لا اعرف ثقافة عربية اشتكت من ضيق فرص النشر كما اشتكت الثقافة السودانية ولا ثقافة تأثرت بذلك كما تأثرت ثقافتنا. فقد ذهبت عنا أجيال من المبدعين دون أن يروا إبداعاتهم مضمومة بين دفتي كتاب والسعيد المحظوظ منهم رأى واحدا فقط من إبداعاته تنال شرف النشر. أما إعادة الطبع و ظهور الطبعة الثانية والثالثة فحلم بعيد لم يخطر لمبدعينا ببال. وعلى العكس من ذلك كثيرا ما ظهرت آثار الكثيرين من مثقفينا بعد ذهابهم عن الدنيا وذلك على أيدي أصدقاء أوفياء أو ورثة متعففين. فالتجاني يوسف بشير قضى نحبه دون أن تكتحل عيناه بمرأى إشراقته الوحيدة. ولم يعرف المجذوب طريقه الى النشر إلا بعد قيام لجنة التأليف والنشر على يدي الوزير الماجد عبد الماجد أبو حسبو من رجالات الحزب الوطني الاتحادي وهي نفس اللجنة التي قررت -كرما منها وأريحية- نشر ديوان (أمتي) لكاتب هذه السطور. فكان ذلك بابا من أبواب الحظ دلف منه الأستاذ وتلميذه. ثم تحسنت الأحوال قليلا مع ظهور دار النشر التابعة لجامعة الخرطوم والرجال الميامين الذين تعاقبوا على رياستها وأولهم البروفسور على المك وآخرهم الدكتور زهير حسن بابكر. ومن ثم حدث الزلزال الالكتروني الكبير الذي أبطل سحر المطبعة والكتاب المطبوع وبدد عظمة الابتكار الذي قدمه السيد جوتنبرج للحضارة البشرية باختراعه الطباعة. وغدت الآلة الطباعية متاحة بأزهد الاسعار بوصفها صناعة آيلة الى الزوال. استطيع أن اقول عن الديوان الذي بين يديك وعن شاعره أنهما من ضحايا فقر المطبعة السودانية الذي لا يحتاج الى تدليل. وبوسع القاريء الكريم أن يلاحظ معي أن أقدم قصائد الديوان مكتوبة في يونيو1977 وأحدثها بتاريخ 24 مارس 2003 أي أن عمر أقدم قصيدة قرابة 26 عاما وعمر احدث القصائد لا يقل عن اثنتي عشرة سنة وعلى ذلك فقد انتظر هذا الشعر في التبريد العميق أكثر مما ينبغي للشعر أن ينتظر وظاهريا قد لا يضير ذلك بجوهر الشعر ولكنه شديد الإضرار بالشاعر ف‘ن تكديس الدواوين دون نشر يوهن عزيمة الشاعر ويصرفه عن مواصلة الانتاج مقتنعا بعدم الاستمرار في مزاولة مهنة كاسدة ومتى توقف الشاعر عن كتابة الشعر فإنه يتوقف عن التجديد فتنشأ الطرائق الفنية الجديدة فلا تحرك فيه ساكنا ولا يسهم مع جيله في مواكبتها وممارستها وتطويرها فيفوته قطار التجديد وفرص الكتابة بالأساليب الحديثة وإذا استمر ذلك المنوال سيجد نفسه منتميا الى جيل غير جيله وزمان غير زمانه. نحن الآن مع شاعر ممتاز سليم الأداء سلامة لا تصدق خاصة من حيث الأذن الموسيقية التي تمتحن وتدوزن التفاعيل. ودون خوف من الزلل استطيع أن أقول أنني لم أقع له في هذا الديوان على بيت واحد مختل العروض ولم أقف له على خطأ في النحو أو الصرف أو توزيع القوافي وذلك من وليس كل المقومات الاساسية للشاعر القدير. ثم تأتي بعد ذلك قدرات الرؤيا والتخييل والفردانية وقدرات السخرية واصطياد المفارقات انطلاقا من فلسفة الشاعر وسيرته الحياتية. ومن كان يمتلك تلك القدرات والمقدرات لا ينبغي له أن يصوم عن الشعر لعقد كامل من الزمان. وإنني لأتمنى من صميم قلبي أن يستدرك الشاعر موسى إبراهيم ذلك الواقع الأليم ويعاود انتاج الشعر بروح جديدة وشهية مفتوحة. وشخصيا اطمع أن أراه يجدد مواضيع شعره بالانغماس في بيئة منطقته الفاتنة ويصورها لنا نحن محبيها وعشاقها. نريد أن نرى في شعره اشجار الجوغان العملاقة وجماليات البوطة الممتلئة في زمن الخريف وجمالياتها حين يصيبها جفاف صيفنا اللاقح. نريد أن نعرف مشاعر الراقصين والراقصات على أنغام المردوم وما يحدث بين الفتيان والفتيات في رحلة المسار كما نريد أن نعرف من تصويره الشاعري معنى هذه الرحلة السنوية إلى ضفاف نهر العرب. ولا احتاج أن أقول لهذا الشاعر القدير إنني لا أطالب بقطع وصفية أو ريبورتاجات عن تلك البيئة الفريدة وإنما التمس منه رؤاه الشعرية لتفاصيل تلك الحياة ومفردات تلك البيئة وذلك زيادة في تشجيعه على العودة لفن الشعر العظيم. *في قصيدته الشهيرة عن الحمى يقول المتنبي معاتبا طبيبه المداوي: يقول لي الطبيب أ كلت شيئا. وداؤك في شرابك والطعام وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام والله نسأل للشاعر موسى إبراهيم أن لا يكون قد أضر بملكاته الشعرية طول الجمام من كتابة الشعر وإنشاء القصيد وأن يعود لفنه الرائق مصابا بحمى الحماس لفنون القول الشعري والراحات النفسية الكبرى التي يوفرها لمرتاديه. ++ [email protected]