كلما وهن العزم منى ، اجد ملاذآ فى قراءة ( طبائع الاستبداد ..و مصارع الاستعباد ) لعبد الرحمن الكواكبى فى كل مرة ، الكتاب يروى واقعنا الحالى رغم انه كتب قبل ما يزيد على مائة سنة ، يغسل النفس و يحرر الحزن و اليأس ،، (1)الاستبدادُ هو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة، ويُراد به استبداد الحكومات خاصّةً، لأنّها أعظم مظاهر أضراره ، والاستبداد عند السّياسيين هوتَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعات، وقد تَطرُآ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة (استبداد) كلمات مثل استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم، ويستعملون في مقام صفة (مستبدّ) كلمات مثل جبّار، وطاغية، وحاكم مطلق، وفي مقابلة ( حكومة مستبدّة) ،حكومة عادلة ومسؤولة، مقيّدة ودستورية،، (2) وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، و كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً، كذلك يخفُّ الاستبداد كلّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة، وقلَّ التّفاوت في الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف ، (3) الاستبداد محفوفٌ بأنواعٍ القوات التي فيها قوّة الإرهاب بالعظمة وقوّة الجُند، لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوّة رجال الدين، وقوّة أهل الثروات، وقوّة الأنصار من الأجانب، فهذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف لا يُقابَل بعصا الفكر العام الذي هو في أوَّل نشأته يكون أشبه بغوغاء ؛ يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله الثبات والعناد المصحوبان بالحزم والإقدام ، (4) لذلك يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد ، إنَّ معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، والمعرفة الإجمالية في هذا لا تكفي مطلقاً، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعييناً واضحاً موافقاً لرأيِّ الكلِّ، وإلا فلن يتمّ الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعاً، يكون الإقدام ناقصاً نوعاً، وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء ينضمّون إلى المستبدِّ، فتكون فتنةً شعواء، (5)أنَّ من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أنْ يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهيّن الذي تكفيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأسهل من ترتيب المقاومة والمغالبة، وهذا الاستعداد الفكري النظري لا يجوز أنْ يكون مقصوراً على الخواص، بل لا بدَّ من تعميمه ليكون معضوداً بقبول الرأي العام،، (6) وقد تقاوم المستبدَّ استعانة بمستبدٍّ آخر تتوسَّم فيه أنَّه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا المستبد المعاون يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضاً شيئاً، إنما تستبدل مرضاً مزمناً بمرض حديث، وربما تُنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً؛ لأنَّها لا تعرف طعمها، فلا تهتمُّ بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبدادٍ أشدُّ وطأةً ، ولهذا فأنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة –غالباً- تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت ،، (7) لذلك يلزم أولاً توعية الأمَّة بآلام الاستبداد، ثمَّ حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة بمجموعها؛ بحيث يشغل ذلك أفكار كلِّ طبقاتها ، والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذُّر الشديد، والتنكيل بالمجاهدين ، فيزيغ المستبدُّ ويتكالب، فحينئذٍ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد، وإمَّا أن تكون الأمَّة قد تأهَّلت لتحكم نفسها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن لعقلاء الأمَّة أن يكلِّفوا المستبدَّ ذاته لترك أصول الاستبداد، فإن أصرَّ المستبدُّ على القوّة، قضوا بالزوال على دولته، وأصبح كلٌّ منهم راعياً، وكلهم مسؤولاً عن رعيته، فلا يُغلبون عن قلّة، فليتبصَّر العقلاء، وليتَّقِ الله المغرورون، (8)وليعلم أنَّ الأمر صعب، ولكنها صعوبة لا تستوجب القنوط، وبهذا يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهمية ، فيهُّمه اولآ حياة أمِّته، ثمَّ امتلاك حريته، ثمَّ أمنه على شرفه، ثمَّ محافظته على عائلته، فحياته، ثمَّ ماله، .. الخ ،وقد تشمل عالم الإنسانية كلِّه، كأنَّ قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، وقد يبلغ ترقّي التركيب في الأمم درجة أنْ يصير كلُّ فردٍ من الأمَّة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً. فالأمَّة التي يكون كلُّ فردٍ منها مستعداً لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمَّة بهذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم ،، ( بتصرف )