سُئل وزير الثقافة الاتحادى الحالى عن علاقته بالسينما فقال كانت بالنسبة لنا عبارة عن سوق نبيع فيه الجوافة والمانجو والقشطة، و اليوم هو ليس من باعة الفواكه إذن لا معنى و لا أهمية و لا داع للسينما . هذه مقدمة لفجيعة الثقافة و المثقفين الوطنيين فى السودان . و الوزير النحرير اليوم يرى أن الحكومة فقيرة و الشعب غنى دون ان يشرح لنا هذه الغلوتية وأثرها فى الفعل الثقافى .فبعد ربع قرن من حكم الإسلامويون بمنهج التوجه الحضارى الذى اعمل عمايله فى كل مكونات المجتمع السودانى ، و عبر آلته الأمنية أستطاع أن يجفف كل ممسكات السلام الاجتماعى ،و إجتهد مجاهدوه بطيش فهدموا كل ميراث و محفوظ و منتوج لثقافة كل الاثنيات و المتعقدات السودتنية التى يشتبهون إشتباهاً أنها قد تكون عائقاً أمام طريقهم السالك إلى الدولة العربية الإسلامية المتوهمة . ومما يحرق القلب و "يفقع المرارة" أنهم بدأوا مسارهم القاصد نحو هذا الوهم الكبير بالهدم و بتشويه المظهر العام للمدن السودانية . اتذكرون رامبو فى صياعته الأولى حين أمر بدهن و طلاء المبانى الحكومية و المكاجر باللون الابيض و الاخضر زاعماً انها الوان المدن العربية.و هكذا دأبوا تلطيخ كل جميل وأصيل سودانى بكل قبيح من منتوجات العقليات التجارية الإنتهازية التى يقودها رنين القرش، فجعلوا يقطعون الأشجار الظليلة دائمة الخضرة ،و يستبدلونها بإخرى غصباً عن بيئتها . يلطخون عيون المواطنين بمساحات الاعلانات التجارية هابطة المفردات و المحتوى ليخدعوا المواطن بسلعة مسمومة عافتها البلاد الاخرى . و فى مجال الثقافة لن نتحدث عن فعايلهم فى مراكز الثقافة و الفنون ، و لا ماذا فعلوا بالمسرح . و لا إهمالهم للمجلات والدوريات الثقافية و لا المكتبات العامة و دور السينما . لان مثل هذه المنافذ الثقافية سوف تفتح عليهم ابواب الزمن القادم المنفتح على علوم المستقبل و التقنية و الرفاه الانسانى .و هم أصلاً لا يحملون فكراً لإستيعابه لأنهم منكفئون على عقلية و ذهنية ظلامية موغلة فى الجهل بكيان و كينونة الثقافة و مقدرتها على التغيير الإيجابى البنّاء و ليس الهدّام . فكيف لنظام حاكم كان يرى أن الثقافة و المثقفين هم أعدائه الأصائل فينبذهم و يشردهم و يستبدلهم بالأُصوليين و الوصوليين – تخيلوا كنا ثلاثة عشر نعمل فى "مخارجة" مجلة الثقافة السودانية من براثن البروقراطية المايوية و"المهدية" فجاء إنقلاب الانقاذ ليرسل إثنى عشر منهم لما أسموه بالصالح العام و الى المعتقلات – ويرسل المجلة التى كانت هى أحد أهم ممسكات التنوع الثقافى و التسامح الوطنى للعدم . –و شهادتى عنها مجروحة لأننى كنت أحد ركائزها - ليأتى فى آخر عمره ليبحث عن هذه الثقافة علها ترمم كل ما شوهه و هدمه و أهمله .و يبحث شغيلته بهمة بين الانقاض علهم يجدون بين الركام ما يبحثون عنه اليوم و أسموه الهوية الوطنية .ربع قرن من الزمن الإنقاذى إستولى فيها فقيرو "الجيب" و الفطنة و الفكرة مقعد رعاية الثقافة منفردة او مندمجة مع وزارات أُخرى .لم يجيدوا سوى اولمبديات مهراجانات الأغانى و المدائح الراقصة . و كنا فى كل مرة نعتقد بأن فهم الثقافة و دورها فى تحديد الهوية و صيانتها قد يتحقق بعد كل تغيير فى مواقع المسئولية الثقافية .ولكن سرعان ما تنقلب الى مسئولية ديوانية. ولكن فجيعتنا تتقافز خطواتها كأنها تسابق المأمول المبشر به حين تنجلى غمامة التبشير بتوطيد الثقافة وتبؤ مقعدها المستحق فى بناء اركان الوحدة الوطنية و تعافيها من ارجاس سياسة التفرقة والعنصرية . لينكشف لنا الغطاء، ونلمس لمس اليد أن القادم الجديد قد دسّّّّّّّ بحرص شديد كل ماإستعصى عليه فهمه من مكونات التخطيط الثقافى وكل ما يساهم فى انتشال الثقافة السودانية من هوتها وغموض هويتها داخل أعتى خزائن وزارته. واغفل البشارات باستنهاض المثقفين على مختلف ثقافاتهم وتخصصاتهم وتوجهاتهم ودياناتهم التى يقول قادته "علناً" انها العمد العامدة فى تأصيل الهوية الوطنية . و لكل جالس على نفَس الثقافة له الحق فى فشله الموروث عن أيدولوجية معافاة من الوطنية و الأخلاقية و التعبدية الحقة . و بسبب الإعتقاد الواهم بإمكانية قسر المجتمعات على تبنى ما ليس من مكوناتها الحصرية . نجحت الإنقاذ فى إبعاد المبدعين عن مجالات توسيع روافد الهوية في السودان. فكيف لمجتمع يتلجلج لسانه و معتقده أن يساق قسراً ليصبح عربياً إسلامياً بأمر الحاكم . و العروبة و الاسلام وجودها و إندياحها لم يكن قسراً فى الاصل و لم تبلغ مرحلتها المأمولة بعد . فكيف يمكن أن تستغل لفرض توجه عقائدى عرقى ،و الهويات لا تتشكل و تتناغم بحد السيف و لكنها تنبى تراكمياً أثراً بعد أثر .و بعد مجاهدات و مجابدات عسيرة مع النفس الامارة بالظلام و الظلامية . إعترف الانقاذيون بعدم قدرتهم على إجتثاث الثقافات التى يعتبرونها خصما لتوجههم الحضارى و معوقاً لتوجههم الرسالى . اليوم و قبل أن يخوض الوزير عميقاً فى خريدته التى قال بها نؤكد له أن الحكومة فعلاً فقيرة و الشعب فعلاً غنى بمكوناته .ولكن الثقافة لا تتأهل بنجر الكلام فقط .فالثقافةأصبحت اليوم موضوعا للتخطيط المستقبلي الذي يراعي الأولويات والتوازنات، ويرمي إلى تحقيق الأهداف التى تحفظ النسيج الاجتماعي. وتضمن حضور وإشعاع الدولة على المستوى العالمي، وتعمل على الانفلات من الهيمنة التي تحاول ممارستها انماط الثقافة التي تقف خلفها المنظومة المسيسة المستعلية فكرا و المستعصمة بعقيدة و ايدولوجية نافية للآخر . و مستغنية عن عونه واجتهاداته بل و تطوعه . و استنادا على هذه الارضية المعادية و النافية لم يستطع ايا من وزارء حكومة الانقاذ الوطنى بكل تحولاتها و تحويراتها و ائتلافاتها التخلص من هواجس الفردانية و التفرد شخوصا و اوهاما و توجسا و رعبا ، و هكذا وجدوا انفسهم رهناء لا يستطيعون تخطى الخطوط العريضة التى يضعها السياسيون للشأن الثقافى حفاظا على الراهن الواهن ،و حتى لا ينفلت من دائرة السلطة الى مرحلة التشارك القومى . الامر الذى حدّ من دورالثقافة المنوط بها و حولها الى اداة مسخّرة لاغراض و اهداف مخالفة لطبيعتها . وما لم تُفتح الابواب واسعةً و الحريات العامة و ترفع الاغلال الجاهلية عن العقليات الماسكة بالمؤسسات الثقافية و الاعلامية فلا مجال للإستفادة من غنى الشعب و ستبقى الحكومة فقيرة الجيب و الفطنة كما هى ؟أليس كذلك؟ [email protected]