كانت درجة الحرارة الخارجية اثنتين تحت الصفر ، والساعة الثانية والنصف ظهرا من يوم الخميس، لو كنا في بلد الإقلاع ، كان يجب أن تكون الساعة العاشرة والنصف مساء ، وفي مواجهة هذا الفرق أحسست بالكسب... فثمة ما يقارب عشر ساعات أضيفت إلى عمر نهاري .. ولكن ليس المهم هذا الكسب ولكن المهم في ما سأنفقه فيه ، فكم من كسب يضاف إلى حياتنا كلّ يوم ، ثم ننفقه في الانتظار .. في انتظار ما قد لا يكون. أو في إضاعة الفرح ، منّا ومن وجوه الآخرين .. نحن في الأرض لا نحبّ بعضنا بما فيه الكفاية ، ولا نعرف أنْ نبتسم في وجه بعضنا بعضاً ، ونفشل في أن نفهم حدودنا ، أو حقوقنا ، وأهدافنا ، كما نفعل على الطائرة ... هذا ما أحسسته وأنا أجمع حقائبي عند سير الأمتعة. مطار تورنتو الدولي، أنيق في بساطته ، يشدُّك بهدوئه ، وفي إطار هذا لا يمكنني الحديث عن سلاسة الإجراء ، فهو أمر معتاد ، ولا عن الترتيب والنظام ، فهو أمر ضروري ، ولكن سأتحدث عن هذا البرد الذي لسعني بمجرد خروجي من مبنى المطار وأنا متوجهة إلى سيارة الأجرة التي ستقلني إلى الفندق، ورغم أنّ المسافة لم تكن طويلة ما بين المطار والسيارة ، إلا أنها كانت كافية لكي تعطيَني درساً عن البرد الذي تشهده هذه المنطقة ، التي تغرق وسط هذا البياض الذي يكسو كلّ شيء ، وهو ما يسمّونه بالاسنو ، أو الجليد ، أو التصحر الأبيض البارد ، وفي السيارة همست محدثا نفسي : إن كل ذلك سهل في مواجهة تصحر العلاقات بين البشر ، والاسنو ، والجليد الذي يغطي مساحات المشاعر بيننا ، فإنّه وحتى في الشرق ، حيث دفء المناخ فإنّك تشعر بذات الجليد الذي يجمد مشاعرنا ويغطي مساحات الولف بيننا ، ويجعل كلّ شيء تحكمه المصلحة والانتفاع حتى الحب عندنا يقدم على طبق من المصلحة يعلو كلما كانت المصلحة أكبر. ووكالات الإنباء تتحدث عن تغير المناخ في الكرة الأرضية ، ويحيرني صمت علماء التاريخ ، والاجتماع ، والأديان إزاء التغيرات الحادثة ، والمتوقعة في تركيبة العقل البشري ، وفي منظومة وجدانه الخاص ، حيث اختفاء قيم الروح والمحبة والإخاء وعلوّ قيم المادة والمصلحة والدولار تحت غطاء وحجة ظروف العمل والبزنس ومقتضيات المحافظة على الثروات تلك التي صارت أهم من الإنسان الذي يملكها. عندما قضت ظروفي بالهجرة إلى خارج الوطن، منذ أكثر من اثني عشر عاماً كانت لديَّ رؤية مختلفة تماما ، عن إطارات العمل ، والحياة ، والبقاء. كنت أنظر إلى الحياة من ناحية تبادلية ، لا يضير فيها الاختلاف ، فأنا أعطي من يحتاج ، وإنْ ظهرت لي حاجة لفكرة أو عمل ، أو كلمة طيبة فلا محال أني واجدها إذ لا سبب لغير ذلك ، ولكن بدا لي الأمر مختلفًا حيث أصبحت أرى من يكذب من أجل بضعة دولارات، ثم يستطيع وبكل بساطة مواجهة أطفاله والنظر في أعينهم حين يعود إلى منزله. دعوني أعود بكم إلى تورنتو، إلى هذا الطقس البارد من ديسمبر ، حيث كانت المباني تبدو لي صامدة، وصامتة ، ومصرّة على تحمل قسوة البرد، وتورنتو رغم هذا تعتبر من أجمل مدن العالم، وهي تضمّ أكثر من خمس مدن صغيره فهم عندهم فلج أي قرية، ثمّ ستي أي مدينة ، ثم تاون، فتورنتو تاون تضم أكثر من خمس مدن) ستي) مثل هاملتون ، ومسس ساقا ، داون تاون .... وكل مدينة لها حكومتها المصغرة ، وشرطتها، وأوَّل ما لفت نظري في تورنتو ، هو أنّك لا تلحظ وجودا للحكومة ، بل تشعر بالفعل أن الشعب هو الذي يحكم نفسه ، وحتى هذه المعدات التي تجرف الجليد ، فإنّه تديرها شركات خاصة ، أما الصفحات الأولى من الصحف ، فإنها لا تتحدث إلا عن الجليد ، وأخبار المجتمع ، والانتخابات إن كان وقتها ، ولا شيء يجعلك تشعر بالقلق أو الخوف، فمشاكل الحكم تدار في أروقة الحكم ، والشعب يمارس التحكم في حياته ، وظروفه ومستقبله ، وحبه لوطنه .. إنّه عالم متقدم بالفعل، ديمقراطي في كينونته ، نصف دخل الفرد يذهب إلى الضرائب ، فإنْ كنت تكسب دولارين في الدقيقة فهذا يعني أنّ أحدهما للحكومة ، ولكنك ستدفعه عن حبّ ، وغير نادم، فالحكومة أنت تمثل همَّها الأول، فهي توفر لك الأمن ، والأمان ، والعلاج ، والتعليم ، والحرية ، والخصوصية ، والضمان الاجتماعي . إن الحكومة تأخذ نصف دخلك ، لكنها تعطيك صكَّ ضمان لكل حياتك ، وهو صك موقع مسبقا ، يؤكد بأنك ستحقق أحلامك في الحياة ، لأنَّ المسافة التي ستفصلك عن أحلامك، ستكون بمقدار جدّك ، واجتهادك ، وصبرك ، وتعلمك. قلت لصديقي الذي يصطحبني في جولاتي: إنني لا أمانع أن أدفع ثلاثة أرباع راتبي على أن أجد مثل هذه العناية ، حتى ولو في القمر. والقمر في تورنتو رأيته مرة واحدة ، ورغم أنَّ اليومَين التاليين لوصولي كانا مرهقين ، حيث كان جدول العمل يشتمل على ثلاثة اجتماعات في كل يوم وقد تتخللهما برامج طارئة ، وكنت أنا أقاوم فَرْق التوقيت، فمنذ السادسة مساء أشعر بالنعاس يداهمني على نحو لا يقاوم ، وإذا ما أسلمت نفسي للفراش عند السابعة مساء ، أجد نفسي قد استيقظت صحيحاً عند الثانية صباحاً ، ثم أحتار فيما أفعله حيث لا يمكنني الخروج ، ولا البقاء نائما، وقديما عندما كان معلم الأحياء يحدثني عن الساعة البيولوجية ، كنت أتخيل أنَّ حديثه ترفٌ علميٌ ، ولكن حقيقتها تظهر لي كلَّما كنت في مكان يكون الاختلاف الزمني فيه كبيراً. ولا أريد أن أحيل الموضوع إلى تأمل ديني ، ولكن الله كحقيقة أزلية دوما يفرض على عقلنا الأوب والعودة إليه ، إنَّ كلَّ هذا الزخم العلمي الكبير والتكنولوجيا نتاج إلى جهود العقل البشري ، والدهشة ليست فيما أنتجه العقل البشري ، بجدّه ، وصبره ، واجتهاده، ولكن الدهشة فيمن أوجد العقل البشري نفسه ، ثم دعمه بكل هذه الإمكانات الهائلة، فلولا هذه الإمكانات لما استطاع الإنسان أن يجوب العالم ، والآن يمكن لطيار صبور أن يقطع الكرة الأرضية إلى نصفين في أقلّ من أربع وعشرين ساعة ، قديماً، حينما كان الرجل منّا يحيا في رقعة أرض لا تتجاوز الدار، والسوق ومدينته المجاورة ، لقد كانت الحياة ضيقة بالفعل ، والآن شاسعة كبيرة جدا ومفعمة ، ولكن يحيا فيها رجال قلوبهم لا تتسع لأكثر من مصالحهم ، ونساء لا يتعدى تفكيرهم حجم شفاههم التي يجب أنْ تكون مكتنزة وملوَّنة ولا يهمُّ مضمون العبارات التي يمكن أن تخرج عبرها. شيء لا يمكنك تجاوزه أبداً وأنت في تورنتو .. ليس هو "السي إن تاور" رغم أنّه أطول مبنى في العالم قبل برج دبي ، وليس هو شلالات نياجرا ، رغم أنّها تعتبر من أكثر المساقط المائية جمالاً ، وقوة ، وارتفاعاً ، ولكنه هو ملمح الحرية والشخصانية العزيزة ، التي تلمحها في وجه كلّ شخص كندي حتى أولئك المهاجرين الذين يعانون أحيانا في صمت .. ففي كندا لا يوجد شخص غير مهم، فالكل مهمٌّ بدءًا من (الناطور) أي الحارس و(الأوفس بوي) أي الفراش أو خادم المكتب ، حتى المدير العام وربّ المال .. كلّ شخص مهم بدوره الذي يصنعه، وعمله الذي يؤديه ، وهذا التساوي لا يفسد أبداً الاحترام ، ولا يمنع من أن تعطي الأماكن حقوقها، ففي حفل العشاء الذي أقامته لنا إحدى الشركات الكندية ، لاحظت كيف أنّ صاحب المال حريص على التواصل مع الجميع ، حتى مع ذلك الشاب الأعرج الذي كان بالأمس يطلعنا على بعض الشقق الذي يتولّى هو نظافتها وحراستها ، ثم رغم كل هذا التواصل الحميم لا تلحظ تخليا للاحترام أو تجاوزا للأولوية. إنها أيام تحت الصفر بمعيار الطقس الجوي ، ولكنها دافئة ، حميمة ، مشوقة بمعيار التقدم الإنساني . أسامة رقيعة من كتابي : خواطر وترحال [email protected]