربت , ابتلت ثيابي وغرقت أقدامي في ظلام الشوارع ورأيت النجوم تبرق في خيالي حينما يصعقني تيار يتحرك من معدتي الى دماغي , كانت يدي دائما في جيبي , ويدي الاخرى تمسك بالزجاجة الزرقاء , وعبرت أزقة حي العرب الذي اعرفه منذ طفولتي ودفعت الباب , والدي نائم ووالدتي نائمة واخوتي في مراقدهم في البرندة , لعل والدتي انتظرت عودتي وعندما هطل المطر وبرد الهواء أخذتها نومة فحملت السراير إلى البرندة , دخلت غرفتي وهي الثانية على اليمين , وأحسست بالدوخة وأنني معلق من لساني ورأيت رذاذ المطر من الشباك والبرق يرسم صور نساء , دائما ازور ذلك المشرب في طرف النهر فاشرب ما أستطيعه ودائما تكون السماء ملبدة بالغيوم , ومعي سمار من الحي أو من ناس الشغل في السوق بعد أن فصلت من التلفزيون من وظيفتي كمخرج أو بعض المجهولين الذين تجمعهم بي المشارب والمشاوير . نخرج معا في نهاية الليل فنتفرق على أحياء أمدرمان مثل حي العمدة وأبو روف وحي السوق وحي العرب والمسالمة . في جيبي كل ايراد اليوم من دكان الجزارة وهو ديون واجبة السداد غدا صباحا واذا لم افعل ذلك فسيتوقف عملي واحترت في المكان الذي يجب ان اخبئ فيه النقود حتى لا تسرق ليلا , وهداني عقلي إلى قوائم السرير وكانت مجوفة فقلبت السرير وحشرت النقود واستلقيت وغرقت في بحر بعيد ونمت من تلك الحبوب التي وزعها لنا المصري بنفسه , و قبل أن أنام شعرت بالتعاسة والذنب وأنني ضللت الطريق , ولم أحس بالطمأنينة التي أحس بها دائما في الليالي الممطرة . استيقظت مع زقزقة العصافير , وتنفس الصباح بداخلي , فلبست ثيابي وفتحت الدولاب ولم أجد النقود , إنني أضعها دائما هنا وأقفل عليها بالمفتاح , سألت والدتي ووالدي وإخوتي وقالوا إنهم لم يروا نقودا " أين وضعتها ؟ " جاءني صوت , نظرت في أعلى الدولاب ورأيت ا لسماء خالية وقلبت الارض واحسست انها تتأرجح بي وأنها ممتلئة بالمياه , وفجأة تذكرت المكان " ربما قادك البحث إلى شيء آخر " , فتحت الصندوق الذي لم أفتحه منذ أيام دراستي في مدرسة حي العرب , وقلبت الأوراق , أربعون سنة وأكثر دفعت بي كأنني موجة إلى لجج المستقبل وها أنا الآن وجها لوجه مع جدث الماضي الذي كان حاضرا وحيا وطازجا كالتفاح الاحمر , رأيت كراساتي التي تعلمت فيها الحروف حرفا حرفا " الخط الذي بدأت به لم يتغير !! " , ونتائج الامتحانات , وأقلام رصاص صغيرة بعضها مبري وبعضها بالموسى , وصور تلاميذ عابسة خلفهم سحاب داكن لا أعرفهم ولم التق بهم ولا يشرفني أنني عرفتهم " وهذا هو الكراس الذي سرقته من محمود وكان أجمل كراس في المدرسة وصفقنا له في الطابور الصباحي , وهكذا قادتني النقود الضائعة لتقليب كل الذكريات الطفولية التي نسيتها و لمعرفة كل أسرار البيت التي ما ظننت وجودها , فعرفت أن والدي وهو رجل تقي يحرص على كنس المسجد وعلى صلاة الفجر في مسجد محمد حسين يكاتب صديقا له في إسرائيل وتأتيه خطابات كثيرة في السنة الواحدة عن طريق صديق له يزور بورتسودان بانتظام ويقطن في القاهرة , وبعض الخطابات باللغة العبرية وتحت كل سطر ترجمة عربية بخط والدي " أين تعلم العبرية ومتى ؟ هل كان ذلك في مصر عندما كان يدرس اللغة الفارسية ؟ " وعرفت أن أختي الصغري متزوجة عرفيا من رجل يملك ثلاجات بطاطس وموز وله أسطول بكاسي وأن أختي الكبري تعشق ملاكما فاشلا في إستاد الهلال وكانت تحادثه كثيرا وتنهي مكالماتها بعبارة " آآآه يا حبي . آآآآه ياروح الروح " وأن أخي ينتمي لجهاز حكومي سري وأنه يتدرب على أجهزة غير معروفة وعلى أدوات تعذيب بدائية كشوكة الهراطقة التي تغرز تحت الذقن والطرف الآخر تحت الرقبة ومقلاع الثدي وكاسر الأصابع والخازوق وكرسي محاكم التفتيش , ويتدرب أيضا على السحل بالأحصنة والتعذيب بالجرذان والعقارب وغرز الإبر وعرفت في ليلة كان السحاب فيها يحاذي رأسي ودخان البرق يخرج من أذني وأنفي أنه كاتب محمد عطا الإرهابي حينما كان يدرس في ألمانيا قبل أن يفجر برج التجارة العالمي في نيويورك وعرفت في ليلة أخرى عدت فيها من أبروف محمولا في محفة حريرية أن والدتي التي لا تخرج من البيت إطلاقا وتعتقد أن فتح الباب ومد رأسها إلى الخارج جريمة تمس الكرامة قد ادخرت ما يعادل ثلاثة آلاف دولار من تجارة حبوب الهلوسة و التسمين والتقيل وراء , وأنها تخفيها في مكان ما و ظللت أبحث عنه مدة طويلة إلى أن فاجأتني وأنا أقلب السرير أو تخفيها عند احد ما لأن هناك من يطرق لها الباب ليلا ويقول لها بصوت كالفحيح " كشكيلي " وبعد ليلة يائسة ذقت فيها الأمرين من الشك والهلوسة , وفي منتصف اليوم, انتفضت كالمحموم وسبحت من قاع الهاوية ورأيت الشمس مشرقة وجميلة وناصعة ورأيت البيت كعادته دائما نظيفا ومنظما وان اختي تستذكر دروسها وهي مازالت صغيرة على الزواج وأختي الكبرى ا لمثابرة تشتغل على ماكينة خياطتها بهمة ونشاط ولا تملك تلفونا ووالدتي في المطبخ تقشر البطاطس وتنقع الأرز وسمعت طرقا في الباب ثم سمعت صاحب النقود وهو تاجر يذبح الثيران ويوزعها على الدكاكين ينادي بإسمي قال لي لماذا محلك ا ليوم مغلق ؟ وحكيت له ما حدث وأن النقود اختفت ليلا ولكنه قال لي انك بدأت تتعلم السرقة وهددني وتوعدني وقال إنه سيفتح بلاغه قريبا جدا , فهبطت مرة أخرى الى القاع وبحثت في الارض والسماء بعد أن قلبت أركان وأرضية البيت وهداني تفكيري أثناء البحث إلى أن الله موجود وقريب جدا لانه متحد بكل شئ وفي قلب كل شئ وان اكترونات الذرة تدور حوله " هل تذكر الذرة في كتاب الفيزياء ؟ " وان الكون وحدة واحدة من الفناء والتجدد , وان حزن المصير الفردي لا وجود له في عالم متكامل ومتحد ومصيره جماعي , وسمعت الطرق صباح اليوم التالي وفي صباحات أخرى فلبست ملابسي وخرجت إلى عملي وبين حين وآخر أغرق في القاع وتبتل ثيابي بماء المطر , وانتفض وأنا أبحث عن ا لنقود , " هل صرفتها في المشرب مع الساقية ؟ " " لا " هل أخذتها منك تلك السودانية التي تلبس ملابس النوم وتتجول بحرية كأنها في بيت زوجها ؟ " " لا " , أغلقت باب المحل بعد الغروب مباشرة ويممت صوب النهر . كم من الزمن مر وأنت تبحث عن النقود ؟ " شهر أظنه شهرا واحدا وربما كان سنة " هنا كل شيء راكد , مازال ذلك المشرب السري في مكانه من الضفة التي ينتهي عندها حي أبو روف , ذاك المشرب الذي تقدم فيه كل أنواع الكحول وأنواع الزجاج الملون والمشجر وأنواع الكؤوس الصينية والحبشية والمصرية وفي مرة أزاحوا ستارة كثيفة فرأينا خلفها صالة رقص متكاملة والأضواء الملونة تتحرك هنا وهناك ورأينا رجلا يبدو أنه مصري وكان يجلس في مقعد مرتفع ويلبس بدلة وكرفتة ثم عرفنا أنه من إخوان مصر الهاربين وأنهم يستثمرون في الملاهي الليلية في لبنان وسوريا والسودان وليبيا وفي مرة قدم لنا هو نفسه حبوب صغيرة من تلك التي جاءت في الحاويات مؤخرا حتى نتعود عليها ولكنني في تلك ا لليلة أضربت عن الخمر إلى الأبد لأن الحبشية عندما وضعت أمامنا زجاجات خمر أخرى سمعت أحد أصحابي يقول " هذا لن يشرب مرة أخري . إنه تدلدل كالديك " وصاحوا يا له من دلدول . أنظروا يكاد يسقط من المقعد " , دخلت المشرب بالباب الخلفي خوف ان يراني احد وكانت أبروف هاجعة في مراقدها وهي لا تعلم ماذا يجري في ضفة النيل , فانا عندما خرجت من باب بيتنا كنت أعرف أنني من أسرة محترمة تعمل في التجارة ووظائف الدولة وكنت على وشك الزواج من ابنة خالي عبد القيوم , ووضعوا لي زجاجة أمامي وكأسا فضيا وملأت لي الساقية الحبشية شبه المتعرية الكأس ثم جاءت سودانية متبرجة ولكزتني في كتفي وابتسمت لي وقالت لي " آآآآه يا أفندم " واختفت خلق الستارة , وما أن تجرعت الكأس الأول والثاني والثالث والعاشر حتى شعرت بالسماء تضرب رأسي وبالمطر ينهمر غزيرا في ثيابي وان البلاط ينفتح تحتي إلى قاع البراكين وشعرت بالذكريات تتدفق كالشلال السادس وأحسست أنني في حالة يقظة كتلك التي يشعر بها من أفاق من تخدير عملية جراحية طويلة وصحت كما صاح الأغريقي ارشميدس وجدتها وجدتها , ركلت المقعد فسقط تحت الساقية وأطلت السودانية برأسها وهي تبتسم فأرسلت لها زجاجة , وأخذت المنضدة بكلتا يدي وقذفت بها في البلاط فتشتت أصحابي وهم لا يدرون ماذا يحدث , ثم خرجت جريا وأحسست برذاذ المطر . ومشيت بمحاذاة النيل وسمعت الأمواج تتداخل في بعضها البعض ورأيت بعض المراكب الشراعية تصطاد السمك ,وتذكرت بوضوح أزمانا مضت عندما كنت أعبر شارع مستشفى أمدرمان وشارع بيت الخليفة عندما كان بعض الناس يتجولون بإحساس طاغ بالآمن وكان الدور الثاني في سينما الوطنية يقارب على الانتهاء , بعض السيارات تخرج من شارع الإرسالية , رأيت شارع الأربعين طويلا ممتدا يذهب إلى الجنوب وتأملت مستشفى التجاني الماحي الصامت الذي كان لبن مرضاه يأتي من حي العرب في زمن الإنجليز , أحد المرضى من تلك الأزمان كان يقول " أنا داواني اللبن والفواكه كنت أطلب ما أشاء " كان مسجد الملك فيصل مظلما ويبدو عليه أنه يقف ليمتص الزمن قطعت الشوارع مسرعا وتعثرت في خور أبو عنجة وكان البرق يسابقني والسحاب يبدو كأنه دخان , فتحت غرفتي , تنفست عميقا تلك الرائحة التي كانت تتعطر بها السودانية , كان بعض القلق يتلاعب بقلبي , ذهبت توا إلى السرير وقلبته , كان خفيفا لأنه من النيكل , أدخلت يدي وابتسمت حينما احسست بها تصطدم بالقاع وبالنقود وشممت رائحة السمك وسمعت رنين القواقع وصفقات أشرعة المراكبس . ورأيت والدتي تنظر إلي من الشباك وتبتسم . وفي الصباح التالي قيل لي " إنك نمت أربعين ليلة . وأن رجلا مصريا ومعه امرأة سمراء جاءا يبحثان عني . ظل أخي عاطلا عن العمل وظل أبي يكنس المسجد في صباح كل جمعة ولم أعرف شيئا عن مشرب أبوروف مرة أخرى وظل البيت كما هو وأمي في المطبخ وأختي الصغرى تذاكر في كتاب الكيمياء والكبرى خلف ماكينتها كما عهدتهن أبدا في الركود الأبدي أو في السلام الأبدي تمر بهن الأزمان دون فروق . اعتدلت في فراشي وشربت قهوة ثقيلة . وقررت أن أبدأ من جديد .. بعد قليل طرق الباب وظهر أمامي شرطي ومعه تاجر الثيران . ثم اختفى أخي ولم يظهر مرة أخرى إلا حينما انتشر الجنجويد حول العاصمة . ثم ابتسم لي ذا صباح وقال لي : " أنا أريد أن أكون إنسانا فاضلا , وكنت سأكون كذلك لو ظللت في عملي مخرجا تلفزيونيا . نعم . كنت سأكون أفضل من ذلك كثيرا . ثم قال لي " أريد أن أعرف ماذا يفعل أولئك الناس في أبو روف " . خالد بابكر أبوعاقلة [email protected]