البرتقالة المسمومة موقع الأحداث: بعد إنهيار مشروع حسب الرسول بفترة وجيزة (عدة سنوات كانت لازمة لتصفة المشروع) آلت البيوت السبعة للقرية الصغيرة النموذجية لعدد من الأسر (ملاك الأراضي أو/و مدراء المشروع السابقين). كانت البيوت مشيدة من الحجارة والقرميد على النسق الإنجليزي التقليدي كون المشروع بدأ تنفيذه في العهد الإنجليزي في حدود العام 1940 وانهار في بداية السبعينات. وعلى صغر مساحته بالمقارنة كان الأضخم من نوعه في كل المنطقة الواقعة جنوبالخرطوم. يقع المشروع داخل جزيرة أم أرضة وكانت الوابور والقرية النموذجية في الركن الجنوبي للجزيرة حوالي ثلاثة كيلومترات شمال خزان جبل أولياء. الإستراحة الكبيرة (قصر حسب الرسول) كانت من نصيب أحد أهم موظفي المشروع وهو ود اللغا وأسرته من ود النقيدة. والبيت المحازي للإستراحة من ناحية الشمال آل إلى عبد الله ود مصطفى (أيضاً من موظفي المشروع) من ود أبو دروس. وتوزعت بقية البيوت على بعض الملاك الأساسيين للأراضي بالوراثة وهم: الحاج محمد الطريفي مردس ومحمد موسى وجمال الدين حامد (الوالد) جميعهم من ود أبو دروس والسر أن والدة حسب الرسول من ود أبو دروس وهي جدتي عمة أمي المباشرة (دار السلام بت الطريفي). بالإضافة إلى ذلك كان هناك بيتان لم يعمرا طويلاً وهما: بيت المهندس الفني للمشروع وإسمه سعيد (حلفاوي) كان معظم الوقت يقيم مع أسرته في ديم البساطاب (وكان عنده ولد إسمه الطاهر رافق الوفد السعيد من باب الشمشرة إلى مستشفى الجبل يوم طهوري وقد سبق أن إستفتيته في أمر الطهورة بوصفه زول خبرة فما طمني كلو كلو، لوى خشمه وقال لي: ( والله حاااااره، بس أنا ولا بكيت) وانا كنت محنن ولابس هلال. ويملك سعيد أبو الطاهر حديقة قريبة من وابور المشروع كنا نسميها "جنينة سعيد" كان يزرع بها عدد من الفواكه وكنا نسرق منها المنقة. كما كان هناك بيت على ود اب دية وزوجته كاكا من قرية أم رباح. أقمنا ثلاثة سنوات في ذاك المنزل ثم رحلنا إلى أرض جدنا الفكي فضل الله حوالي كيلومتر ونصف ناحية الشمال من وابور حسب الرسول. في خلال تلك الثلاثة سنوات تعرضت عبر المصادفة لحادثي تسمم غذائي (الأول سمك والثاني برتقالة طافحة في النيل) مازالت تلك البرتقالة تمنعي شراب موية النيل حتى تاريخ اليوم (تسببت في حساسية دائمة). كان بيتنا ملاصق لبيت خالي الحاج من ناحية الجنوب وخالي محمد موسى من ناحية الشمال متزوج من خالتي مهدية بت البشير. وكانت هناك إشتراكية تامة في الطعام والشراب والأمن كون الناس أهل من الدرجة الأولى. عندما يصبح الصبح انت لا تعلم أين ستشرب الشاي ولا أين تكون وجبة الإفطار حتى تحدث الأمور بشكل تلقائي وتجد نفسك في المكان الذي يتقرر بتشاور تلقائي بين الكبار وكأنه الهمس وأنت تشرب وتأكل وتمشي تلعب في تلك الأجواء البديعة على شاطي البحر في أمان لا تشوبه شائبة. خالي الحاج متزوج للمرة الثانية من بخيتة بت الدكر "ما من البلد" وهي إمرأة ذات خواص نادرة: لطيفة وحنينة وكريمة كرم شديد "جوده جود أروش". وقيل في الروايات تحت تحت أن خالي الحاج أرتبط بها لسببين الأول شهرة أسرتها بالنبل والكرم والثاني "مهرب" إذ أن أهل بخيتة بيلدو البنين وقد إختص الله أهلي الطريفاب بالبنات دون البنين وهو أمر كان مقلقاً جداً لحبوبتي آمنة بت حماد. بخيتة تخصص سمك وخالتي مهدية تخصص تقلية وأمي عندها مرتبة الشرف في ملاح النعيمية. تصادف في يوم من الأيام النادرة أن كان سمك بخيتة بايت. فتسممنا أنا وعبد الرافع والصديق أولاد محمد موسى وعبد القادر ود بخيتة ذاتها وعدد آخر لا أذكره من الأولاد الصغار. فأخذونا عابرين النهر عبر الفيلوكة إلى النقطة الصحية بقرية ود مختار المجاورة فأدونا حبوب بيضاء أظنها سلفا وشربونا موية وبعد عدة ساعات بقينا كويسين وأنا مشيت مع أمي بتنا عند ناس كادوم زوج بت خالتي مهدية (زينب) وكانت والدة طفلة جديدة جميلة إسمها "منال" هي الثانية بعد السيدة. تسمم السمك مر بسلام. لكن بعد عدة أشهر لاحقة وجدت برتقالة على شاطي البحر جاء بها تيار الماء من ناحية خزان جبل أولياء إلى حيث أقداري. البرتقالة المسمومة: في العام 1937 أكتمل إنشاء خزان جبل أولياء بهدف تعويض مصر المياه المستخدمة في ري مشروع الجزيرة الذي تأسس في العام 1925. وظل الخزان تحت الإشراف المباشر للحكومة المصرية وحتى العام 1977. وهناك قرية في جبل أولياء إسمها "المستعمرة" كانت مقر الوفد المصري المشرف على الخزان. هذا الخزان لم يغير البيئة الطبيعية فحسب بل أيضاً الديمغرافية "التركيبة السكانية" والمزيد "الخيال" خيال الناس وثقافتهم فأصبح كل شيء مصري الذوق والزوق فجميع المدارس كانت مصرية وأهمها مدرسة جمال عبد الناصر الثانوية فعلى سبيل المثال كانت دفعتي أول دفعة تدرس بالمنهج السوداني في الثانوية العليا وذاك هو السر البسيط أنني درست بجامعة الخرطوم دون الكثيرين إذ كان في السابق كل الناس الناجحين يقبلون بجامعة القاهرة الفرع لا الخرطوم لإختلاف المنهج الدراسي. وقامت صناعة السمك وأهمها "التركين" بغرض التصدير إلى مصر وحدث المزيد قبل ذلك: غمرت المياه عشرات الألاف من الأفدنة الخصيبة ناحية الجنوب وحتى مدينة الدويم. وكما أسلفنا تغيرت التركيبة الديمغرافية بجبل أولياء بشكل حاسم ونهائي. تأسست المستعمرة ثم الحلة الجديدة فحلة التجار من أناس جاءوا من شمال السودان وأرجاء أخرى من البلاد وتأسس مجمع التدريب العسكري وكان هناك عدد كبير من الخبراء والمخابرات والعسكريين المصريين منهم جمال عبد الناصر وحسني مبارك والسادات وكمال الشناوي من المشاهير. فأصبحت المنطقة الجبلية الصغيرة تعج بالناس والأحداث وتنوء بالكارثة وما تزال. وأمر آخر: التلوث البيئي. كان زيت القوارب الحديثة والسفن ينجر خيوطاً فوق سطح الماء وفضلات البشر والمزيد. كان بعض المصريين وأجانب آخرين يأتون ولو خلسة وفي خجل لأصطياد الوز والأرانب البرية التي كانت تعج بها جزيرة أم أرضة مستخدمين بنادق الصيد الرشاشة. تلك البرتقالة كانت ملوثة، مسمومة. جاءت مع المد الجديد تحمل في أحشائها ذاكرة التحولات العظيمة في جبل أولياء بعد اربعة عقود من بناء السد مصري الهوى. نحن في منطقة أم أرضة لم نتأثر في الحال بتلك التحولات الكبيرة كون أهلي يعتمدون على أنشطة إقتصادية قديمة وراسخة (الرعي والزراعة) غير خاضعة للنظام الحديث الوافد مما جعلهم في مأمن إلى قدر كبير من الزمان في الحفاظ على نمط عيشهم وعلى منظمومة قيمهم القبلية الراسخة. غير أن البرتقال لم يتركننا وشأننا. ظل البرتقال المسموم يزحف إلينا خلسة حتى قضى على كل شيء!. كنت ألعب على شاطي النهر كعادتي، فرأيت من عدة أمتار من الشط بقعة صغيرة صفراء نصف غارقة في الماء. كانت برتقالة، أخذتها تأملتها للحظة ثم أكلتها بلا أي تفكير، لم يكن في الإمكان. بعد نصف ساعة، أصبت بدوار شديد وطمام وشرعت أستفرغ كلما بي أحشائي. كانت في حلقي طعم زيت السفن.. ذاكرة ملوثة.. "ذاكرة زيت السفن".. هكذا أسميها!. . هذا الذاكرة تلازمني حتى هذا اللحظة. أصبحت في المستقبل كلما أشرب من النيل أستفرغ في الحال، ثانية واحدة. وليس الشراب فحسب بل أحياناً عندما أشتم الرائحة "المماثلة" مخزونة في ذاكرة الجسد والعقل الباطن أشعر بالضيق. وحتى هذه اللحظة أشعر بذات الشعور غير المحبب عندما آكل سمك غير مطهي جيداً وفي بعض المرات "هذه الأيام" عندما أقف على شاطي بحر الشمال في أوروبا الغربية "البعيدة" فتتخلق روائح البحر أذكر نكهة تلك البرتقالة المسمومة بشكل لا إرادي. تلك البرتقالة ظلت تمثل عندي رمز الحداثة المستجلبة "المشوهة" في خاطري على الأقل فيما يتعلق بأم أرضة وجزيرتها. يتواصل.. حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.. محمد جمال [email protected]