ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات جندي سوداني (علي أفندي جفون) (1) .. النقيب بيرسي ماشي


ل
Memoirs of a Soudanese Soldier (Ali Effendi Giffon) 1 - Captain Percy Machell
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
[email protected]
======
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مذكرات لجندي سوداني هو علي أفندي جفون، كان قد أملاها باللغة العربية على النقيب بيرسي ماشيل (قائد الفرقة 12 السودانية) والذي ترجمها للإنجليزية ونشرها في المجلة الأميركية Cornhill Magazine The في عام 1896م. ولعلي أفندي جفون تاريخ مثير وحافل بالأحداث والمغامرات والمعارك العسكرية. فقد ولد شلكاويا في منطقة حول فشودة، وقبض عليه بعض البقارة العرب وهو في مرحلة الصبا، وسلموه للحكومة كجزء من الضرائب السنوية المفروضة عليهم. وقامت الحكومة بإرساله لمصر للعمل بالجيش لأربعين عاما متصلة. وشارك الرجل مع الأورطة السودانية في المكسيك، وفي الحبشة، وعمل بكثير من مناطق السودان المختلفة.
وبحسب إفادة الدكتور أحمد الصادق في "ندوة عبد الله الطيب" المنشورة في صحيفة الصحافة بتاريخ 12/4/2013م ، فإن مذكرات علي جفون قد تكون هي أول مذكرات لرجل سوداني. وقد لا يكون ذلك دقيقا بالنظر إلى مذكرات الزبير ود رحمة التي أملاها على الصحفية البريطانية فلورا شو في منفاه بجبل طارق في 1886م.
الشكر موصول لبروفسيور عبد الله جلاب لجلبه هذا المقال القديم.
المترجم
كان توزيع القوات في السودان حينما أخذت كالتالي: الفوج الرابع في التاكا، والفوج الأول في الخرطوم، والفوج الثاني في سنار ووادي مدني وفازوغلي. وكان كل الجنود النظاميين من السودانيين، وعلى رأس كل كتيبة بمباشي أو رائد أو مساعد رائد (saghkolahass i). وكانت كل كتيبة تتكون من ثماني سرايا على رأس كل واحدة منها يوزباشي أو نقباء، يساعدهم ملازمين.
وكنت أعمل في السرية الثانية بالكتيبة الثانية في الفوج الخامس والذي كان – كما قد أسلفت- قد وصل حديثا من مصر عبر كورسيكو تحت قيادة عثمان بيه. ولا تزال إحدى الكتائب في ذلك الفوج موجودة بمصر، إذ أن سعيد باشا كان قد استدعاها من كورسكو. ووجدت معي في سريتي سودانيين من كل نوع عدا الشلك.
وكنا نتلقى بانتظام راتبا يبلغ تسعة عشر قرشا (نحو 4 شلن إنجليزي) أول كل شهر، ونمنح كذلك مؤونة (راشونration) مشابهة لما يعطى اليوم. ولم يكن هنالك خبز، إلا أن كل جندي كان يعطى خمس كيلات من الذرة كل شهر، ومنها كانت تصنع الكسرة أو العصيدة. وكان يقوم على ذلك العمل عشر أو عشرين من الإماء اللواتي كن ملحقات بالسرية. ولم تكن الحكومة ملزمة بترحيل زوجات وعائلات الجنود عند نقلهم لمناطق أخرى، لذا كان من العادة أن يأخذ أفراد الكتيبة التي تحل محل أفراد الكتيبة المنقولة زوجات هؤلاء المنقولين. وكانت الحكومة تصرف شهريا لكل امرأة متزوجة كيلة وربع من الذرة وكيلة لكل طفل (جوال الذرة المعتاد به 7.5 كيلة، والكيلة تزن 15 – 20 كيلوجرام تقريبا. المترجم).
وكان كل ضباطنا في تلك الفترة أتراكا، وكان بعضهم من الشركس والأكراد والألبان، بينما كان الجنود النظاميين من السودانيين ومعهم عدد كبير من الجنود غير النظاميين (الباشبوزوق) وكان لهؤلاء تنظيم مختلف تحت إدارة بلك - باشا والسناجك.
وبعد فترة قصيرة من تعييني جنديا صدر الأمر لنا بالتحرك إلى تقلي Takalla. وكان جيشنا مكونا من أربع كتائب للمشاة المزودين بالبنادق، بالإضافة لرجال سلاح الفرسان. وكان معنا أيضا مجموعات من الباشبوزق تحت قيادة السنجك (الألباني) رجب أغا. وكان من المقرر كذلك أن تنضم إلينا الكتيبة الأولى في فوج كسلا والتي كانت تحت قيادة محمد بيه أبو قريد (Gereed) إلا أنها فشلت في الوصول في الوقت المقرر لتحركنا.
وكان الهدف من حملتنا هو القبض على المك نصر، والذي عصى أوامر الحكومة ولم يوف بطلباتها ، بل وأعلن عن تمرده عليها – هو وقبيلته- وتحصنوا في جبالهم منذ نحو عامين. وكان ذلك المك قد أعلن عمليا عن تمرده بطرده لقوة عسكرية بقيادة عبد القادر باشا كانت قد أرسلت للقبض عليه.
وحملنا مؤننا من ماء وطعام وذخيرة على ظهور إبل النقل. وبعد مسيرة عشرة أيام وصلنا لمكان اسمه أم طلحة، حيث أقمنا زريبة ( معسكر بلغة اليوم. المترجم) بقينا فيها ليومين.
وهنا حاول شيخ البقارة أودون Odoon إثناء قائدنا عن التقدم في الحملة، واقناعه بانتظار كتيبة كسلا، إلا أن القائد كان مصرا على التقدم لأنه كان واثقا من كفاية عدد جنوده وكمال استعدادهم للظفر برأس المك المتمرد.
ولذا مضينا في مسيرتنا نحو هدفنا، وكانت الطرق التي كان علينا السير عبر وديانها ملتوية وفي غاية الوعورة، وكان علينا في أحيان كثيرة تسلق الجبال. وكان على جانبي الأودية التي كانت نسير عليها صخور كبيرة كانت تتدحرج علينا مِنْ عَلِ، ولم نتأكد أن كانت تلك الصخور تتساقط علينا بأيدي بشر أم قرود! ووصلنا أخيرا إلى جبل كجكاجة، وطردنا منها التقلاويين، ومضينا في طريقنا صعودا لجبل تملي، بعد أن تركنا جمالنا وبعض أسلحتنا عند سفح الجبل. ونزلت قوات مشاتنا من على الجبل حيث كانت قوات المك نصر تتراجع أمام تقدمنا وقوة نيراننا نحو مركز قيادة زعيمهم. ولكن ظهرت فجأة قوة منهم وهي مسلحة بالحراب من الناحية اليمني لجبل رشاد مما أثار الكثير من الارتباك والهرج والمرج بين صفوفنا، وأختلط حابل جنودنا بنابل ضباطنا بفعل المفاجأة وسيول الحراب المنهمرة، وفر بعض أفراد حملتنا للسفح، غير أن كثيرا منهم لقوا حتفهم بعد سقوطهم من منحدرات ذلك الجبل، وكثيرا ما كانت تتلقاهم وهم يسقطون أَسِنَّة حراب (سناكي) بنادق رفاقهم فتصيبهم في مقتل.
وخلال كل ذلك الهرج والارتباك ظل التقلاويون يهاجموننا ويطعنوننا بحرابهم وهم يصيحون صيحات الحرب ويرددون "أبو كمر هيلي"، وهم يقصدون بالكمر ذلك الحزام الأحمر الحريري الذي كان يلفه جنودنا حول زيهم العسكري الأبيض.
وهبط من استطاع منا إلى سفح الجبل حيث تركنا متاعنا، وذلك بفضل غطاء كثيف من طلقات رصاص بنادقنا والتي منعت رجال تقلي من متابعة مطاردتنا.
وكانت محصلة المعركة فقداننا لثلاثة أرباع عدد جنود حملتنا، والذين انتشرت جثثهم على جانبي الجبل، وكان نصر أعدائنا تاما. وأصيب قائدنا بجرح مميت، وقتل كذلك معظم ضباطنا. وبمجرد فراغنا من جمع بقايا جيشنا المهزوم أسرعنا بالعودة للأبيض. وفي الطريق توفي قائدنا متأثرا بجراحه فقمنا بدفنه حيث أسلم الروح.
ولما بلغت أنباء هزيمة رجال تقلي لجيش الحكومة مسمع الخديوي سعيد باشا في القاهرة أمر بتعيين موسى باشا حكمدارا عاما على السودان، وأمره بالتوجه للخرطوم عبر كورسيكو وأبي حمد مصحوبا بكتيبتين من الجنود السود ومدفعجية سودانيين. وقام موسى باشا عند وصوله للخرطوم بجمع أعداد إضافية من الجنود من مختلف أنحاء السودان وبعث بهم للأبيض. ومن هنالك تحركت مع القوات الجديدة نحو جبال تقلي، وكان عددنا هذه المرة كبيرا جدا. وكنا نسير طوال النهار مشيا على الأقدام، ولا نستريح إلا عندما يحل الليل عندما نسمع صوت طلقة مدفع كانت هي الإشارة لنا بالتوقف عن السير. وكان يرافق مسيرتنا تلك كل تجار بازار (سوق) الأبيض، بل وكانت في رفقتنا عدد من الغوازي (الراقصات) المصريات.
ولما سمع نصر مك تقلي في معسكره بالجبل بما سيرته الحكومة من جيش كبير للقبض عليه والانتقام من هزيمته لها قرر أن يستسلم. وبالفعل تم الاستسلام، وعين الخديوي شقيق نصر واسمه آدم مكا بدلا عنه، وأمر بإرسال نصر مخفورا للقاهرة.
وتقرر أيضا عمل تنظيم محكم جديد لتحصيل الضرائب من المنطقة في المستقبل. وتم إرجاع الجنود المشاركين في الحملة، كل لكتيبته الأصلية. وكان من نصيبي أن أمرت الكتيبة التي كنت أحد أفرادها بأن تصاحب الحكمدار إلى "أم ضريسة" على نهر الرهد بالقرب من القلابات على الحدود الحبشية.
في البدء سرنا شرقا حتى عبرنا النيل الأبيض بين الجبلين وسهل كنانة. وهنا تلقى الحكمدار موسى باشا برقية تفيد بأن هنالك تمردا ضد حامية الحكومة في مصوع يقوده أحد قادة المنطقة، والتي كانت مثلها مثل سواكن تتبع للخلافة التركية.
ثم أتت بعد حين الأوامر من مصر بتوجيه كل القوات اللازمة لإنقاذ الترك في تلك الحامية بمصوع. وقام الحكمدار فور استلام تلك الأوامر بإرسال برقية إلى مدير كردفان لتجهيز كتيبتين، وبرقية أخرى إلى مدير سنار لتحضير كتيبة واحدة، وبقي هو في كسلا، والتي غدت نقطة البداية لحملتنا، وأقمنا معسكرنا في "الختمية".
وبعد أن اكتمل العدد الكافي من الجنود عين الحكمدار الياس باشا مدير كسلا قائدا لحملة إنقاذ مصوع، وقفل راجعا للخرطوم.
وكانت حملتنا تتكون من أربع كتائب مشاة وبعض المدفعية والباشبوزق. ورافق حملتنا محمد نور شيخ the Gadein؟ وجد أحمد عوض، المشرف الحالي على شرطة العرب في طوكر، وشيخ السبدرات، وحامد شيخ البني عامر، وعدد من الحلنقة، وسرنا جميعا لمصوع عبر داجا وسنهيت (وهي كرن الحالية. المترجم) دون أن يعترض سيرنا أحد. ووصلنا لأطراف مصوع حيث أقمنا معسكرنا في أم كليو؟ Um Kulloh جنوب المدينة. وسرعان ما تبين لنا أن الترك لم يعودوا يسيطرون على الأوضاع في مصوع، فقرر الياس بيه إرسال أحد ضباطه (وهو عبد الله أغا) إلى الشيخ المتمرد وهو يحمل علما دلالة على طلب الهدنة، وخطابا يستفسره فيه إن كان مستعدا للاستسلام أم لا. وسرعان ما عاد الضابط الرسول وهو يحمل ردا غاضبا من الشيخ أحمد أري Arei ورد فيه ببساطه أنه مستعد فقط للقتال ولا ينتظر غير تحرك قواتنا نحوه.
وقبيل بزوع فجر اليوم التالي تقدم جنودنا نحو مركز قيادة وتجمع المتمردين في أركيكو. ولكن نجح المتمردون في صد أول هجوم قاده البمباشي محمد أفندي خطاب قائد كتيبة كسلا، فآثر ذلك البمباشي الانسحاب. ولكن تقدمت كتائب أخرى (كانت من ضمنها كتيبتي) للهجوم على المتمردين. ورغم المقاومة العنيفة التي أبداها المتمردون من قلعتيهما، فإننا أفلحنا في كسر خطوطهم والقضاء على معظمهم. وفر الباقون إلى الجبال وألقى بعضهم بنفسه في البحر. وتلقى خلال تلك المعركة أحد كبار قادتهم (واسمه الشيخ محمد امبريمة) رصاصة أودت بحياته.
ولما أنقضت المعركة تقدمنا نحو مصوع، والتي كانت مبنية على جزيرة، غير أننا لم نلق فيها أي مقاومة، وكذلك لم نجد فيها أثرا لأي فرد من أفراد الحامية التركية فقد كانوا قد أبيدوا عن آخرهم. ونجح زعيمهم أحمد أري Arei في الفرار جنوبا على ظهر مركب صغير، وعلمنا فيما بعد أنه لجأ إلى زولا Zulla والتي تبعد نحو سبعين ميلا إلى الجنوب. وأرسلنا عددا صغيرا من الجنود لجزيرة قريبة لقطع الطريق عليه. ثم أعقبنا ذلك بإرسال كتيبتين في محاولة للقبض عليه، ولكن دون جدوى، فقد عاد الجميع دون معرفة مكان الشيخ المتمرد.
ثم أرسلت أعداد أخرى من الجنود لإقرار الأمن في المنطقة حتى وصول أعداد أخرى من رجال الجيش التركي. أما كتيبتي فقد أمرت بالعودة لكسلا ومنها لمركزها في الأبيض.
ولا يمكن وصف المعانة والعذاب الذي كنا نكابده في تلك المسيرات الطويلة في الطرق الوعرة، إذ لم تكن الحكومة تؤمن النقل إلا للذخائر والزاد والماء. وإن لم يكن للجندي حمار أو جملا يمتلكه (منفردا أو بالاشتراك مع رفيق له) فلم يكن أمامه إلا السير بالأقدام لأميال طوال.
ولم يكن معنا خلال تلك المسيرات الطويلة غير الأبري والذي كنا نحمله مجففا في قرب جلدية (كما يفعل العرب اليوم)، ونأكله مبلولا بالماء. وكثيرا ما كانت المياه التي كنا نحملها تنفد ونظل ليومين أو ثلاثة نواصل السير ونعتمد على أكل جذور وأوراق بعض الأشجار. ولما يشتد علينا الجوع كنا نقوم بشد أحزمتنا علي بطوننا، ونحلم (نأمل) في أوقات أفضل نعثر فيها على قطيع من البقر أو الغنم أو جوالات من الذرة فننسى مؤقتا- ما بنا من جوع. ورغم أننا قد ذقنا جوعا مريعا جعلنا "جلدا على عظم" كما يقال، إلا أني اؤكد أنني لم أر شخصيا أي حالة لأكل لحوم البشر cannibalism في أوساط الجنود.
غير أن الفرتيت في مناطقهم كانوا يمارسون تلك العادة باستمرار، وعندما يسقط أحدهم مريضا ولا يرجى شفاؤه، يقوم أهله بعرضه في مزاد لمن يدفع فيه أعلى سعر. وليس للفرتيت أي مقابر، ولا توجد في لغتهم كلمة مقابلة لكلمة مقبرة. (توجد دراسات تاريخية وأنثروبولوجية وطبية عديدة عن عادة أكل لحوم البشر في مختلف الثقافات في مناطق مختلفة من العالم مثل أفريقيا وأمريكا الجنوبية والصين 喫人. وغيرها. وهنالك مقال مفيد عنها مبذول في الشبكة العالمية بعنوان "أكلة لحم البشر والأحكام المسبقة" لحمدي الراشدي. المترجم). وبعد سنوات، حين كنت أعمل في اميدب؟ Ameddeb قام الزبير باشا بإرسال عدد من السودانيين للعمل جنودا في كسلا. وكان من بين هؤلاء واحد من الفرتيت اسمه عبد البين كانت كل أسنانه تشابه الأنياب (fangs) في حدتها مما تطلب استخدام مبرد (file) لبردها بعناية فائقة. وكان ذلك الرجل الفرتيتي قد أتى لتوه من موطنه، وكان يخشى من أن المسبغة التي سيتعرض لها ذلك الجندي قد تكون أكثر مما قد يطيقه. ففي ذات ليلة لم يعد عبد البين قادرا على تحمل الجوع فاِنْسَلَّ في الظلام يبحث له عن طعام، فوجد في زريبة مجاورة طفلا ينام بجانب أمه فخطفه وأطلق ساقيه للريح نحو سهل قريب، وظل الطفل يصرخ بأعلى صوته، فاستيقظت أمه وصاحت منبهة الآخرين، والذين ركضوا مسرعين خلفه. وكان عبد البين قد خنق الطفل وهو يعدو حتى وجد له مكانا التهمه فيه. وكان من عادة أهل بلاده أن يتخذوا هيئة ضبع عند ممارستهم لعادة أكل البشر. وأخيرا عثر الجنود على الرجل فأحاطوا به، وبقايا الطفل المأكول تحت قدميه. وعلى الفور تم القبض عليه، وأرسل للخرطوم للبت في أمره، فقررت السلطات هنالك أن تعيده لموطنه.
وأتذكر وأنا حدث صغير السن في قريتي الشلكاوية قبيلة عربية من الرحل البيض (Resirra ?) كان أفرادها في ليالي الشتاء يتخذون هيئة الضباع ويحومون حول بيوت القرية ويخطفون أي طفل قد يجدونه أمامهم (أيكون ذلك مما يخوف به الأهل أطفالهم لجعلهم يلزمون البيت؟! المترجم). ولا نزال نؤمن في السودان بأن الضباع التي تطوف وتعوي بالليل إنما هي في الواقع رجال يتخفون على هيئة تلك الحيوانات. وكان معظم هؤلاء ممن كنا نسمع عنهم ونحن في طوكر من العرب. وكنا نستطيع تمييزهم من نوع عوائهم.
وهنالك حكايات تروي عن مك للفونج في سنار (اسمه جهمانGahman?) كان ذات مرة قد تذوق كبد بشر، فأمر بأن يؤتى له بكبد طفل يوميا. ولهذه الفعلة قصة تتلخص في أن خادم المك كان قد اشترى كبد خروف من السوق ليطبخها لسيده ووضعها في سلة (قفة) على رأسه. ثم حامت فوقه حدأة (حدية) كانت تحمل بين مخالبها قطعة كبد، ورمت الحدأة بما كانت تحمله في سلة الخادم وخطفت كبد الخروف. وقام الرجل بطبخ تلك الكبد (التي رمتها الحدأة في سلته) لسيده، والذي سرعان ما اكتشف أنها ليست كبد خروف مما أعتاد عليه، فأمر بأن تطبخ له كبد من عجل ومعز وغزال وحيوانات أخرى ليحدد إن كان ما طبخ له ينتمي لأحد تلك الأنواع. وعندما تذوقها جميعا قرر أن ما طبخ له ليس كبد أي حيوان مما قدم له. وفجأة برقت في ذهنه فكرة أن الكبد المطبوخة قد تكون لبشر. لذا أمر بقتل طفل ليتذوق الكبد البشرية. وعندما تذوقها أيقن أن ما طبخه له خادمه إنما هي كبد بشر. ومنذ ذلك اليوم صار المك لا يستطيب غير كبد البشر! وكان الرجل مكروها من شعبه على كل حال، فانقلب عليه شقيقه إسماعيل وقتله واستولى علي الحكم مكانه (لم أعثر على "جهمان" ضمن قائمة حكام سنار، وسبق حكم إسماعيل (1768 – 1776م) مك اسمه ناصر. المترجم).
ولم تستمر فترة استراحتنا طويلا بعد معركة تقلي . فبعد نصف عام بعد عودتنا من أرض النوبة، رفض هؤلاء القوم دفع عليهم من ضرائب، فقام مدير الأبيض حسن باشا حلمي (والملقب بالسفاح) ببعث حملة للنوبة من أجل حملهم على الامتثال لأوامر ونظم الحكومة. فتحركنا نحو جبل التاو el Tow حيث مقر قيادة النوبة، وكانت حملتنا مكونة من أربع كتائب مشاة وبعض الفرسان وباشبوزق. وبعد مسيرة ستة أيام بلغنا سفوح الجبال وأقمنا معسكرا هنالك، وقام الباشا بإرسال خطاب للمك يأمره فيه بالاستسلام. ولكن المك أبى أن يستسلم فطلب الباشا من قواده بدء الهجوم فجر اليوم التالي. وعند صعودنا الجبال واجهنا رجال النوبة الذين كانوا يحصبوننا بالصخور والحجارة. ووقفت القرود في جانبهم فكانت ترمينا مثلهم بالصخور الصغيرة مما أدى لتعطيل تقدمنا وإثارة الارتباك والبلبلة في أوساط رجالنا. وكان معنا جندي اسمه رزق الله شاء حظه العاثر أن يتخلف عنا قليلا فأحاطت به مجموعة من القرود الكبيرة وقذفته بالحصي وهي تصخب بصيحات مرعبة، ولم يجد منها فكاكا إلا بعد أن أفلح في إطلاق رصاصة نبهت رفاق سلاحه إلى مكانه فهبوا لنجدته (هنا ذكر محرر المجلة الأمريكية أن القرود في جبل طارق كانت تحيط بالكلب القاصي – من فصيلة fox terrier -وتمزقه إربا. المترجم).
ولم يستطيع النوبة صد هجومنا الكاسح، فوصلنا بعد جهد جهيد قمة الجبال، ورأينا مِنْ عَلِ جثثهم متناثرة على سفوحها. وأصيب المك بجرح خطير أدى لوفاته لاحقا. ومات في المعركة كجور المنطقة. ومع مغيب الشمس وحلول الظلام هطلت أمطار شديدة الغزارة جعلت وضعنا أكثر بؤسا. وكنا قد ألقينا القبض على عدد من رجال النوبة كان من ضمنهم عبد الله وهو ابن ذلك الكجور الذي كنا قد قتلناه في المعركة، وهم مختبئون في مخابئ وكهوف الجبال. وأخبرنا النوبة بأن تلك الأمطار الغزيرة سببها هو مقتل كجورهم، وإنها لن تتوقف أبدا إلا بعد أن نقوم بذبح "أضحية" فداء لروحه. وبالفعل حصلنا على خنزير بري (كدروك) وذبحناه فتوقفت الأمطار في الحال. ولكن لم تنته متاعبنا مع النوبة عند هذا الحد. فمجرد توقف الأمطار قاموا بإطلاق أعداد لا حصر من النحل من خلاياها (hives) في اتجاهنا فأثارت في جنودنا الفزع والارتباك والتشوش، وظل الضباط والجنود يتلوون من ألم لسعات تلك الأعداد المهولة من النحل، وتفرقت خيولنا في كل اتجاه ولم يعد بإمكاننا السيطرة عليها. فلم يكن للباشا غير أن يستدعي عبد الله (ابن ذلك الكجور) ويرجوه أن يعرض هدنة على شيوخه مقابل إيقافه لهجوم جيوش النحل التي أطلقها. وبالفعل قبل الشيوخ ذلك العرض بعد أن أعيدت النحلات المهاجمة لخلاياها. وتم بعد ذلك دفن المك والكجور بمراسم لائقة. وقضينا الأيام التالية لتلك المعركة في البحث عن الرقيق المختبئين في كهوف تلك الجبال، وبعد أن جمعنا كل ما نستطيع جمعه منهم سرنا بغنائمنا راجعين إلى الأبيض. وأتى معنا عبد الله ولد الكجور بعد أن تم تعيينه في رتبة أمباشي في فرقتنا. وتوفي الرجل بعد سنوات من ذلك، ويعمل ولده سيف حاليا تحت قيادة جاكسون بيه في رتبة يوزباشي في الفرقة 11 السودانية في أسوان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.