*(وكيف يسمع صوت الحق في وطن للأفك والزور فيه ألف مزمار..). -الجواهري- .. أول بوق في التاريخ بالنسبة للعبد لله ربما كان بوق عُبْلو، وآخر بوق سيكون وفق الميثيولوجيا الدينية واعذرونا على هذه (الفصحنة) - بوق إسرافيل، وهو ما يسمى بالصور الذي ينفخ فيه فترى الناس يقومون من أجداثهم ليوم الحساب. بوق عُبْلو كان يشق عنان الصمت في القرية التي لم تكن قد عرفت نعمة الكهرباء، فما إن يرمي المساء عتمته على المدى حتى يحكمها الصمت، وهو غير الصمت الذي يعيشونه في النهار صخباً عن المواسم والمطر وحكايات الماضي ورحلات الشتاء والصيف.. لقد كان صمتاً صاخباً فحسب!.. صمت الليل مع الظلام الدامس ممزوجاً بالخوف وانفلات الخيال من قيوده حتى يأتي النوم ويبدأ الحلم يكمل سير الخيال، كان هناك ما يخدشه أحياناً: نباح كلاب القرية، حراس حدودها، أمام أي احتمال قدوم ذئاب أو لصوص أو أي (جسم غريب)، عواء الذئاب على تخومها، صراخ امرأة يضربها زوجها لأنها اعترضت على إلغاء ليلتها لصالح الضرّة الجديدة، وبوق عُبْلو.. عُبْلو، المجنون الذي كان لا يخيف أحداً، إذ كان هناك مجانين أدمنوا إيذاء الآخرين كرد فعل لا شعوري إزاء تعرضهم الطويل لأذى الآخرين وإجحافهم، كان بوقه سلاحه الوحيد والمدلل، وإحدى الأصوات التي تعطي الطمأنينة لليل القرية، حتى كان أمام القرية ومؤذنها ومأذونها الشرعي ومفتيها ومفسر أحلام نسائها يستيقظ على آخر صرخة لبوقه ليقوم ويؤذن لصلاة الفجر بعد أن حفظ مواعيد تعب عُبْلو وركونه للنوم في خرابة منزل مهجور، أو لدى إحدى عائلات القرية التي تأويه بعد ليل عمل طويل قضاه حارساً للظلام، ومقيماً لأعراس الجن والعفاريت كما كان يردد أهل القرية. أقسم الكثيرون أنهم سمعوا مع زعيق بوقه وقع أقدام الرقيصة من الجن،أصوات طبول من دلوكة وشتمْ، بل أن آخرين زادوا على ذلك أنهم رأوا بأعينهم ولائم أعراس الجن وكان عُبْلو في صدر الحفلة كما يفعل الناس مع مطرب العرس عادةً، وتتناسل الحكايات التي ينسجها خيال بكر في فراغ عائم. وحين يستفيق كان أول ما يفعله إطلاق صوت بوقه لإعلام الأطفال أن نهارهم الممتع معه قد بدأ، كان يقبل أن يقوم أي طفل بتجريب النفخ في بوقه نفخة واحدة فقط ثم يسحبها من يديه، ليبدأ هو النفخ ويهتز جسده كله، كان كل عضو فيه يشارك في (العزف). ما إن خرجنا من فضاء القرية إلى سجن المدينة حتى تتالت الأبواق التي تعرفنا عليها، بعد أن تعرفنا على بوق سيارة ود حمد القادمة من أعماق التاريخ، والتي كانت تقلّ الريفيين إلى المدينة الصغيرة، ثم سمعنا أبواق سيارات كثيرة وباصات السفريات التي يختلط صوت المساعد وهو ينادي (مكوار.. سنار) مع صوت الزمامير العديدة للباص، متداخلة ومتنوعة، طويلة وقصيرة، ثم صارت أبواق السيارات مسألة لا تلفت النظر. تعرفنا على أبواق الفرق الموسيقية التي تخرج في المسيرات الليلية والنهارية وهي تحاول أن تقدم ألحاناً لأغان تخص مناسبة المسيرة ومنظميها بأصوات مليئة بالنشاز. ثم رأينا أبواق الفرق الكشفية والكنسية، وبدأنا نشاهد في التلفاز، ذلك الضيف الطارىء على حياتنا فرقاً موسيقية تضم أبواقاً بأشكال وأحجام بختلفة.. ثم.. جاء زمن الأبواق، الأبواق البشرية، ربما كانت موجودة لكننا لم نكتشفها لأسباب عدّة منها عدم توفر وسائل اتصال لتكشف الأبواق عن مكنوناتها ومواهبها (البوقوية)، وقصور وعينا عن تمييز البوق البشري، فكنا نظن البوق آلة فحسب، وضعف العوامل الخالقة أو المهيئة لولادة أبواق جديدة كلما صدأ بوق قديم. والحقيقة أن موديلات الأبواق (البشرية طبعاً) وطبقات صوتها ومقاماتها قد تنوّعت وتعدّدت وتشعّبت حتى صارت أكثر من موديلات أجهزة الموبايل، ما إن تقول لنفسك ها هو بوق جديد حتى تفاجأ بآخر أحدث (يترغل) بمصطلحات جديدة ونبرة جديدة ولحن جديد.. يا إلهي.. ما أكثر الأبواق!! أين بوقك يا عُبْلو؟ بل، أين بوقك يا إسرافيل؟ [email protected]