وقف حسين عند سلم الطائرة قليلاً وهو ينظر الى سماء مدينته التي غادرها في ريعان شبابه ..سرح قليلاً حتى أفاق على صوت من يستأذنه بالمرور الى أسفل ، فتحرك حتى لامست قدماه تراب وطنه بعد أربعين عاماً قضاها بعيداً عن أهله ! جثا على الأرض يلثمها وقد وضع حقيبة بائسة فيها القليل من حصاد غربته الطويلة ..و الكل ينظر اليه في استغراب وسائق الحافلة التي تقل الركاب الى صالة الوصول يستحثه بالصعود دون أن يعبأ بتلك المشاعر التي إنزلقت عبر عينينه الذائغتين دمعات حرى حجبت عنه كل الوجوه وملامح الأشياء من حوله ! لم يعرف أحداً فكل الناس من حوله تركض سعياً وراء الخروج ..نظر اليه ضابط الجوازات ملياً وهو يتأمل وجهه المذهول .. وسريعا وضعت ضابطة الجمارك علامة على حقيبته الخفيفة ولكنها بالطبع لم تؤشر على حقيبة ذكرياته التي تثقل رأسه ! سأله سائق سيارة الآجرة عن وجهته .. قال بيتنا في حي النهضة .. بالقرب من بقالة مصلح اليماني .. فنظر اليه السائق في ريبة و ظنه يمزح وبادله ضحكة صفراء .. فهو فقط يفكر في استغلال هذا العائد للخروج بصيد ثمين طالما أنه لم يعد يعرف تبدل الأمور وقيمة المشوار ! لم يجد شارع الحي كما تركه في ذلك الزمان مجلساً لأهله .. فالبيوت التي كانت تفتح ابوابها على بعضها موصدة لا تفتح إلا لماماً ..! في اليوم التالي حاول الخروج الى قلب المدينة للبحث عن أصدقاء تركهم هناك حيث كان يعمل في إحدى المصالح الحكومية ..! دلف الى تلك البناية العريقة .. لم يجد كرسي عم سيد الحارس .. إستوقفه شاب يرتدي ملابس ملونة و كسكته وعلى صدره كتبت عبارة أمن خاص .. قبل أن يدخل التفت ناحية مكان ابوحنفي صاحب طاولة الشاي والقهوة يمين المدخل ، فوجد سيدة شابة حسناء تجلس خلف منقد كبير و أواني كتيرة وهي تعمل جزلة وتتبادل الضحكات والنكات والقفشات مع شبانا وشابات ..! عبر كل ممرات البناية التي لم يتعرف حتى على رائحتها التي لطالما علقت في ذاكرة حاسة شمه .. و تبدلت اللافتات التي كان يعرف أصحابها فرداً فرداً .. مكتب باسيلي المحاسب القانوني .. تحول الى صالون لتجميل السيدات وحينما أمسك بمزلاج الباب وقعت في نظره لافته صغيرة كتب عليها ممنوع دخول الرجال .. ثم تسمر قليلاً عند مدخل مكتب خليل المحامي .. يا الهي ما هذا حينما وضع قدمه عند صالة المكتب وجد مجموعة من الفتيات والفتية يفترشون الأرض وهم يتناولون الأفطار .. نظروا اليه في دهشة وهم يستفسرون عن سبب دخوله المفاجي .. لا حظ أنهم لم يهتموا كثيراً لدعوته مشاركتهم .. فوقف أحدهم بعد ان نفض يده وساله .. أية خدمة يا حاج .. قال أسال عن خليل .. نظروا الى بعضهم في دهشة وهم يستمعون الى صوته وهو يتهته .. الأستاذ خليل المحامي كان هنا منذ اربعين عاما .. شخصوا فيه بعد أن شكوا في سلامة عقله .. قالوا بصوت واحد .. هذا المكان هو معهد لتعليم اللغات ! لافائدة إذن .. خرج يجرجر خطاه المجهدة بعد أن تيقن أنه لن يجد أحداً من أهل زمانه ! إنغرس في زحمة الشارع وهو يمخر عباب البشر وهم يزحفون في كل الإتجاهات وكأنهم بلا أهداف .. وجوه لا يعرف منها احد ويسأل نفسه المفعمة بالإحباط هل من يعرفه في هذا الزحام .. الكل يتحدث بالهاتف النقال .. يلتقط في مروره بعض مفردات تلك المحادثات ..شاب يتحدث الى طرف آخر في حدة وهو يسأله عن إستحقاقه من العمولة .. ثم تمر بجانبه فتاة تقول لطرف ثان .. ماذا يفيد الحب أو شهادات الشباب .. أنظري الى مصالحك يا بنت وتزوجي المروّق ..لابأس جاهل جاهل ولكن جيبه مرطب .. ماذا أستفدتي أنت من شهادتك الجامعية حتي تبتلين بواحد خريج مفلس مثلك ! حينما هم بعبور الشارع المزدوح المزدحم بأرتال السيارات وقف في المنتصف يجتر كل الصور الغريبة التي صدمته في اليوم الأول وهو يتأمل ملامح مدينته القديمة التي بدت كوجه سيدة عجوز تضع الواناً من أصباغ التجميل التي شوهتها بالكامل .. توقفت حركة المرور من جانبي الطريق وتعالت أصوات الالات التنبيه حتى أطل سكان البنيات لإستطلاع ما يحدث . ! أحد سائقي الحافلات يمد رأسة وهو يخاطب حسين المشدوه بسخرية وتهكم .. قائلا يا عم هم لا يقفون هنا .. إذهب وأحجز لك مكان في إحدى صواني الحركة ! نظر حسين الى أعلى فقد سقطت شمس النهار الحارة على رأسه الحاسر .. ثم تلفت يمينا ويسارا ثم نظر أمامه وخلفه .. فاستغرب أن تسقط عليه الشمس دون ان يرى لنفسه ظلاً .. فصرخ مهلوعاً وهو يركض وسط ضحكات المارة .. يا جماعة اين ظلي .. أريد ظلي .. أريد ظلي .. ولم يجده حتى عند حافة الصينية التي وجد بالكاد موطئاً لقدم فيها بين ظلال كثيرة تحدث نفسها ولكنها بلا شخوص ، بينما هو يتحدث الى نفسه ويتحثث جسده .. ولكن ظله لم يكن بين تلك الظلال ..! [email protected]