كتاب ومثقفون سودانيون يتأملون مستقبل الثقافة في الشمال والجنوب الإبداع السوداني يقترب من الانفصال بين ثقافتي الغابة والصحراء لا تدعوا الانفصال يرفع جدار برلين الثقافي بين شقي الوطن ملامح الثقافة السُّودانية بعد الانفصال النتاج الثقافي الجنوبي كان مهمشاً بصورة غير معلنة رانيا مأمون الإبداع السُّوداني يتميز بأنه نتاج لتنوع إثني وديني وثقافي وحضاري، خلق له هذا التميز ثراءً وغنيً، فهو وليد عدة حضارات (الحضارة السودانية القديمة علي تنوعها، والعربية) وعدة ثقافات (الإسلامية والمسيحية والثقافات في الممالك النوبية القديمة) وعرقين هما العرق الزنجي الإفريقي والعربي المسلم. في الستينات تكوَّن تيار ثقافي باسم (الغابة والصحراء) شكَّل فكراً وتعاطياً وسطياً بين فريقين، الفريق القائل بإفريقية السودان، والثاني القائل بعروبته ، وفي هذين الرأيين خلاف لطبيعة الواقع، فالسودان بؤرة تلاقٍ كما يتضح تالياً. ظهر هذا التيار الإبداعي الفكري ليقول بامتزاج هذين العنصرين الذين يكوِّنان الإنسان السوداني دماً وثقافةً وتاريخاً، وهما الدَّم العربي والدَّم الأفريقي بما يحملانه من مكونات دينية وثقافية وحضارية. وامتزاج هذان العنصران بمحمولاتهما يكوِّنان السُّودان والثقافة السُّودانية. حمل راية هذا التيار مجموعة من الشعراء علي رأسهم: محمد المكي إبراهيم، النور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحيّ. الغابة ترمز للمكوِّن الأفريقي، والصحراء للعربي، أثَّر هذا التيار تأثيراً عميقاً في الهوية السُّودانية وتأصيلها، ونتج عنه زخماً إبداعياً متميزاً سواء كان للشعراء المؤسسين أو لغيرهم من الشعراء والكتاب والفنانين في الأجيال اللاحقة. وككل فكر هناك مؤيد ومعارضK ولكن هذا التيار مازال صامداً في بنية الوعي والفكر لشريحة عريضة من السودانيين. يشهد السُّودان هذه الفترة منعطفاً تاريخياً وسياسياً خطيراً ومؤثراً، ليس داخلياً فحسب، وإنما إقليمياً وعالمياً؛ حيث ستُضاف دولةً جديدة لعدد دول العالم، وقُطراً أفريقياً مجاوراً للأقطار التسعة التي جاورت السودان منذ تقسيم حدوده إبان الاستعمار البريطاني الذي انجلي في يناير1956م، هذا المنعطف هو تقرير مصير جنوب السُّودان من خلال استفتاء كان هو أحد أهم بنود اتفاقية السَّلام الشامل في نيفاشا 2005، والذي بموجبه يحقُّ للجنوبيين تقرير مصيرهم، إما وحدة ضمن الوطن الكبير والذي طالما كانوا مواطنين فيه، أو انفصال وتكوين دولة جديدة لها سيادتها. حاولنا في هذا الاستطلاع الوقوف علي آراء المبدعين والمثقفين السودانيين عن تأثير هذا الانفصال علي الثقافة السودانية، فالجنوب ليس بعيداً تماماً عن هذه الثقافة وإن كان مهمشاً علي اختلاف تعاقب الحكومات في السودان، رغم هذا التهميش فقد كان موضوعاً للإبداع للكثيرين من مبدعي الشمال، ولا يعني هذا غياباً تاماً للإبداع الجنوبي، لا، بل هناك مبدعون جنوبيون فاعلون في الثقافة والإبداع في السودان، وإن كانت للغة التي يكتبون بها دوراً في عدم انتشارهم في الشمال؛ فمعظم كتاب الجنوب يكتبون بالإنجليزية، عدا نذراً يسيراً منهم القاصة ستيلا قايتانو والتي ولدت وعاشت كل حياتها بالخرطوم، أيضاً من الذين يكتبون بالعربية آرثر غبريال، ومن الكتاب بالإنجليزية تجد: فرانسيس دينق، جونثان ميان نونيق، اغنيس لاكودو، يا كوب جل أكول، فرانسيس فليب، أتيم يا ألك وتعبان لولينق الحاصل علي جائزة البوكر لشرق أفريقيا، وغيرهم كُثر وقد ذكر الناقد معاوية البلال في (كتابة الجنوب وجنوب الكتابة) الكثير من الكتاب الجنوبيين. أما في الفنون تجد فرقة كواتو الموسيقية التي تؤدي الرقصات والأغاني الشعبية والتي تطورت من فرقة فنية إلي مركز ثقافي وهذا يدل علي وضوح الرؤية وطموحها، ونجد أيضاً فرقة ورباب الموسيقية التي تعني هي أيضاً بالفنون الشعبية. أما في المسرح تجد فيه علي سبيل المثال من الفانين الجنوبيين المخرج السماني لوال أرو، ومن الأعمال الفنية مسرحية مأساة يرول التي كتبها شمالي وأخرجها جنوبي هو السماني لوال. بالانفصال نفقد قسماً كبيراً من الإبداع السُّوداني، ولا أدري إن كان سيُصنف علي أنه إبداع سوداني في الرَّصد والتوثيق للإبداع السوداني لاحقاً أم سيُصنف علي أنه إبداع خاص بالدولة الجديدة التي لم يُحدد اسمها بعد! كثيرة هي العلائق بين الشماليين والجنوبيين (علائق زواج ومصاهرة وأبناء نتجوا عنها، علائق تجارة، علائق انتماء لمكان ولادة وصبا وتعليم، علائق صداقة وحب، علاقة وطن واحد، جنسية واحدة وجواز واحد) ولا أظنها ستنفرط بفعل سياسي وجغرافي وعرقي مع استصحاب أن ليس شمالييّ السودان هم عرب اقحاح، وإنما يجري فيهم الدَّم الأفريقي أيضاً. تباينت الآراء في هذا الاستطلاع، ولكنهم أجمعوا علي أن الأفريقانية لن تمِّحي من الثقافة السودانية. توجَّهتُ بأربعة أسئلة هي: غالباً ما تشكَّل هيكل الثقافة السُّودانية من عنصري الغابة والصحراء، كيف تنظر إلي ملامح الثقافة السُّودانية بعد الانفصال؟ ما هو تأثير الانفصال علي خارطة الثقافة السودانية برأيك؟ في ظل خطاب عروبي إسلامي هل تتوقع أن تذوب السِّمة الإفريقية التي شكَّلت البُعد الثاني في الثقافة السودانية وميَّزتها في خضم هذا الخطاب ولو بعد حين؟ وأنهي الجميع كلامهم بحلمٍ ذاتي لكل واحد منهم استناداً علي السؤال: كمبدع ومثقف سوداني ما هو حلمك علي المستوي الذاتي للسُّودان وثقافته؟ سوف يصغي لهم العالم باهتمام محمد المكي إبراهيم الولاياتالمتحدة عاش الجنوبيون طيلة بقائهم معنا علي هامش المجتمع لا تسمح لهم ظروفهم المادية بترف الإبداع ولا احد يريد أن يصغي إلي إبداعاتهم إن وجدت. أما الآن وقد تحرروا من الهامشية فان إبداعهم سيتزايد وسوف يصغي لهم العالم باهتمام، وبذلك تتكامل ثنائية الغابة والصحراء للمرة الأولي وتصبح ذات بعدين واتجاهين. سوف نسمع من الجنوبيين زغرودة فرحهم بالخلاص، وذلك علي هيئة أغان ورقصات، وعلي هيئة لوحات ومنحوتات، وبنفس الوقت سوف يزودوننا بكتاب فظاعاتنا وقسوتنا في زمن الاقتتال. ومن هذين العنصرين /الفرحة ومسلسل الفظاعة سنفهم عن ذاتنا الجمعية، ونعرف حقيقة ما ألحقنا بالجنوب والجنوبيين من الأذي البليغ علي مدي عيشنا المشترك. ومن كل ذلك سنتعلم كيف نصبح بشرا أفضل وأخوة أفضل. إن الأخوة العرب غاضبون منا أقصد من الحكم القائم الذي يعتبرونه سببا في تقليص الظل العربي وتجديد مأساتي الاندلس وفلسطين، وسيكونون أكثر استعدادا للتعاطف مع المعارضين للحكم وذلك بدافع قومي لا يعرف المهادنة. ولا اعتقد أن العرب سيرحبون بإبداعات النظام الطالبانية في الدين الإسلامي، ومن الجهة الأخري لا اعتقد أن للنظام إبداعا أو قدرة علي الإبداع في اللغة العربية. وفي كل الأحوال كانت العربية وسوف تظل لغة السودان وهي بنفس الوقت اللسان الأول للإبداعات السودانية وبتوسيع قاعدتها يوسع النظام نطاق التلقي لإبداعنا وليس ذلك بالشيء الكعب. إلا أن السمات الأفريقية في ثقافتنا سوف تظل تتنامي رغم كل ذلك وبأيدينا نحن الكتاب والفنانون، فلعلك تلاحظين أن المجال الإبداعي ملكٌ خالص لنا نحن المثقفون، وليس للدولة فيه من يد كبري، وعن طريق مفاكراتنا وترجماتنا وتدبيرنا سيظل الوتر الأفريقي في العقل السوداني مشدوداً علي الآخر. أرجو أن لا ندع الانفصال يرفع جدار برلين بين شقي الوطن، وان نعبر فوقه لنكتب نصوصنا للفنانين الجنوبيين، وأن يردد فنانونا أغاني الجنوب القادمة، وان نتولي ترجمة كتاباتهم وأن نراسل صحفهم ونتحدث في إذاعاتهم. وكل ذلك أملاً بتحقيق الحلم الذي جأر به مثقف سوداني ممتاز هو كمال الجزولي مناديا بقيام اتحاد بين دولتين مستقلتين، ووجد صداه في محاورة بين رئيس الجمهورية وفضائية الجزيرة. قرار الانفصال سليم من وجهة النظر الجنوبية وكان لا بُدّ منه، ولكنني أحلم بالقفز فوقه إلي وحدة أعمق. ثقافة الغابة والصحراء اعتقاد خاطئ هشام آدم القاهرة في اعتقادي الخاص أن ظننا بأن الثقافة السودانية هي مزيج من ثقافة الغابة والصحراء هو ظن خاطئ، أو غير دقيق. فالثقافة السودانية لم تقم في أساسها علي مكوّنات خلاسية هجينة بين ثقافتين إحداهما عربية والأخري أفريقية، هذا الاعتقاد يجعلنا ندخل الثقافة العربية قسراً في وصف الثقافة السودانية باعتبارها ثقافة أصيلة بينما لا أري الثقافة العربية إلا ثقافة دخيلة، من حيث أنها ثقافة مستعمر حتي وإن لم يكن الاستعمار بالقوة العسكرية، وهنا يجب التفريق بين العروبة وبين الإسلام إذ لا أجد أي علاقة بينهما خارج إطار الديانة الإسلامية في الجزيرة العربية، فالإسلام لم يدخل السودان بوصفه أحد عناصر الثقافة العربية، بل بوصفه ديانة فرضت نفسها علي الساحة العالمية في ذلك الوقت، واجتذبت قطاعاً واسعاً من الجماهير والشعوب، وارتباط اللغة العربية بالإسلام هو ما يتسبب لنا بخلط واضح بين العروبة وبين الإسلام. ومن هذه الناحية فإنني لا أري أن ما أثر علي السودان -كمجتمع أفريقي- ليست هي الثقافة العربية بل الثقافة الإسلامية، وإن كانت المقولة تعني بال(الصحراء) الديانة الإسلامية، فهي مقولة صحيحة ولا غبار عليها، ولا أري -عندها- الثقافة السودانية متأثرة -بقليل أو كثير- بعملية الانفصال، لأن الانفصال رغم تمظهراته السياسية والاقتصادية والطبوغرافية إلا أنه انفصال ديني في المقام الأول كما أراه، وسيظل المكوّن الأفريقي موجوداً سواء انفصل الجنوب أم لم ينفصل، لأن الأفريقانية هي الأسبق علي الإسلاموية في السودان. عني شخصياً، لا أعتقد أن خارطة الثقافة للسودان سوف تتأثر كثيراً بعملية الانفصال، لأن المنتوج الثقافي الجنوبي كان - حتي قبل الانفصال- مهمشاً بصورة غير معلنة وغير صدامية، وغياب هذا المنتوج عن الشمال السوداني لن يُؤثر فيه، وإن كنت أري أثره الإيجابي واضحاً في الجنوب بعد الانفصال، هذا إن كانت حكومة جنوب السودان سوف تولي الشأن الإبداعي والثقافي أولوية ضمن برامجها، وإن لم تكن تنوي اتباع سياسة الشمال في تعاملها مع العنصر الثقافي والإبداعي بشكل عام. إلا أنني أعتقد أن الانفصال (سواءً للشمال أو الجنوب) سوف يخلق حالة من الانتعاش الإبداعي والثقافي عبر إنتاج موضوعات وثيمات سوف تضاف إلي قائمة الأغراض والموضوعات الثقافية الموجودة حالياً، وأعني بذلك الموضوعات المتعلقة بالاغتراب الداخلي أو ما قد يُمكن تسميته بأدب المنافي أو أدب الاختلاء الوطني. هيكل الثقافة السودانية لم يقم بعد قصي مجدي سليم الخرطوم أختلف "مفهومياً" مع السؤال من حيث تقرير حقيقة أن (هيكل) الثقافة السودانية قد تشكّل، وأن ملمحي التشكّل هما الغابة والصحراء! في حين أن اعتقادي - وحسب السانحة المكفولة لي- يمكن إيجازه بأن هيكل الثقافة السودانية لم يقم بعد! ولقد فشلت الدولة السودانية، وفشل المجتمع السوداني، في صهر الثقافات السودانية المتعددة-والتي تتجاوز الغابة والصحراء للبحار والجبال والتلال الخ- صهرها في قالب يتسع للتعدد، ويديره بحرفية تُستَخدَم الثقافة - في هذا الإطار- كوظيفة لتحقيق السعادة والرفاهية - دون الإخلال بأي تعريف آخر للثقافة من حيث أنها الكل المتعدد للثقافات والعادات الخ.. أو، مظهر لنبوغ الإنسان وتقدمه وإبداعه من خلال اختزال المعرفة البشرية ودراستها وتصنيفها. وما بعد الانفصال لا يختلف عما قبله إذا استمرت الدولة واستمر المجتمع في ذات التجاهل للتعدد، حيث سيستمر شكل (شبه الهيكل) الثقافي السوداني (خصوصا الشمالي) في ذات حالة الإنكار(denial) لوجود أزمة تعوق بنائه واكتماله. إن تمظهر الثقافة في الشمال (الحديث) نجده في أوعية مثل (الحركات السلفية، الحكومات الشمولية، الزعامات المتناقضة مع ذاتها، التدني المعرفي، الاقتصاد شبه رأسمالي الطفيلي، النزوح، الحروب الخ..) هذه الملامح يمكن أن تذهب للأفضل وتتطور للأسوأ حسب المعالجة المجتمعية والحكومية، في رأيي أنها ستتجه للاتجاه الثاني، في حين أني أتمني أن نتجه نحو الاتجاه الأول. إن هذا أمر معقّد، ويحتاج لروية، ويحتاج لتحديد (ماذا نقصد بالسودان؟ هل نقصد الشمال، أم الجنوب، أم الاثنين معاً؟)، وكما قلت سابقا- فإنه لا توجد ثقافة سودانية واحدة - فبالتالي لن يكون هناك تأثير علي (ثقافة) واحدة، وإنما سيكون هناك تغيير كبير لثقافات عدة، خصوصا فيما يتعلق (بنمط العيش) والثقافات الاقتصادية عموما. سيؤثر الانفصال علي (الشمال) من حيث التركيبة السكانية بصورة كبيرة وملحوظة، كما سيحدث الأمر ذاته بنسبة أقل بالجنوب، كما سيتجه الشمال نحو المنطقة العربية بصورة أكبر مما سيعزز حالة (الإنكار) ومما سيسبب له صدمات ثقافية لا حصر لها. في حين أن الاتجاه الأفريقاني للدولة الجنوبية سيكون أقرب للحقيقة ولكنه أيضاً لن يُواجه بقبول كامل من أقليات (شبه عربية ومسلمة) توجد بالجنوب. كما بدأت فهو أمر معقّد ويحتاج لحديث أطول من هذه السانحة. كما قلت- وسأعيد مرات عدة - فإن أهم ميزة توجد لدي غالبية سكّان الشمال هي (الإنكار) يصاحبها علي الدوام ميزة التزييف ولي الحقائق -كمثال- فإن السؤال يضع السمة الأفريقية تشكّل بعداً ثانياً في الثقافة السودانية، وهي من الموروثات الثقافية التي تنكر حتي أنها تسكن وتعيش وتتنفس في (أفريقيا)، والتي تعلم أن أي هجرات مهما بلغ كثرتها لا يمكن أن تحول (ديموغرافيا) بلاداً بأكملها وتحل جنساً آخراً بدلا عنهم! لقد دخل العرب الي السودان ولكنهم صاروا نوبة ولم يصر النوبة عرباً! أما القبائل الرعوية العربية التي تعيش في كردفان والبطانة فهي حديثة الدخول إلي أرض السودان (وفي هذا الإطار فإني أوصي بمراجعة أطروحة دكتور الباقر العفيف مختار حول الهوية والحرب الأهلية في السودان). حتي لا أطيل فإن السمة الأفريقية هي السمة الأولي، وهي لن تنتهي مهما حاول غلاة العنصريين. حلمي الأساس هو للإنسانية جمعاء، حلم أن يعم التسامح وتعم الديمقراطية، ويعم السلام. هذا هو النظام (العالمي) الذي يمكن من خلاله أن تدار قضايا الثقافة، وتتشكل ملامح الهوية، وتزدهر الحضارة البشرية علي الكوكب.. هنا فإني أدعو بدعوة الأستاذ محمود محمد طه: بخلق رأي عام لا يضيق بأنماط السلوك المختلفة! عليه فليكن واضحاً أنه لا سبيل للسلام والأمن والسعادة دون الديمقراطية، وأن الانفصال هو نتيجة طبيعية لسوء الإدارة والشمولية، وهو يحدث بين الإسلاميين أنفسهم، وليس بينهم ومخالفيهم في الرأي فحسب، فهم (لهم قلوب لا يفقهون بها). السمة الافريقية أهم ملامح الابداع السوداني محمد الخير حامد الخرطوم بالتأكيد إن انفصال السودان الذي بدأت ملامحه تلوح في الأفق سيفرز واقعاً ثقافياً جديداً، وسيترك أثراً بالغاً في الوجدان السوداني والمبدعين بشكلٍ خاص، مما سيؤثر كذلك علي الإبداع السوداني الناتج منه بشكلٍ عام، و من المتوقع أن يفرز مدارساً ورؤيً فكرية جديدة كما هو الواقع الجديد المعاش، فالمبدع مرآة لمجتمعه، وهو يؤثر ويتأثر بالمجتمع بالتأكيد. أستبعد أن تذوب السمة الأفريقية (الافريقاني) التي ظلت من أهم سمات الإبداع السوداني ومصدر تفرده بين الإبداع العربي والأفريقي مهما كانت الظروف. أري أن المبدع السوداني سيظل كما هو من حيث النزعة المزدوجة لاعتبارات جينية معلومة، و لكن واقع الانفصال إذا حدث سيغير بالتأكيد من قيمة كثير من الأعمال الإبداعية التي ظلت تمجد و تصفق لوحدة السودان. أتمني أن يعي المثقف السوداني في ظل الانفصال والواقع المعاش دوره الذي يجب أن يلعبه في توثيق المرحلة وتوجيه الوجدان السوداني إلي ما هو خير للإنسانية للوطن بشكل عام، و أن يجنب الله وطننا التشتيت والتفرق. البلد الإفريقي متعدد الثقافات منصور الصويِّم الخرطوم بداية لا بُدّ من تثبيت أن مصطلح (الغابة والصحراء) أسس له سودانياً من قبل مؤسسي المدرسة أو الحركة الأدبية التي حملت ذات الاسم، وهي تحاول وضع حلول لإشكالات الثقافة السودانية متمثلة في مأزقها الأكبر وهو الهوية، واجتراح (الحل) لدي هذه المدرسة جاء عن طريق خلق تصور شعراني/ أدبي يتم فيه المزج بين الهويتين (الغابة - الإفريقية والصحراء - العربية)، حلاً لإشكال الهوية المؤرق حينها وإلي الآن، وهذا الحل الشعراني - الفكري نوعاً ما يظهر جلياً في أعمال مؤسسي هذه الحركة الأدبية وأشعارهم (النور عثمان أبكر، د. محمد عبد الحي، محمد المكي إبراهيم). ثانياً وفي محاولات لاحقة لمفكرين وأدباء سودانيين تبنوا هذا الخط أو أمنوا بالفكرة؛ تبين لهم أن السودان وهويته المتمأزقة؛ سواءً قسمته إلي غابة وصحراء (شمال وجنوب)، أو أخذته شمالاً فقط ستجده مكوناً أيضاً من هذه الثنائية المدهشة (غابة وصحراء)، باعتبار أن الإفريقية متجذرة في هذا البلد الإفريقي (متعدد الثقافات) وهذا ما دعا بعض المفكرين السودانيين لاجتراح آخر ومدرسة جديدة هي (السودانوية)، التي تنادي للاعتراف (بسودانيتنا) قبل كل شيء سواء كنا صحراء /غابة أو غابة/ صحراء وهذا يظهر بوضوح في كتابات ورسومات المفكر التشكيلي الراحل أحمد الطيب زين العابدين وبعض الدراسات والاشتغالات التشكيلية والأدبية الحديثة لكثير من المثقفين السودانيين، إذن وبالعودة للسؤال فما أراه أن الانفصال لن يخل بعمق الثقافة السودانية في تكاملها الإفريقي العربي، بمعني أن ذهاب الجنوب لا يعني ذهاب الثقافة الإفريقية (الغابة)، لأن هذه الثقافة مكون أساسي من مكونات الثقافات السودانية وضامن أساسي لاستمرارية هذه الثقافات، وحدوث أي تعالٍ أو إنكار من قبل ثقافة المركز (الصحراء) لهذه الثقافة يعني ذهاب ما تبقي من السودان - جغرافية وثقافة وشعباً. بالتأكيد حدوث الانفصال سيخلق فراغاً ثقافياً بالمعني الإجرائي وهذا سيكون علي المدي القصير، بما يعني توقف خفوت وتراجع بعض النشاطات والاشتغالات الفنية (أدبية، بصرية، فكرية وتشكلية وغنائية راقصة)، لكن هذا التوقف أو التراجع سيكون مؤقتاً ومرحلياً - بسبب غياب الحريات وعلو صوت ثقافة أُحادية تحاول الهيمنة علي باقي الثقافات السودانية وإقصاءها؛ فهو مرحلي لتجذر هذا التزاوج والتوالد الثقافي سودانياً ولاشتغاله في عمق الثقافات السودانية، فالفصل الحدودي والسياسي يقف عاجزاً أمام التلاقحات الثقافية لشعب (شعوب) تتمازج ثقافاتها منذ أمد بعيد. السودان في الأساس بلد إفريقي وثقافته ثقافة إفريقية والمكون العروبي الاٍسلامي مكون طارئ، لكنه شكل بعداً أساسياً بعد دخوله السودان في تكون الثقافات السودانية، كما أن السودان بشكله الحالي - عقب الانفصال - أكثر مكوناته الثقافية والإثنية إفريقية (غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً جديداً) - هذا في حال اعترافنا بإثنيات عربية خالصة -، نعم قد يعمل تصاعد الخطاب العروبي الإسلامي ولو لزمن يطول أو يقصر علي قمع الثقافات الأخري، لكنه سيواجه بعمق وتجذر وتغلغل هذه الثقافات (الإفريقية) في النسيج السوداني؛ وحينها سيسقط هذه المشروع (الخيالي)؛ الذي ظل يعمل وما يزال يعمل علي عمق سطح الهوية السودانية وليس في عمق العمق لهذه الهوية. ما أحلم به وأعمل لأجله هو أن يكون هناك اعتراف حقيقي بمختلف الثقافات السودانية وإعطاءها حقها الكامل في الوجود والتعبير عن ذاتها؛ لأن هذا الاعتراف هو ما سيُحقق للسودان استقراره وأمنه.