عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسامة رقيعة يحكى عن الاماكن
إن التعاسة لا تخلقها السياسة وحدها ، بل تخلقها المسافة التي قد يصنعها الإنسان أيام تحت الصفر...
نشر في الوطن يوم 27 - 09 - 2012

كانت درجة الحرارة الخارجية اثنين تحت الصفر ، والساعة الثانية والنصف ظهرا من يوم الخميس، لو كنا في بلد الإقلاع ، كان يجب أن تكون الساعة العاشرة والنصف مساء ، وفي مواجهة هذا الفرق أحسست بالكسب... فثمة ما يقارب عشرة ساعات أضيفت إلى عمر نهاري .. ولكن ليس المهم هذا الكسب ولكن المهم في ماسأنفقه فيه ، فكم من كسب يضاف إلى حياتنا كل يوم ، ثم ننفقه في الانتظار .. في انتظار ما قد لا يكون . أو في إضاعة الفرح ، منا ومن وجوه الآخرين .. نحن في الأرض لا نحب بعضنا بما فيه الكفاية ، ولا نعرف أن نبتسم في وجه بعضنا بعضا ، ونفشل في أن نفهم حدودنا ، أو حقوقنا ، وأهدافنا ، كما نفعل على الطائرة ... هذا ما أحسسته وانا اجمع حقائبي عند سير الأمتعة .
مطار تورنتو الدولي، أنيق في بساطته ، يشدك بهدوئه ، وفي إطار هذا لا يمكنني الحديث عن سلاسة الإجراء ، فهو أمر معتاد ، ولا عن الترتيب والنظام ، فهو أمر ضروري ، ولكن سأتحدث عن هذا البرد ، الذي لسعني بمجرد خروجي من مبنى المطار وانا متوجه إلى سيارة الأجرة التي ستقلني الى الفندق ، ورغم أن المسافة لم تكن طويلة ما بين المطار والسيارة ، إلا أنها كانت كافية لكي تعطني درسا عن البرد الذي تشهده هذه المنطقة ، التي تغرق وسط هذا البياض الذي يكسو كل شي ، وهو مايسمونه بالاسنو ، أو الجليد ، أو التصحر الأبيض البارد ، وفي السيارة همست محدثا نفسي : إن كل ذلك سهلا في مواجهة تصحر العلاقات بين البشر ، والاسنو ، والجليد الذي يغطي مساحات المشاعر بيننا ، فانه وحتى في الشرق ، حيث دفء المناخ فانك تشعر بذات الجليد الذي يجمد مشاعرنا ويغطي مساحات الولف بيننا ، ويجعل كل شئ تحكمه المصلحة والانتفاع حتى الحب عندنا يقدم على طبق من المصلحة يعلو كلما كانت المصلحة اكبر . ووكالات الإنباء تتحدث عن تغير المناخ في الكرة الأرضية ، ويحيرني صمت علماء التاريخ ،والاجتماع ، والأديان إزاء التغيرات الحادثة ، والمتوقعة في تركيبة العقل البشري ، وفي منظومة وجدانه الخاص ، حيث اختفاء قيم الروح والمحبة والإخاء وعلو قيم المادة والمصلحة والدولار تحت غطاء وحجة ظروف العمل والبزنس ومقتضيات المحافظة على الثروات تلك التي صارت أهم من الإنسان الذي يملكها ..
عندما قضت ظروفي بالهجرة إلى خارج الوطن ، منذ أكثر من اثنتي عشر عاما كانت لدي رؤية مختلفة تماما ، عن إطارات العمل ، والحياة ، والبقاء ، كنت انظر إلى الحياة من ناحية تبادلية ، لا يضير فيها الاختلاف ، فانا أعطي من يحتاج ، وان ظهرت لي حاجة لفكرة عمل ، أو كلمة طيبة فلا محال أني واجدها إذ لا سبب لغير ذلك ، ولكن بدا لي الأمر مختلفا حيث أصبحت أري من يكذب من اجل بضعة دولارات ثم يستطيع وبكل بساطة مواجهة أطفاله والنظر في أعينهم حين يعود إلى منزله.
دعوني أعود بكم إلى تورنتو ، إلى هذا الطقس البارد من ديسمبر ، حيث كانت المباني تبدو لي صامدة ، وصامته ، ومصرة على تحمل قسوة البرد ، وتورنتو رغم هذا تعتبر من أجمل مدن العالم ، وهي تضم أكثر من خمس مدن صغيره فهم عندهم فلج أي قرية ، ثم ستي أي مدينة ، ثم تاون، فتورنتو تاون تضم أكثر من خمس مدن ( ستي ) مثل هاملتون ، ومسس ساقا ، داون تاون .... وكل مدينة لها حكومتها المصغرة ، وشرطتها، وأول ما لفت نظري في تورنتو ، هو انك لا تلحظ وجودا للحكومة ، بل تشعر بالفعل أن الشعب هو الذي يحكم نفسه ، وحتى هذه المعدات التى تجرف الجليد ، تديرها شركات خاصة ، أما الصفحات الأولى من الصحف ، فإنها لا تتحدث إلا عن الجليد ، وإخبار المجتمع ، والانتخابات إن كان وقتها ، ولا شئ يجعلك تشعر بالقلق ، أو الخوف فمشاكل الحكم تدار في أروقة الحكم ، والشعب يمارس التحكم في حياته ، وظروفه ومستقبله ، وحبه لوطنه .. انه عالم متقدم بالفعل، ديمقراطي في كينونته ، نصف دخل الفرد يذهب الى الضرائب ، فان كنت تكسب دولارين في الدقيقة فهذا يعني أن احدهم للحكومة ، ولكنك ستدفعه عن حب ، وغير نادم ن فالحكومة أنت تمثل همها الأول فهي توفر لك الأمن ، والأمان ، والعلاج ، والتعليم ، والحرية ، والخصوصية ، والضمان الاجتماعي . إن الحكومة تأخذ نصف دخلك ، لكنها تعطيك صك ضمان لكل حياتك ، وهو صك موقع مسبقا ، يؤكد بأنك ستحقق أحلامك في الحياة ، لان المسافة التي ستفصلك عن أحلامك ن ستكون بمقدار جدك ، واجتهادك ، وصبرك ، وتعلمك ..
قلت إلى صديقي الذي يصطحبني في جولاتي : أنني لا أمانع أن ادفع ثلاثة أرباع راتبي على أن أجد مثل هذه العناية ، حتى ولو في القمر .
والقمر في تورنتو رايته مرة واحدة ، ورغم إن اليوميين التاليين لوصولي كانا مرهقين ، حيث كان جدول العمل يشتمل على ثلاث اجتماعات في كل يوم وقد تتخللهما برامج طارئة ، وكنت أنا أقاوم فرق التوقيت فمنذ السادسة مساء اشعر بالنعاس يداهمني على نحو لايقاوم ، وإذا ما اسملت نفسي للفراش عند السابعة مساء ، أجد نفسي قد استيقظت صحيحا عند الثانية صباحا ، ثم احتار فيما افعله حيث لا يمكنني الخروج ، ولا البقاء نائما، وقديما عندما كان معلم الإحياء يحدثني عن الساعة البيولوجية ، كنت أتخيل إن حديثه ترفا علميا ، ولكن حقيقتها تظهر لي كلما كنت في مكان يكون الاختلاف الزمني فيه كبيرا .ولا أريد أن أحيل الموضوع الى تأمل ديني ، ولكن الله كحقيقة أزلية دوما يفرض على عقلنا الاوب والعودة إليه ، إن كل هذا الزخم العلمي الكبير والتكنولوجيا نتاج الى جهود العقل البشري ، والدهشة ليست فيما أنتجه العقل البشري ، بجده ، وصبره ، واجتهاده ولكن الدهشة فيمن اوجد العقل البشري نفسه ، ثم دعمه بكل هذه الإمكانيات الهائلة فلولا هذه الاماكانات لما استطاع الإنسان أن يجوب العالم ، والآن يمكن لطيار صبور أن يقطع الكرة الأرضية الى نصفين في اقل من أربع وعشرين ساعة ، فقديما كان الرجل منا يحيا في رقعة ارض لا تتجاوز الدار ، والسوق ومدينته المجاورة ، لقد كانت الحياة ضيقة بالفعل ، والآن شاسعة كبيرة جدا ومفعمة ، ولكن يحيا فيها رجال قلوبهم لا تتسع لأكثر من مصالحهم ، ونساء لا يتعدى تفكيرهم حجم شفاههم التى يجب إن تكون مكتنزة وملونة ولا يهم مضمون العبارات التى يمكن أن تخرج عبرها .
شئ لا يمكنك تجاوزه أبدا وأنت في تورنتو .. ليس هو السي إن تاور رغم انه أطول مبنى في العالم قبل برج دبي ، وليس هو شلالات نياجرا ، رغم إنها تعتبر من أكثر المساقط المائية ، جمالا ، وقوة ، وارتفاعا ، ولكنه هو ملمح الحرية والشخصانية العزيزة ، التي تلمحها في وجوه كل شخص كندي حتى أولئك المهاجرين الذين يعانون أحيانا في صمت .. ففي كندا لا يوجد شخص غير مهم فالكل مهم بدأ من (الناطور) أي الحارس و( الأوفس بوي) أي الفراش أو خادم المكتب ، حتى المدير العام ورب المال .. كل شخص مهم بدوره الذي يصنعه، وعمله الذي يؤديه ، وهذا التساوي لا يفسد أبدا الاحترام ، ولا يمنع من أن تعطي الأماكن حقوقها، ففي حفل العشاء الذي أقامته لنا احدي الشركات الكندية ، لاحظت كيف إن صاحب المال حريص على التواصل مع الجميع ، حتى مع ذلك الشاب الأعرج الذي كان بالأمس يطلعنا على بعض الشقق الذي يتولي هو نظافتها وحراستها ، ثم رغم كل هذا التواصل الحميم لا تلحظ تخليا للاحترام او تجاوزا للأولوية.
إنها أيام تحت الصفر بمعيار الطقس الجوي ، ولكنها دافئة ، حميمة ، مشوقة بمعيار التقدم الإنساني
نيودلهي .. المدينة التي أبكتني
مجموعة من القناديل الخافتة تضئ ، وفيما بينها يظهر وميض متناثر يجعل المشهد وسط الظلام كجمهرة من الحباحب ، تلك الكائنات الطائرة التى تتكاثر في المناطق الاستوائية وتصطاد بضوئها ووميضها ماقد تكاثر وتناثر من بعوض وما في حكمه
هذا هو منظر نيودلهي من على مقعدي في طيران الامارات الانيق ، وعلى ذكر طيران الامارات دعوني اقر بأن الحياة في الامارات عبارة عن ورطة .. لا تكتشفها إلا عندما تحلق خارجها فاذا كنت في دبي فلاشئ سيرضيك في خارجه .. كل شئ ستشعر به متأخرا وبطيئا ولا يرضى طموحك .. فقبل ان اجلس على مقعدى هذا بيومين كنت بمدينة عربية عدت منها مرهقا من مطاراتها وطيرانها وتعقيداته التي كلفتني ثلاثة ايام وحقيبة، نعم ثلاثة ايام ضاعت منى دون سبب وكذلك حقيبة ، ليس هذا فحسب بل انه بدلا من الإقلاع صوب دبي كانت نهايتي مطار ابوظبي بعد المرور الإجباري بعاصمة عربية اخرى.
المهم ان دلهي جميلة ومودل ، نساؤها مودل ، وأشجارها مودل ، وأنت فيها لابد من شعور جميل ينساب في داخلك كانسياب شعور نسائها ، ولكنها أيضا قد لا ترضيك مائة في المائة ، فانك ان وجدت الخدمات فلن تجد ذلك الاتساق والتصنيف الجميل لسلوك الذين يعبرون الطرقات ، أو يتحدثون ، أو يطرقون نوافذ سيارتك يسألونك العطاء ، والهندي يتميز بإلحاح وإصرار ممتاز ... ففي احدى الشوارع الجانبية للسوق الكبير الذي في وسط دلهي وقف احد الباعة الى جواري وظل يعرض لي فرشاة هزازة لتمشيط الشعر ثم يؤكد لي بكل السبل انها تنفع للمساج ثم يدلك بها ظهري ، وراسي ، وحواسي ، وانا اقول له اني غير راغب بها ولكنه يتبعني ثم أحاول التلطف معه ولكنه يصر ويتبعني ثم اختفيت منه وسط الزحام وسرت لمسافة طويلة وفجأة وجدته أمامي وهكذا قررت عندها ان انقده عشرة دولارات ليريحني ولكن صديقي الهندي الاصل والقادم معي من دبي تولى الموقف في اخر لحظة وأقنعه بانه لا جدوى من محاولاته وانه يجب عليه ان يغادر طريقنا فورا ورغم ذهابه عنا لكني تبعته بنظري طويلا وكأنما شدني فيه هذا الإصرار الذي قد يكون مفيدا في بعض الاحيان .
ثلاثة أيام عمل في دلهي قررت بعدها ان اتذوق المدينة فليست من عادتي أن أكون في مدينة ثم لا أتذوقها .. أقصد ان أتلمس معاناة أهلها واعرف فنونها في إتعابهم ، وان لا اكتفي بالنظر لها من خلف نوافذ الفنادق ولا من خلال زجاج سيارات اليموزين ، لذلك طلبت من سائقي ان يركن سيارته في مكان آمن ثم يأخذني راجلا إلى دلهي القديمة وان نركب المترو معا وسط الزحام ورغم استغراب السائق لطلبي الا انه أعجبته الفكرة ونفذها معي بحماس ..
ومن دلهي القديمة خرجت بقناعة مفادها أن التعاسة لا تخلقها السياسة وحدها ، بل تخلقها المسافة التي قد يصنعها الإنسان فيما بينه والسماء ، انها ليست حكمة دينية مني في بلد غاندي ولكن هذا ما بدأ لي ، فالأكثرية يظهر عليها الجفاء للسماء وللروح ولبعض سماحة غاندي ... الجميع يبدون لاهثين خلف رغبة مادية ما، ففي إحدى البازارات أو الأسواق الشعبية احترت وانأ أرى إلف من الباعة يسوقون بتنافس رهيب بضائع تافه لا يتعدى رأس مالها قيمة وجبة متواضعة ! ما الذي خلف هؤلاء الناس ؟ انهم مرهقين ، والإرهاق المادي لا يصيب قاع المدينة فقط ، وإنما لاحظته في قمتها أيضا فطوال أيام تواجدي كانت أجهزة الإعلام تتحدث عن عدنان ابن الرجل الثري الذي قتله أصدقاؤه لسبب مجهول قالت فيه الصحافة : لأنه ثري أو لأنه يتميز عنهم ، أو لأنه يحتقرهم فالصورة لم تتضح بعد ، وعدنان عمره 16 سنة تظهر في ملامحه رغد النعيم ، ولسبب أو آخر اغتاله أصدقاؤه الأربعة وحين مغادرتي لدلهي تم القبض على ثلاثة منهم ونشرت صورهم ، وفي الحقيقة لم انظر إلى صورهم المعلنة في الصحف ولكن انشغلت بالتفكير في المسافة التي يصنعها الإنسان دوما فيما بينه وبين السماء تلك التي تجعل الصداقة بلا معني والفقر بلا غاية والثراء بلا هدف ، اليست هي التعاسة بعينها !
وفي دلهي القديمة قد تجد المترجل والذي معه ركشة ( دراجة عادية غير بخارية ركب من خلفها مقعدا يسع لشخص واحد وأحيانا لشخصين وتستخدم للنقل والمواصلات ، أما ما نسميه نحن في السودان ركشة أو رقشه فهو (الاوتو) أو (التكتك) كما يسمى في اليابان وهو عبارة عن دراجة بخارية بثلاث عجلات مع غطاء يسع لثلاث أو أربع أشخاص )، كما تجد الدراجة البخارية العادية والتاكسي ، وفجأة يصبح الشارع إمامك عبارة عن قدر متحرك قد يتخذ قرار مفاجئ في أي لحظة وبالتالي أنت وحظك .
عندما وقفت أمام بوابة الهند سألت سائقي ولماذا بوابة الهند في دلهي خاصة وفي وسطها لا عند مدخلها ، فقال لي : أن هناك أخرى في مومباي ، وبوابة الهند عبارة عن مبنى مرتفع كمبنى من عشرين طابق أو أكثر وعندما تقترب منه تجده ملئ بالأسماء .. إنها أسماء الجنود الهنود الذين ماتوا أو قتلوا في الحرب العالمية الثانية لقد ماتوا ولم يجد الإحياء غير أسمائهم ليكتبوها في هذا المبنى الذي يزار من قبل كل من يصل إلى الهند وفي اللحظات التي كنت أزوره فيها كانت التجهيزات جارية لزيارة رئيس وزراء اليابان هذا الشاب النحيل الذكي . قال لي سائقي هامسا وهو سعيد بحضوره لهيبة التجهيزات : أن تحت هذا المبني يوجد أهم مكتب عسكري في الهند ولا ادري أهو صادق أم لا ،غير اني لم انكر عليه خبريته فهي بأي حال لا تهمني أكثر من الإنسان الذي مات ثم لم يبقى غير اسمه معلقا هنا ، لقد مات ثم شنقنا أسمه هنا ولم نتعلم كيف نحب بعضنا البعض في سلام .
أما عند مدخل الجامع الكبير فقد كانت لى تجربة مختلفة ، فقد صعدت درج باب عبد الغفور حتى شعرت بالتعب لعلو المدخل ثم وانأ على رهقي وجدث ثلاث رجال متحلقين حول صحن الطعام لقد كانت الساعة الثانية عشر ظهرا ، أنه الغداء فيما يبدوا وانهم هم المسؤولين عن هذا المسجد الكبير، ولما رآني احدهم ترك الطعام وتقدم نحوي ، ان الرجل في لحيته وملابسه شبه لي أحد أبناء قبيلة البني عامر الذين يسكون عندنا في شرق السودان ويقال أنهم قد اتو إليه من أرتريا ، ولما دنا مني الرجل الهندي تكلم معي ولم افهم منه سوى عبارة مائتان روبية ، ولكن عندما طالعت لوحة الدخول فهمت ان كل من يدخل المسجد وفي يده كميرا تصوير عليه أن يدفع مائتان روبية ، وبالتالي نقدته المبلغ وخلعت حذائي ، وحاولت التوجه إلى داخل المسجد ، ولكن الرجل منعني واخذ حذائي في يده ، أنه لم يعر دهشتي اهتماما بل أصر أن يصاحبني إلى المتوضأ فتخليت عن دهشتي وشعرت بالامتنان نحوه خاصة عندما حمل مسقط الماء بيده ليسهل لي عملية الوضوء ، ولكن لم يكتب لامتناني ان يكتمل ، فما إن فرغت من وضوئي حتى طالبني بقيمة خدماته فأدخلت يدي في جيبي وسارع هو يؤشر إلى النقود التي خرجت من جيبي ليطالبني أن امنحه فئة معينة من النقود وتحت عودة الدهشة والاستغراب وانتهاء الامتنان منحته ما طلب ولا إداري كم هي أو لماذا اختارها بالذات لكن قطعا أنها أجود له من غيرها على الاقل في تصوره هو .
ودخلت إلى صحن المسجد الجميل .. شاهدت الحمائم مثل تلك التي نراها في الحرم المكي أو عند أسوار البقيع ورغم جمال النفحات الروحية التي صادفتني في فناء المسجد إلا أن بالي كان مشغولا بمواقف الرجل الذي تلقاني عند المدخل لماذا هو لم يتعفف ؟ لماذا هو لم يتركني أتوضأ من الوضوء المجاني المتاح في صحن المسجد ؟ ولماذا أحرز حذائي ؟ اهو خوف من السرقة ؟ أم محاولة منه لكسب بعض الروبيات ؟ ولماذا الناس يسرقون أصلا وخاصة في أمكان لم تعد للهوى دعك من السرقة ، وعندما خرجت من المسجد طالبني الرجل بمقابل إحرازه للحذاء فلم اعره اهتماما وامتلأت مقلتاي بالدمع ليس لما فعله الرجل معي ولكن حزنا على ضعفنا لقد صرنا ضعافا لاننا لا نعرف لماذا نحن على هذه الأرض .
**
كرمة تبوح بأسرار حضارة النوبة القديمة
لا تزال منطقة كرمة في أقصى شمال السودان ومع بزوغ شمس كل يوم جديد تبوح بأسرار الحضارة النوبية القديمة التي تعد من أقدم الحضارات الإنسانية في العالم، خاصة وأن المنطقة تمثل أكبر العواصم التاريخية للممالك النوبية القديمة في السودان.
وظلت كرمة منذ وقت بعيد قبلة جاذبة للسياح الأجانب، حيث تشهد حراكاً سياحياً كبيراً، كما تعد قبلة للباحثين في التراث والتاريخ.
وتضم كرمة مباني معمارية قديمة تعطي ملمحاً أثرياً جذاباً وتكشف عن أسرار حضارة النوبة التي لا تزال تحتفظ بالكثير من الأسرار والمفاجآت.
ويحتفظ متحف كرمة بتفاصيل من العصور القديمة للممالك لم يبق منها غير مبانٍ وآثار نسجت حولها الكثير من الأساطير والروايات.
ويقول الباحث في التاريخ والتراث فريد مكاوي إن منطقة كرمة هي التي صاغت الإنسان والهوية السودانية.
ويضيف: «تحتاج المنطقة إلى إعلام مكثف ولم تأخذ إلى الآن البعد الذي يعرّف بها السودانيون ناهيك عن الأجانب».
ويؤكد أن المنطقة لا تزال تحتاج إلى عمل كبير عبر إنشاء قرى سياحية بهدف استقبال الكثير من السياح.
ويشير إلى أن مركز كرمة للدراسات والمتحف الموجود في مكان قريب من المركز، يوضح كل تطورات الحضارة النوبية في المنطقة، ويعتبر المتحف والمركز خطوة كبيرة في سبيل الترويج للمنطقة عالمياً.
**
جراحة ناجحة للفيتوري والشاعر في الخرطوم قريباً
أجرى الشاعر العربي السوداني محمد مفتاح الفيتوري عملية جراحية ناجحة بالمملكة المغربية وغادر الشاعر السوداني المستشفى إلى منزله والذي خف إليه العشرات من أبناء الجالية السودانية بالمغرب ومعجبيه من خارج المملكة.
وتعرض الشاعر السوداني لوعكة ألزمته السرير الأبيض لفترة ليست بالقصيرة وظل طوال الفترة محط اهتمام الشعب السوداني والمسؤولين.
وطمأن الدكتور جبلي الطبيب المشرف على حالة الفيتوري أسرة ومعجبي الشاعر على صحته ووصفها بشبه المستقرة ولا تستدعي القلق، وقال إن الشاعر يعاني من نقص في الدم (أنيميا).
واستقبل الفيتوري في منزله بالعاصمة الرباط العشرات من السودانيين والجنسيات العربية الأخرى للاطمئنان على صحته وقابلهم الرجل ببشاشة رغم معاناة المرض وطلب من المسؤولين بالسفارة السودانية الإسراع في تكملة إجراءات سفره توطئة لزيارته الخرطوم في أقرب وقت.
وطمأنت سفارة السودان بالمغرب محبي الشاعر العربي الكبير على صحته وتعافيه وتماثله للشفاء بعد إجرائه لعملية جراحية ناجحة ومعاناته للمرض نحو 7 أعوام.
وقال نائب رئيس بعثة السفارة السودانية بالرباط محمد علي التوم إنهم مهتمون بالفيتوري وصحته إنطلاقاً من اهتمام الدولة بالمبدعين والرموز الوطنية باعتبار أن ما قدمه الرجل يستحق اهتمام الدولة في أعلى مستوياتها.
وقال رئيس الجالية السودانية إن أبناء الجالية السودانية ظلوا بالمستشفى من قبل أكثر من أربعة أيام من إجراء العملية الجراحية.
ويعد محمد مفتاح رجب الفيتورى، من شعراء السودان البارزين وهو من أسرة يختلط في دمها العربي الدم المصري والإفريقي، ولد في الجنيتة (السودان) عام 1930 م، نشأ في مدينة الإسكندرية وحفظ القرآن الكريم، درس بالمعهد الديني ثم انتقل إلى القاهرة وتخرج في الجامع الأزهر بالقاهرة أو في جامعة القاهرة، عمل محررًا أدبيًّا بالصحف المصرية والسودانية ، وعين خبيرًا للإعلام بالجامعة العربية، ثم عمل مستشارًا ثقافيًّا في السفارة الليبية بإيطاليا. كما عمل مستشارًا وسفيرًا بالسفارة الليبية ببيروت. ثم مستشارًا سياسيًّا وإعلاميًّا بسفارة ليبيا بالمغرب. يعتبر الفيتورى جزءًا من الحركة الأدبية السودانية.
**
الخندريس باللغة الالمانية
قامت الدكتورة اشراقة مصطفي بترجمة رواية (الخندريس من يخاف عثمان بشرى) للروائي عبد العزيز بركة ساكن, ىالى اللغة الالمانية,وسيتم تدشين الرواية في معرض الكتاب الاوربي في فينا خلال شهر نوفمبر هذا العام
**
عدد جديد للدوحة
في عددها الجديد -مجلة الدوحة – طرحت موضوعة العطلة عنوانا للعدد, هذا الى جانب المقالات الثاتبة, مثل مقال للروائي السوداني امير تاج السر والذي كتب عن(اعادةالكتابة) وهذا مجتزآ مماكتب تعميما للفائدة:
سألني مرة أحد الأصدقاء المتابعين لتجربتي الكتابية، إن كنت أفكر في إعادة كتابة رواياتي الأولى التي أنجزتها في بداياتي، أي منذ سنوات طويلة، بعد أن تطورت في الكتابة، وعرفت حيلها، وبأي عين أنظر لتلك الكتابات الآن؟
هذا السؤال لابد طُرِح على الكثيرين غيري، ولا يطرح حقيقة إلا من أصدقاء، أو قراء متابعين لتجربة كاتب ما، والصديق الذي سألني كان من المتابعين لتجربتي كما ذكرت، ومن القلائل الذين قرأوا روايتي الأولى (كرمكول)، التي لا يعرفها الكثيرون، وكنت نشرتها في مصر أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. وحقيقة كنت أحد الذين بدأوا بالكتابة التجريبية، ثم استمروا إلى أن توصلوا إلى طريقة ما أقنعتهم، بأنها الأسلوب الذي ينبغي أن يكتبوا به دائماً. لا يهم إن كانت الطريقة جيدة وجاذبة أم لا، لكنها تقنع الكاتب فقط، أو قد توهمه أنها طريقة مثلى، ومن ثم يتبعها وتدخل للأسف في تذوقه الشخصي لأعمال الآخرين، وربما تحجب عنه كثيراً من الأعمال الجيدة، إذا كانت مكتوبة بطريقة مختلفة.
الرد على سؤال الصديق هو أن الكاتب أي كاتب، حين يعود إلى قراءة بعض أعماله المنشورة بعد مدة، بوصفه قارئاً فقط، قد يعثر على ثغرات عديدة فيها، ربما ثغرات فنية أو في حبكة النص وانسياب اللغة، أو يراها لا تواكب كتابته الآن، لكنه لن يفكر في الغالب، في إعادة كتابتها، سيتركها هكذا بكل ثغراتها وتصبح جزءاً من إرثه، تماماً كالأطفال الذين يلدهم، ويكبرون بحسنات وعيوب، لكن لا أحد يفكر أنهم كانوا سيولدون أفضل من حالهم الذي هم عليه.
شخصياً في قراءاتي لكثير من الأعمال الإبداعية، سواء أكانت عربية أو مترجمة عن لغات أخرى، دائماً ما أجد مقاطع كانت ستكون أفضل لو كتبت بإسهاب أو اختصرت، ولكن لا يذهب ذهني بعيداً لمخاطبة الكاتب وسؤاله إن كان سيعيد النظر في كتابه هذا ويكتبه من جديد، وحين نشرت روايتي الأولى (كرمكول) منذ أكثر من عشرين عاماً، في دار الغد التي كان يملكها الشاعر الراحل كمال عبد الحليم، وكانت رواية صغيرة وشديدة التكثيف والتعقيد معاً، قال لي الكاتب الجميل الراحل محمد مستجاب، وكانت قد أعجبته الرواية، وكتب عنها مقالاً في جريدة «الشرق الأوسط»: لماذا لا تعيد تفكيكها، وكتابتها من جديد، بحيث تكتمل الحكايات التي تركت بلا نهاية، وستكون أفضل بكل تأكيد؟ وكان ردي عليه، أن ذلك صعب الحدوث، ولا أعتقد أنه سيحدث، والذي سيحدث هو محاولة كتابة غيرها، بحيث تكتمل الحكايات الناقصة هناك، وأنه هو نفسه (مستجاب) بالتأكيد لديه قصص غير راض عنها، وكان يمكن أن يعيد فيها النظر ولم يفعل، وحتى العبقري العظيم ماركيز، بالتأكيد لديه تلك القصص التي تستوجب إعادة النظر وتركها هكذا، لتصبح جزءاً من تاريخ تطوره، أو تبدل أدوات كتابته..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.