تقطع كبدي وأنا أشاهد الصور المفزعة للمصابين في حريق تانكر الغاز بنفق جامعة الخرطوم الذي حدث بالأمس. وأكثر ما شدَ إنتباهي هو حالة المصابين وهم تتقطع جلودهم بفعل الحريق، ولا أحد بجانبهم من فرق الطوارئ الطبية والدعم السريع، الذي يجب أن يكون حاضراً بسرعة البرق في مثل هذه الحالات الانسانية العاجلة، خصوصاً وأن مكان الحادث لا يبعد أكثر من دقائق من أكبر تجمع للمؤسسات العلاجية في قلب الخرطوم، كما أنه مجاور لعيادة جامعة الخرطوم التي لا تبعد سوي خطوات من المكان، وبالرغم من ضعف قدراتها في إستقبال مثل هذه الحالات الا انها يمكن أن تقدم خدمات الاسعافات الاولية. المصابون كانوا يقاسون كل هذا الالم وهم جالسون أو راقدون علي قارعة الطريق، ولا أحد بجانبهم من المسعفين، وكأنما كانوا ينتظرون يومهم المحتوم. هذا الحادث سحب ذاكرتي الي أنفجارات مصنع الذخيرة الذي لا يزال قابعاً جنوبالخرطوم رغم الوعد بترحيله، وذلك حينما طارت إحدي الدانات وأبت أن تستقر الا في جسم مواطن آمن ينعم بالاستقرار داخل بيته. كما أستدعت ذاكرتي مقالات كاتبنا المخضرم ورئيس مجلس ادارة صحيفة «آخر لحظة» الاستاذ الكبير (حسن ساتي) رحمه الله، الذي أفرد سلسلة من المقالات تحت عنوان "الموت سنبلة" ليصور لنا سيناريوهات الموت البشعة التي يتعرض لها مواطن بلادي بفعل الاهمال والتقصير. ولعل إرث حسن ساتي كخبير في الصحة العامة قبل أن يكون صحافياً، كان هو الذخيرة العلمية والمعرفية الثاقبة التي إستطاعت أن تفسر لنا الكثير من الاحداث، وتترجم لنا الكثير من المماراسات المهلكة التي نفعلها دون قصد، ونحن نسارع بخطواتنا نحو الموت مع سبق الإصرار والترصد. الأدهي والامر أننا دائماً ننسب تقصيرنا وإهمالنا للايمان بالقضاء والقدر ... وكأنما المحافظة علي أرواح الناس شِرك من عمل الشيطان. متناسين ذات الايمان الذي يدفعنا لصيانة النفس البشرية والمحافظة عليه واكرامها، بل وأبعد من ذلك المحافظة علي روح الحيوان وتجنيبه الاذي وتحمل المسئولية في تعثر بقرة، ومتجاهلين بذلك كل إحتياطات السلامة وإشتراطات الامن التي يجب إتباعها لتجنب الضرر ودرء المخاطر في كثير من المشروعات والمهن والممارسات. الاصابة أو الموت بتلك الطريقة التي تنعدم فيها المسئولية، ويستشري فيها التقصير أصبحت من المحرمات في عرف وثقافة كثير من الدول التي تحترم حياة الانسان وتحفظ حقه في الحياة، وهو ما اصطلح بتسميته (immature death or unnecessary injuries) وهي حالات تستدعي المسائلة العاجلة، والمحاسبة الصارمة، ولا تتسامح معها الدولة علي الاطلاق. هناك الكثير الذي يمكن أن نفعله في جانب الاجراءات والاشتراطات الوقائية لتجنب مثل تلك المخاطر القاتلة؛ من تحديد للمواقع للمنشآت الخطرة، ووسائل نقل المواد القابلة للاشتعال أو السامة أو المتفجرة. كما أن هناك حزمة من الاجراءات القياسية التي يمكن الاحتياط بها لمقابلة مثل هذة المخاطر في حالة وقوعها، سواءً كان ذلك بالتدخل في الزمن المناسب في حالة الاجلاء والانقاذ أو الاسعاف والعلاج. ويتعلل الكثيرون بأن ضعف الامكانيات والمعدات والآليات يحول دون تنفيذ خطط الطوارئ الطبية إدارة الازمات، ولكني علي ثقة بأن الامكانيات الحالية التي تتمتع بها ولاية الخرطوم يمكن أن تفعل الكثير في هذا المجال، إذا كانت هناك إرادة سياسية كافية وضعت هذا المشكلة ضمن قائمة أولويات الولاية. إن الامكانيات التي يتمتع بها الدفاع المدني، ووزارة الصحة، والسلاح الطبي يمكنها أن تفعل الكثير أذا إجتمعت أو كان هناك نوع من التنسيق فيما بينها. وأنا أتسآئل لماذا لا توجد خطة لتدريب هذه الكوادر بصورة متكاملة مع بعضها البعض في إدارة الازمات والطوارئ (contingency plan) ، وذلك لاستفادة كل وحدة من ميزات الوحدات الاخري وتقديم تدخلات ناجحة وعاجلة لحفظ أرواح الناس. مثلاً طرق الخرطوم تم تصميمها بحيث لا تسمح بمرور عربات الاسعاف خصوصاً في أوقات الذروة، الامر الذي يؤدي الي موت الكثير من المصابين أو تأخر حالتهم لعدم تقديم الخدمة في الوقت المناسب، وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من المروحيات التي يمتلك الجيش أو الشرطة أو الامن الوطني منها الكتير. وأيضاً لماذا لا يتم تدريب بعض فرق الدفاع المدني في الأسعافات الطبية و التي يمكنها الوصول أسرع الي موقع الاحداث؟ جدير بالذكر أن العديد من الدول تقوم بدمج فرق الاسعاف والدفاع المدني في نفس وحدات التدخل. عزيزي والي الخرطوم: الخرطوم تحتاج لخطة طوارئ طبية وفرق للتدخل العاجل والإسعاف السريع قبل حوجتها لقطارات صينية وبصات سعة 170 راكب، او حدائق وميادين عامة !!! فإنقاذ النفس البشرية أولي من توصيلها لمكان العمل، او الترويح عنها في المنتزهات. عزالدين فضل آدم جامعة طوكيو للطب والاسنان محاضر بجامعة الخرطوم، كلية الصحة العامة [email protected]