مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرق المنزلي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في شمال السودان

Domestic slavery in the nineteenth – and early twentieth -century northern Sudan
هيزر شاركي Heather Sharkey
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في الفصل الثالث عشر والأخير (الخلاصة) لأطروحة قدمتها الباحثة الأمريكية هيزر شاركي لجامعة درام البريطانية لنيل درجة الماجستير في عام 1992م ، وذلك بعنوان: "الرق المنزلي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في شمال السودان ". والأطروحة مبذولة لمن يرغب على موقع تلك الجامعة تحت عنوان "Durham E-Theses".
وتعمل الدكتورة هيزر شاركي الآن أستاذة مشاركة في قسم التاريخ بجامعة بنسلفانيا حيث تقوم بتدريس تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى. وللكاتبة عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". وكنت قد عرضت لعدد من كتابات الدكتورة شاركي في مقالات سابقة.
المترجم
******* ************** ***********
لقد حظي أمر الرق وتجارة الرقيق ومحاولات منعه في شمال السودان بكثير من الدراسات السابقة. غير أن تجربة الرق نفسها لم تحظ بأي قدر من الاهتمام البحثي. وربما كان مرد ذلك هو طبيعة المصادر المتاحة. وقد استقيت معظم مصادري في هذا البحث مِمَّا خطته أقلام الإداريين في عهد الحكم الثنائي، ومن رسائل خاصة، إضافة لما سجله الرحالة في مذكراتهم، والتي بنى عليها المؤرخون سردهم عن تجارة الرقيق، وحملات اصطياد الرقيق، ومنع التجارة فيه. وهنالك أيضا القليل من المصادر الأولية، وهي قصص رواها ملاك المسترقين، أو (وهذا هو الأهم) رواها المسترقون أنفسهم.
ولعل تلك "الفجوة المعلوماتية" الضخمة في معرفة آراء وأفكار وملاحظات المسترقين أنفسهم عن "تجربة الرق" هو ما جعل المؤرخين (العقلاء) يحجمون عن الكتابة في شأن تلك التجربة. إلا أنه يجب القول بأن تجربة آلاف الرجال والنساء والأطفال الذين سيقوا سوقا من مناطقهم إلى أسواق شمال السودان تمثل القاعدة والأساس في شأن كل دراسة صدرت عن تجارة الرقيق أو تثبيطيها.
والدراسة الحالية هي محاولة غير مباشرة لاقتحام سور فهم تجربة الرق، أردت فيها تجميع ملاحظات من شهدوا وخبروا مشهد الرق من علماء الآثار والسواح والمستشارين العسكريين أو المسئولين الإقليميين، ودعمت تلك المعلومات التي تحصلت عليها بفرضيات (hypotheses) منتقاة بعناية. وختمت بحثي بتقديم تصور محتمل لنوعية تفكير المسترق وشعوره، وكيف أدى وظيفته في بيئته.
ويدرك كل من حاول أو يحاول الكتابة عن السودان مدى غنى المصادر التاريخية الثانوية فيه، والتي تشمل (ولا تقتصر على) المسوحات العامة والدراسات الإقليمية المحددة. ولقد انتفعت في هذه الدراسة بكثير من المصادر والأدبيات التي تبعث على التفكير، وتلقي بكثير من الضوء على تاريخ السودان بكل تعقيداته وتنوعه. وعلى رأس تلك الكتابات وقعت على كتابات من نوع مختلف، وجدتها ذات فائدة عظيمة، ألا وهي النظريات المقارنة لدراسات الرق، والتي تمثل حقلا واعدا ومزدهرا لعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع والتاريخ. وهي نظريات تدرس الصفات والخواص التي تعرف "الرقيق"، وتقارن تجاربهم في مختلف بقاع العالم، وفي مختلف العصور. ومثل تلك الدراسات لها ثلاث فوائد، فهي تضخ بعدا نظريا مهما في ثنايا المعلومات التاريخية الجافة الصماء، وتوفر إطارا مفاهميا (conceptual framework) لبناء فرضيات حيث تركت المصادر الأولية والثانوية بعض الفجوات، وفوق هذا وذاك تقوم أيضا بوضع الرق في السودان الشمالي في سياقة العالمي الأوسع.
إن الرق في السودان موضوع كبير ومتشعب وله تاريخ طويل جدا يعود لآلاف السنين. وفي هذه الدراسة تعرضنا لشريحة رقيقة واحدة فحسب من ذلك التاريخ الطويل. وتمتد فترة هذه الدراسة من الأيام الأخيرة لسلطنة الفونج في بداية القرن التاسع عشر، إلى بدايات عقود الحكم الثنائي في القرن العشرين، حين بدأ المسئولون البريطانيون في تفكيك وإزالة الرق في المنطقة. ويبقى تركيز هذه الدراسة على أولئك الرقيق والذين رحلوا قسرا لأسواق الرقيق بشمال السودان، وليس أولئك الرقيق الذين صدروا عبر شمال البلاد إلى الأسواق الخارجية. ولمزيد من التركيز قمت بحصر الدراسة في "الرق المنزلي"، وحاولت إيجاد تعريف يوضح هذا النوع من الرق، والذي لم تتطرق له إلا القليل جدا من المصادر. والمقصود ب "الرق المنزلي" هم الأرقاء الذين يلحقون بخدمة عائلة المالك. وهو بهذا التوصيف يختلف عن الرقيق العسكري، والرقيق الإداري الصفوي administrative elite slavery (والوظيفة هي "عبودية القرن العشرين" في رأي عباس محمود العقاد، والقذافي أيضا! المترجم).
إن "تجربة الرق" في شال السودان تستعصي على التنميط stereotyping. ومهما يكن من أمرها فهي لم تكن بالقطع تجربة رومانسية، ولا حميدة تماما. فالصور النمطية للمحظية (أو السُّرِّيَّةُ) الشهوانية sultry، والمتكئة على الأرائك المحشوة بِالخَمْلِ في خدر الحريم ليست واردة هنا. وحتى الصورة النمطية ل "خادمة" البيت السعيد، والمحبوبة من الجميع، والتي تقوم بالأعمال المنزلية الخفيفة من قبيل تنفيض الأتربة من على الأثاث، وتقدم المشروبات المثلجة للضيوف لا مكان لها هنا. فالحقيقة تبقى بالطبع أكثر تعقيدا.
وكان "ملاك" المسترقين بشمال السودان في القرن التاسع عشر يفرضون عليهم / عليهن القيام بالعديد من الأعمال والمهن المتنوعة. ويأتي ذلك التنوع في الأعمال والمهن تبعا للاختلافات الكبيرة في ثروة ومهن الملاك المتزايدي العدد، وموقعهم الجغرافي. فبينما قد تجد هنالك بعض الصبيان المسترقين في أزياء أنيقة يطوفون على ضيوف الباشا في داره الوسيعة الفخمة بالخرطوم، تجد كذلك صبية مسترقين آخرين يقودون ثيران الساقية في مزرعة بمروي تحت شواظ لهيب نهار قائظ. وقد تجد مسترقات أجبرن على البغاء في كسلا، وأخريات يطحن الذرة في الأبيض، أو يصلحن أسوار بيوت سادتهن في دار مساليت.
وكان ملاك المسترقات يتخذون من بعضهن محظيات (سريات)، وكانت "المحظوظة" منهن (في ملكة تقلي مثلا) والتي تحبل من سيدها تحظى بمكانة عالية. وكان الرقيق في خارج مدينة سواكن يعملون جنودا في الشرطة المحلية، بينما كان بعض الرقيق في منقرة (Munqara) يعملون في بناء المراكب، وعمل الآخرون في الزراعة والحصاد في مناطق البلاد المختلفة. وكان بعض أولئك الرقيق يكدون ويجهدون أنفسهم للحد الأقصى، بينا كان البعض لا يعمل إلا قليلا. غير أن نصيب النساء المسترقات من الشقاء والكدح والنَّصَب كان يفوق عادة ما يلقاه الرجال من المسترقين، إذ كن يقمن بأعمال يومية مضنية مثل جلب المياه من مناطق بعيدة لسنين عددا.
وكان ملاك الرقيق يقدرون ويثمنون امتلاك الرقيق، ليس بالضرورة من أجل انتاجيتهم / انتاجيتهن أو خدماتهم / خدماتهن، بل لما يكسبه امتلاك الرقيق للمرء من مكانة عالية في أوساط الناس، ومظهر اجتماعي يشير (بالحق أو الباطل) إلى القوة والسلطة والمكانة الرفيعة. ويبين أيضا امتلاك الرجل للرقيق للناس أن "المالك" لا يقوم بأي عمل يدوي من أجل كسب عيشه، ولا يجهد نفسه في "الوضيع" من الأعمال اليومية المعتادة، فهو "سيد" يقوم على خدمته عبيد وإماء، ويقضي جل وقته في الممتع من النشاط الاجتماعي في وسط أهله وأصحابه. وينطبق ذات الشيء على "السيدات" اللواتي لا يقربن أي عمل يدوي في المنزل، بل يقضين جل وقتهن في عمليات التزيين وتصفيف الشعر والاستلقاء على العناقريب. وكانت تلك الممارسات عند "السادة" و"السيدات" في شمال السودان تعد من الأعمال التي تستحوذ على إعجاب (وغبطة) الآخرين، وقد تعد من "نبيل" الأعمال. ولعل تلك القيم الثقافية هي ما شجعت ما يمكن تسميته ب "أخلاقيات الكسل/ التبطل" leisure/ idleness ethics وليس "أخلاقيات العمل" عندهم. وكان الرجال من غير المسترقين ("الأحرار") والرقيق المحررين أيضا يتوقون لاكتساب مثل تلك الأخلاقيات الكسولة. ولم تكن تلك الأخلاقيات ذات فائدة بالطبع للدولة بعد ما شهدته البلاد بعد عام 1898م من نقص حاد في الأيدي العاملة.
وتطرقت هذه الدراسة أيضا لمدى القساوة أو الرفق في الرق المنزلي بشمال السودان. فبينما كان كثير من المنادين بمنع تجارة الرقيق في أوروبا لا ينفكون عن ترديد مساوئ الرق وشروره، كان بعض هؤلاء المنادين أنفسهم – وللغرابة- يشيدون بالرق المنزلي في الشرق (أي العالم الإسلامي) باعتباره أمرا حميدا لا عنف فيه ولا أَذِيَّة. وحاولت في هذه الدراسة وبقدر الامكان تحاشي تلك المصادر المتحيزة والمتضاربة والمثيرة للجدل. وهنالك أيضا من جانب المسلمين من يحاج بأن القوانين الاسلامية قد أفلحت بالفعل في تنظيم الرق في شمال السودان. غير أنه عند التحقق والاستقصاء، نجد أن "وجود" قوانين إسلامية لا يعني بالضرورة "تطبيق" قوانين إسلامية. فالايدلوجية هنا تختلف عن الممارسة. فهنالك في القرآن آية تحرم بغاء المسترقات، لا تكاد تجد لها تطبيقا في ممارسات الرق السوداني الشمالي. وليس في القرآن ما يدل على وجوب معاملة الرقيق باللين والرفق (يجب هنا القول بأن في القرآن والسنة من النصوص الكثيرة ما يدعوا لتحرير الرقيق وعتقهم، ومعاملتهم بالعدل والإحسان والرحمة. المترجم).
ولقد لقي كثير من المسترقين (المحظوظين) بالفعل معاملة عادلة وحانية وعطوفة من جانب ملاكهم. بل كان بعضهم يلقى من مالكه معاملة لا تكاد تختلف عن معاملة أي فرد من الأسرة. غير أن هنالك أيضا من كان يلقى معاملة حادة وقاسية من قبل مالكه. وشهد الكثيرون بأن أكثر ملاك الرقيق قسوة عليهم كانوا من الأوربيين. ويمكن القول هنا بأن معاملة المسترق كانت أمرا اعتباطيا يخضع للحظ والنصيب (arbitrary)، إذ أن مصير ومعاملة المسترق كانت تعتمد بالكامل على أخلاق ونزوات ورغبات مالكه.
ولا يجب أن ننسى عند الحديث عن الاسترقاق، أنه مهما كانت درجة الرفق واللين فيه، أن نضعه في سياقه ومنظوره الصحيحين، وأن نتذكر دوما خلفيته البائسة الكئيبة والتي تشمل حملات اصطياد الرقيق، والغارات العسكرية التي كانت تشن فيها، مع كل ما يصاحبها من ترويع وعنف وتدمير. وليس بوسع أحد أن يبالغ في وصف فظائع تلك الحملات، ففيها من النهب والسلب والحرق والتدمير وحالات الاغتصاب ما فيها. ويتعرض من يؤسر ويسترق إلى التجويع والتعطيش والإرهاق المفرط، وأحيانا إلى الإصابة بالأمراض (نتيجة لتعرض الجلد لجروح تنتج عن الاحتكاك المباشر بالأصفاد والقيود والأنيار التي تطوق الأعناق) خلال المسيرة الطويلة للمختطفين من الأسرى. وتمثل أعداد الرجال والنساء والأطفال الذين وصلوا بالفعل لأسواق الرقيق في شمال السودان نسبة ضئيلة مقارنة مع من قضوا خلال تلك المسيرات. وبهذا فقد جلب الرق (لبعض) سكان شمال السودان الرفاه والراحة والدعة، غير أن ذلك تزامن مع شلل ودمار كامل لمجتمعات بأكملها في بعض المجموعات العرقية في جنوب السودان، وبمناطق تقع الآن في إثيوبيا وزائير وتشاد وأفريقيا الوسطى، وفي بعض مناطق الغرب أيضا.
ويعجب المرء من كيفية نجاة الأسير المسترق من دائرة العنف وسفك الدماء تلك، والتي تقتلعه من داره وتأسره بضاعة، وترحله قسرا – تحت ظروف بالغة القسوة والعنف - إلى ديار بعيدة غريبة عنه. ولكن، وكما هو معلوم، فإن بعض هؤلاء الأسرى المسترقين قد نجوا من الموت ووصلوا بالفعل للأسواق. وقمت في هذه الدراسة بتقديم بعض الفرضيات والتخمينات (speculations) عن الطرق التي بها نجح المسترقون في التعامل مع واقعهم الجديد والتأقلم عليه. وتعددت استجابات المسترقين للرق، واختلفت كذلك الوسائل التي بها أعطوا لحياتهم معنى. فأتخذ بعضهم سلاح الوقاحة (عوضا عن الإذعان) في تحد صارخ للمجتمع الذي تحداهم في المبتدأ. واعتنق بعضهم الاسلام (ديانة ملاكهم)، وحسن تدينهم، بل وفاقوا ملاكهم أحيانا في شدة التدين. واحتفظ بعضهم بذكرياته عن حياته القديمة في موطنه الأصلي، وبأغانيه وطقوس دياناته القديمة وهكذا. ومما قد يراه البعض صادما الآن هو قيام المسترقين أنفسهم بتكرار ما وقع عليهم، واسترقاقهم لغيرهم كذلك.
وكما تأقلم المسترقون على مجتمعهم الجديد، تأقلم كذلك المجتمع الجديد عليهم. فوفر مجتمع شمال السودان لهؤلاء المسترقين وسائل عديدة للترقي في السلم الاجتماعي (social mobility) وذلك عن طريق العتق، والاندماج في المجتمع الجديد والعيش فيه أحرارا. غير أن ذلك السبيل لم يكن دوما ممهدا أوسالكا. فهنالك دوما الدعوات المضادة لاستيعاب المحررين الجدد، وهنالك المعدلات العالية للوفاة في أوساط الرقيق، والبيع المتكرر لبعضهم، والنظرة الدونية للمسترق، والتي تساويه بالسوائم. وكل ذلك من شأنه أن يحبط كل محاولة تهدف لخلق علاقات أسرية بين الرقيق وملاكهم.
وكانت فرص النساء المسترقات في العتق من أسر العبودية والاندماج في أوساط المجتمع الحر أكبر من تلك المتوفرة للرجال. فللنساء عادة قدرة أكبر على الاندماج، رغم ضعفهن في مجال الحركة، إذ أن حركتهن (كنساء محررات أو مسترقات) مقيدة دوما بوجود ولي أمر (محرم) قد يكون هو الزوج أو المالك. لذا فإن عتق المرأة المسترقة نادرا ما يغير من أسلوب حياتها إلا بقدر طفيف جدا. ولا تكاد تلمس له أثرا فيما قد يناله أطفالها من تركة بعد وفاتها. وهنالك قاعدة في الإسلام تفيد بأن الرق مانع للإرث، لأن الرقيق ليس له الحق في التملك، فهو يعد من ممتلكات مالكه، ولا يرث ولا يورث. وهنالك قاعدة أخرى تتحدث عن "أم الولد"، وهي المحظية التي تحبل من مالكها فتصير بذلك حرة، ويكون لها بذلك الحق في الورثة. وما تنجبه المحظية من سيدها ("الحر") يولد حرا. غير أن أمثال هؤلاء الأبناء، وعلى الرغم أنهم يعدون أحرارا من الناحية الشرعية والقانونية، إلا أنهم قد يصادفون من بعض أفراد المجتمع بقايا وصمة الرق. ومن حسن الحظ أن تلك الوصمة ظلت تتناقص مع تعاقب الأجيال.
ويواجه الرقيق الذكور مصاعبا من نوع مختلف. فالرجل منهم يتزوج، غالبا بأمر من "السيد"، بعد وقت قليل من شرائه، ويكون أطفاله بالضرورة الجيل الثاني من ممتلكات ذات "السيد".
ويرتبط هؤلاء الرقيق ومن يأتي من أصلابهم (حتى وإن تحرروا) بطريقة ما بسادتهم القدامى، وقد يرضون بالعمل تحتهم / عندهم (وإن كانوا غير ملزمين بذلك). ويظل أحفاد الرقيق يواجهون وصمة أنهم من حفدة الرقيق حتى بعد مرور سنوات طويلة على تحريرهم. غير أنه يصعب تحديد وقياس مدى وتأثير مثل تلك "الوصمة".
وكان إعطاء الرقيق من الرجال والنساء اسماء متميزة (وشاذة في كثير من الحالات) إحدى وسائل التفرقة بين الرقيق و"سادتهم". وكثيرا ما يشي اسم الفرد بوضعه الاجتماعي (إن كان "حرا" أو مسترقا). وظلت الوظائف العليا والمناصب السياسية والرتب العليا في كثير من المرافق الحكومية والأهلية، وفي سنوات القرن العشرين (وربما حتى بعدها)، ممنوعة على من أتى من أصول مسترقة. وكانت التفرقة في المعاملة تضطر شباب المسترقين للهجرة من القرى والمدن إلى المدن الكبيرة أملا في الحصول على مستقبل أفضل لا تعكر صفاه ظلال تلك "الوصمة الاجتماعية".
وعلى الرغم من كل الصعاب الوعرة والعقبات الكؤود في طريق القبول الاجتماعي والتكامل فقد أفلح أحفاد المسترقين من الرجال والنساء في الاندماج في مجتمعات شمال السودان، وتحول هؤلاء من وضع "الغرباء" الذي كان عليه جدودهم وجداتهم ممن كانوا قد أتي بهم قسرا من بلاد بعيدة، وغدوا أعضاءً كاملي الأهلية في مجتمع شمال السودان المسلم (قد يلاحظ القارئ شيئا من التناقض في ما أتت به الكاتبة في الفقرات الثلاث السابقة. المترجم).
ويقوم اليوم هؤلاء الأحفاد بالنظر إلى الأراضي التي قد يكون جدودهم قد جلبوا للشمال منها... أرض الشلك والدينكا والبرتا والبونقو... ولا يرون فيمن يسكنها غير "هم" وليس "نحن". (ربما كان من الأجدر أن تستخدم الكاتبة هنا كلمات من قبيل "جل" أو "معظم" أو "بعض" عند الحديث عن هؤلاء الأحفاد، عوضا عن تعميمها الكاسح، فهم ليسوا كتلة واحدة على قلب رجل واحد. المترجم)
وختاما... غطت هذه الدراسة "الرق المنزلي" في فترة زمنية امتدت من عهد السلطنة الزرقاء (الفونج) حتى سنوات الحكم الثنائي الباكرة. وهي تعد فترة من أخصب سنوات تاريخ السودان، وأشدها تعقيدا. ومر الرق في تلك السنوات، مثله مثل المؤسسات الاجتماعية الأخرى، بتغيرات هائلة. ففي تلك السنوات تحول الرق من بضاعة ثمينة ونادرة لا يقدر على شرائها إلا صفوة الأثرياء، إلى بضاعة رخيصة في متناول يد العامة. ثم أتى عهد حرمت التجارة فيها واختفى الرق من الحياة السودانية بحكم القانون، غير أن بعضا من عقابيل آثاره على الأجيال اللاحقة ما يزال يراوح مكانه.
لقد حاولت في هذا الفصل رسم صورة لتجربة الرق، بكل تنويعاتها وتفاصيلها متعددة الألوان، على خلفية تغيرات اجتماعية هائلة وسريعة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.