*(مشيت ألاف الأمتار فوق الأشواك والصخور كي أحضر لكم خبزاً وماءً ووروداً. الجمال أبداً ما خنت والليالي السوداء نوّرتها تذكُّروني!..). - يانيس ريتسوس – شاعر يوناني .. في أواخر التسعينيات جمعتنا المصادفة أنا وزوجتي بأحد المقاهي المتواضعة وسط أثينا (اليونان) مع عدد من السودانيين المقيمين أو العابرين أذكر منهم الدكتور جلال التجاني وزوجته اليونانية، وبناته رشا وجني، وخالد باشري الشاعر الرقيق، الذي يعمل في مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين وآخرين، نرنو إلى تلك القلعة الأثرية الشهيرة (الأكربول) الجاثمة على قمة جبل الأوليمب المجاور الذي غادرته الآلهة منذ زمن موغل في القدم. وفيما كنت أنظر بفضول إلى السياح الذين جاؤوا ينهلون من نبع التراث الثر، تراءى لي ذاك الشاعر الأعمى (هوميروس) يحمل قيثارته ويطوف في بلاد الإغريق يروي بأشعاره قصة الحرب التي دامت عشر سنوات وحقق بها جيش الإغريق انتصاراً كاسحاً على جيش طروادة وقد جمعت بعد وفاته بملحمة سميت (الإلياذة) وقصة عودة الإغريق إلى بلادهم يلاقون الموت والتشتت حتى لم ينج منهم إلا القليل وقد جمعت بملحمة سميت (الأوديسة) وكانت الملحمتان مصدر إلهام الشعراء الإغريق وتربعتا على سدة التراث العالمي. ولاح لي ذاك الشاب الاسكندر المقدوني(ذو القرنين) الذي انطلق على صهوة جواده وهو في الثالثة والعشرين على رأس جيش من ذوي السواعد الحديدية ليسيطر على العالم طيلة سبع سنوات وانتصر في عدد من المعارك واحتل بعض المدن كمدينة (صور) ثم انهزم في أخرى وقفل راجعاً إلى بلده بعد أن بنى عدداً من المدن على سواحل المتوسط باسمه كالاسكندرونة والاسكندرية. جلست في عدد من المنتزهات وزرت عدداً من الملاهي وأكلت في مطعم يقدم خروفاً رضيعاً مشويا يذوب لحمه في الفم وكأنك تأكل (البقلاوة) العربية أو التركية. وتجولت في الأسواق الراقية والأسواق الشعبية، في البداية كنت أتفرس في وجوه الإغريق فأرى الكثير من التشابه بين العرب وبينهم باعتبارهم من شعوب البحر الأبيض المتوسط، وفي هذه اللحظة تذكرت قصيدة شاعرنا الفذ والمطبوع صلاح أحمد إبراهيم (يا ماريا) وهي في واحدة من حسان الإغريق، التي صدح بها حمد الريح، ما أجمل صبايا اليونان! حلاوة وطلاوة!!، ثم عصي عليّ النظر وأوغلت في تاريخ الإغريق الذي أنجب كتّاباً ومفكرين أمثال:(هسيودوس) شاعر الإنسانية والإخاء، والفلاسفة (ديموقريطس) و(أرسطو طاليس) و(سقراط) و(أفلاطون) الذين أثروا الفكر الإنساني. وإذا قفزنا إلى القرن العشرين وقرأنا للكاتب اليوناني (كونتراس كازنتزاكي) روايته (زوربا) التي عززها الفيلم السينمائي المستقى منها فلاقت رواجاً عالمياً لافتاً وأعادت لليونان ألقها. ومن الفنانين الشهيرين: الممثلة ذات العينين الصاعقتين (إيرين باباس) ومؤلف رقصة زوربا الموسيقي (ميكس تيودوراكس) والمطرب (ديميس روسوس) (واسمه الحقيقي أرتيميوس فانتوريس روسوس)، الذي رحل ليلة السبت الأحد الماضي، وأذيع خبر وفاته أمس عن عمر 68 سنة بسبب السرطان، كان صوته كأسلاك الذهب المتوهجة، والمطربة (فكي لياندواس) ذات الصوت الحريري الذي يجذب العيون ويلف القلوب والتي فازت بالدرجة الأولى في مهرجان الأغنية الأوروبية عام (1970) بأغنيتها الساحرة: من بعدك لا أستطيع أن أعيش. وتتساقط أوراق اليونان على أشجار التاريخ الباسقة؟ وتصاب بعدوى الأزمة الاقتصادية العالمية التي بذر بذرتها الأولى (دبليو بوش) انطلاقاً من أمريكا ذات الماضي القريب (الأسود) أمريكا التي تؤسس حضارة الدمار والبطش؟ وأتذكر قول الخنساء في رثاء أخيها صخر وأنا أتقلب على جمر الواقع العربي الراهن: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكين مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي [email protected]