بالطبع هناك كثيرون تعلموا تعليما جيدا ونالوا قدرا عاليا من الثقافة العامة، لذلك مواقفهم مختلفة، من بعض آخر أتجه نحو الغلو التطرف والإرهاب والانضمام للحركات الكارهة للآخر وللإنسانية عامة مثل ما يسمى بتنظيم (الحركة الإسلامية) في السودان وجناحها السياسي (المؤتمر الوطني)، فضل نموذج لهذا النوع، هو ذلك (الطالب) الجامعى لمدة 25 سنة الذى تعرض صوره من وقت لآخر وهو يحمل (الكلاشنكوف) .. وقيل أنه سجد امام (الفرعون) قاتل السودانيين (عمر البشير). ولكى أبين المسألة بصورة أوضح أستعرض مثالا يخصني شخصيا ومدينة نشأت فيها. كان الوالد رحمه الله صوفيا، أى لم يكن سلفيا أو اخوانيا، متوترا ومنقبض النفس يحدثك عن ثقافة (الجهاد) ويحرضك على القتل وكراهية الآخر ومعتنقه، بحسب ما ورد في كتب ابن تيمية وابو الأعلى المودودي ومحمد بن عبد الوهاب وحسن البنا وسيد قطب .. ولم يكن من المعجبين بحسن الترابى وأشباهه. كان مادحا بصوت جميل لا يسترزق من المديح وإنما من سوق الله أكبر، كما فعل عبد الرحمن بن عوف. سمعته ينشد : يا محبهم لا تكون بعيد عن قربهم عسى تنتفع من شربهم كونو الرسول ما بغبهم وسمعته ينشد: يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلت القدم لولاك ما خلقت شمس ولا قمر ولا سماء ولا لوح ولا قلم وسمعته ينشد: عليك اعتمادي دائماً كل لحظة في دنيا وفي آخره وفي كل شدة وعند حتوفي ارتجيك لموتتي لتحضرني وتختم لي بالحسنة ختمتي تقر بها عيني إذ الروح تؤخذو *** تكون أنيسي حين تذهب أخوتي وأبقا برمس وأحد بيت وحدتي وقد خفت حياتي وعقارب زلتي آجرني من الأهوال في وسط حفرتي ووسع لي قبري وكون لي منقذو *** وضع لي سريراً فيه يفرش سندسا وعبقه بالمسك الفخيم وأسسا لأرض له بالند فرشا أطلسا إي المصطفى جود لي من الرمس نفسه علي ذنوبا كالجبال تحوذوا *** وفي الحشر في ظل اللواء طه احشروا وفي عالي الجنات الق المجاوره مع بنيه وسائر الوراء وأشمل لأولادي وصحبي وزائره عليك صلاةً ليس تحصى وتنفذه *** وأختم قولي بالصلاة معظما ياربى صلي وبارك وسلمَا على المصطفى والآل والصحب دائما صلاة تفوق العطر والمسك عطرا مفخما يطيب بها كل الوجود ويتلآلآ وسمعت من لسانه دروس دينيه مبسطه قبل أن أدخل المرحلة الأولية وقبل أن أعرف كتابة حرف واحد، قال لى فيها ولا زالت كلماته عالقة بذاكرتى أن الأنبياء الواجبة معرفتهم 25 وأن الكتب الواجب على المسلم قراءتها اربعة، القرآن والإنجيل والتوراة والزبور .. ولم يقل لى هذه (محرفة) أو تلك (مزورة)، لأنها كتب تخص ديانة الآخر ومعتنقه الخاص وطالما الآخر يحترمها فعلينا أن نحترمها ونقدسها مهما خالفت رؤاه مفاهمينا وعقيدتنا وبغير دلك فلن يتحقق سلام على وجه الأرض وسوف يظهر في كل يوم (دواعش) جدد. قال لى الوالد (الصوفى)، أن الأديان السماوية الواجب الأيمان بها ثلاثة، هى الإسلام والمسيحية واليهودية، ومن دروسه تلك انفتح ذهنى بصورة أكبر لكى اقدر وأحترم أى معتنق أو دين آخر سماوى أو غير سماوى. وعلى ذلك الفهم أشتمل دستورنا المؤقت بعد الاستقلال حيث نص على ضرورة احترام (كريم) المعتقدات التى تشمل اديان غير سماوية و(كجور) وما يسمى بالديانات الأفريقية، لذلك كان السودان رغم كثير من النواقص وهيمنة (الطائفية) وبعض السلبيات، نموذجا حقيقيا للتعائش و(التسامح) الدينى، رغم حرب الجنوب التى كانت قبل الأنقاذ مشتعله لأسباب سياسية ومطلبية (مشروعة) مثل المطالبة بحكم (فيدرالى) أو ذاتى مثل الذى تحقق عام 1972 ، لكن (النميرى) نقض العهد وخالف المواثيق بعد تحالفه مع (الإسلاميين) عام 1983 واصداره لقوانين سبتمبر سيئة الذكر. فى "ام درمان" نشأنا ووجدنا نفسنا بين كآفة قبائل السودان دون استثناء لا يعرف أحدنا اسم القبيلة التى ينتمى اليها جاره الأقرب أو الأبعد، الا اذا كان مميزا (بشلوخ) تعبر عن قبيلته، وأحيانا تجد رجل أو امرأة في أم درمان، (مشلخين) لا علاقة لشلوخهم بالقبيلة التى ينتمون اليها. وفي أم درمان عاش بيننا (ام درمانيين) من مختلف الديانات والجنسيات، هنود وشوام وأغاريق ومصريين، ويهود وأقباط لهم احياء كاملة مثل حى (المسالمة) الذى غنى لحسانه شعراء الحقيبة (الفحول) مثل (لى في المسالمة غزال) أو (ظبية المسالمة) .. كان لهم ما لنا يسرنا ما يسرهم ويؤذيهم ما يؤذينا. ناد مثل ناد المريخ (العريق) على سبيل المثال كان من بين مؤسسيه عدد من (اليهود) بل أن اسم (المريخ) تم اختيار بواسطة فتاة (مسيحية) هى (سيدة فرح عبد المسيح). ونادى (الهلال) كذلك كان من بين أهم قياديه الشقيقان المسيحيان (كوركين وسوريان أسكندريان) ولعب للهلال أحد افضل لاعبيه في التاريخ وهو المسيحى (ايزاك ايلى) كما لعب له في السنوات الماضية (ادورد جلدو). وعندما اندلعت ثورة أكتوبر كان من بين وزرائها عدد من المسيحيين اذكر منهم الدكتور (موريس سدرة). الآن نحن في زمن القبح والتمييز الدينى والعرقى والفتاوى المتطرفة التى تحرم تهنئيه المسيحيين في اعيادهم أو الترحم على موتاهم . هذه الأفكار الهدامة والفتاوى التى صنعت الإرهاب وعممته حتى اصبح خطره يواجه الجميع في أى مكان في العالم. خلال (ونسة) مع أحد المسوؤلين السابقين في ادارة الجوازات والهجرة، والرجل له معرفة جيدة بحكم مجال عمله بمناطق السودان وعادات اهلها. تحدثت له عن أم درمان في السابق وثقافة اهلها وقارنت ذلك بلؤم وقبح شخصيات انقاذية مثل (نافع على نافع) و(الطيب مصطفى) وطرحت عليه سؤالا ذكره الأديب العالمى (الطيب صالح) رحمه الله – من أين أتى هؤلاء؟ ولماذا هم هكذا؟ فقال لى: هل تريد أن تقارن تلك الثقافة الأم درمانية المتسامحة مع من تربى ونال ثقافته من (الحمير).. بالطبع لا يقصد الرجل البسطاء الذين يمتهنون مهنا تربطهم (بالحمير) لكن أخلاقهم رفيعة ومحترمه. جيل اليوم معذور لأن اغلبه لا يعرف تلك الثقافة التى طمستها ثقافة (الأنقاذ) الحميرية. تاج السر حسين - [email protected]