5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني إسراء سليمان تبهر المتابعين بإطلالة جديدة بعد عام من الغياب والجمهور يتغزل: (ملكة جمال الإعلام وقطعة سكر)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية المتابعين.. الصحفي إبراهيم بقال يتجول رفقة بعض أفراد الدعم السريع داخل مكاتب الولاية وهو يحمل رتبة "فريق" وينصب نفسه والي لولاية الخرطوم    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    المريخ يوقِع عقداً مع شركة (Sport makers)    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    مليشيا الدعم السريع تجتاح قرية البابنوسة شرق مدني وتقتل وتصيب 8 أشخاص    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أولاد دُفعَتنا فى ذِكرى تخرّجنا 20 مايو1987م (جزء ثانى وأخير)
نشر في الراكوبة يوم 21 - 05 - 2015

تناولنا فى الجزء الأول من هذا التوثيق، محاور عُدَّة تحت عناوين جانبية، ونواصل فى هذا الجزء الثانى والأخير كالآتى:
سينما النيل الأزرق ودور ترويحى وتثقيفى مُهِم: كان طلاب الجامعة يروحون فى المساء بعد جهد يومٍ أكاديمى مُضنٍ إلى سينما النيل الأزرق الملحق بمجمَّع "البركس" كجزءٍ لا يتجزأ منه. كان الطلاب يحضرون العرض الثانى Late Show وبالنسبة للتزاكر كانت هناك فئة خاصة رمزية لطلاب الجامعة. وفضلاً عن الترويح كانت لهذه السينما دوراً تثقيفياً كبيراً من خلال الأفلام التى كانت تُعرض فيها وتترك أثراً كبيراً فى المشاهدين، وكان عرض الفيلم الواحد يستمر لعدة أيامٍ بواقع عرضين كلِ ليلة.
أقول هذا لألفِت النظر إلى أنِى لم أر فى حياتى وفى كل الدول التى زرتها مثل الأفلام التى شاهدتها وساهَمَت فى تثقيفى وزيادة معرفتى فى سينما النيل الأزرق، أفلام من شاكلة:"عفواً أيها القانون"،"البؤساء"، "نأسف لهذا الخطأ"، "الطبيب"، "The Blind of Fifth Season".. وأفلام البطل "شوك نورس"مثل "العين بالعين"، و"الطائرة الأخيرة "The Last Plane Out.. هذه أفلام فوق العادة وساهمت فى تشكيل ثقافة راقية لطلاب الجامعة.
لكن، فى العام 2009م مررت بشارع النيل من جهة "بُرِّى" متجهاً غرباً فقررت الوقوف عند سينما النيل الأزرق لأطالع جدول الأفلام المعروضة فى مقبل الأيام، لكنى وجدت السينما قد تحولت إلى"منسقية للدفاع الشعبى"! فقلت فى قرارة نفسى"الشرّ يعُم" و واصلت السير دون حاجة إلى توقّف!.
حضور أركان نقاش الأخوان الجمهوريين، أستاذ/ عمر القرَّاى: ما كان ذلك الضغط الأكاديمى والمناشط الأخرى تمنعنا من متابعة النشاط الفكرى والسياسى داخل وخارج الجامعة. كنا أنا ورفيقى توفيق عبد الرحمن نحرص على حضور"ركن نقاش الجمهوريين" الذى كان يعقده الأستاذ/ عمر القرَّاى تحت "شجرة النيم" التى تقع بين كليتنا و"النشاط". أدمنَّا ركن القرَّاى وإرتبطنا به إرتباطاً قوياً لا نستطيع منه فِكاكاً، ومرَّة نادانا الأستاذ عمر القراى وسألنا من أى كلية نحن فأجبناه، فحدثنا عن ضرورة التوفيق بين حضور المحاضرات، وحضور الأنشطة الأخرى، ولكن ذلك لم يغيَّر من حرصنا على حضور ركن الجمهوريين أبداً. كان هناك طالب آداب قسم الفلسفة، أعتقد أنَّ إسمه "عِماد" هو الوحيد الذى كان يحضر ويناقش"القراى" بعمق وكان يحترمه كثيراً لأنه يثرى النقاش إيجاباً. أمّا"الكيزان" فكانوا يحضرون "الركن" بوَجَل وخوف وحِقد وكراهية لما يُقدَّم فيه من علم وفكر دينى حديث ومواكب، وكان الأستاذ/ عمر القراى ينظر إليهم ويقول: فرصة للنِقَاش، فيمتنع الكيزان ويتوجسون خِيفة. فيُمعِن "القرَّاى" فى استفزازهم ليتداخلوا بقوله: "وين محمد طه"،(يقصد المرحوم الأستاذ/ محمد طه محمد أحمد)، ثم يسترسل القرَّاى بقوله:"مشكلة الأخوان المسلمين فى الجامعة رأسهم محمد طه، ومحمد طه زاتو ما عندو راس!". فيهرعون بحثاً عن (رأسهم) محمد طه الذى لا بُدَّ أنه غاطِس فى بطون الكتب فى مكتبة القانون، فيأتون به ويستلم "المايك" ليصرخ و"يجوط": صلاة الأصالة وهل الأستاذ محمود بصلى الصلاة "الحركية"؟ يأخذ القرَّاى"المايك" من محمد طه ويقول: فرصة للنقاش، أنا مش قلت ليكم؟ وكان القرَّاى يردد دوماً أن: (تنظيم الأخوان المسلمين دا نحن راح نفرتكو). إستشعر الأخوان المسلمون خطر الفكر الجمهورى عليهم فتحالفوا مع جعفر نميرى وإغتالوا العالِم صاحب الفكر المنقذ الأستاذ/ محمود محمد طه، ونكَّلو بتلاميذه واتباعه فخلا لهم الجو. ذهبنا أنا وتوفيق وآخرون من الجامعة مع الجمهوريين وحضرنا الجلسة الوحيدة لمحاكمة الأستاذ/ محمود التى انعقدت فى القاعة الكبرى (قاعة الحركة) بمحمكة ام درمان الأوسط، حيث لقّنَ الأستاذ/ محمود جلّادَه القاضى "المهلاوى" درساً فى الأخلاق والقيم، وفيما ينبغى أن يكون عليه القاضى وهو يجلس للقضاء، زاداً له ولمن عيَّنه لتلك المهمة الإجرامية الباطلة. فماذا قال الأستاذ/ محمود مخاطباً محكمة القاضى المهلاوى عندما طلبت منه المحكمة الرد على التُهَم الموجهة إليه زوراً وبهتاناً؟ قال الأستاذ/ محمود محمد طه مُخاطِباً محكمة المهلاوي: (أنا أعلنتُ رأيى مِراراً فى قوانين سبتمبر83 من أنَّها مخالِفة للشريعة وللإسلام. أكثرَ من ذلك فإنها شَوَّهَتِ الشريعة وشَوَّهَتِ الإسلام ونَفَّرَت عنه. يُضافُ إلى ذلك، أنَّها قد وُضِعَت وأستُغِلَّت لإرهاب الشعب وسَوْقِه إلى الإستكانَة عن طريق إذلالِه. ثم أنَّها هدَّدت وحدَة البلاد، هذا من حيثُ التنظِير.. أمّا من حيث التطبيق، فإنَّ القضاة الذين يتولون المحاكمة تَحتَها غير مؤهلين فنِّياً، وضعُفوا أخلاقياً عنْ أنْ يمتنِعُوا، عَنْ أنْ يضعُوا أنفسِهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تِسْتَعمِلُهم لإضاعةِ الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر الحُرّ والمفكرين، وإذلال المُعَارضِين السياسيين. ومن أجْلِ ذلك: فإنِّى غير مستعِدْ للتعاون مع أى محكمة تَنَكَّرَت لحُرْمَةِ القضاء المستقِل، ورَضِيِتْ أنْ تكونَ أداةً من أدوات التعذيب والإذلال للشعب، وإهانة الفِكر الحُرّ، والتنكِيل بالمعارضين السياسيين.) وشكر الأستاذ/ محمود المحاميين الذين تقاطروا للدفاع عنهم أجزل الشكر.. وفى اليوم التالى صدر الحكم بإعدام الأستاذ وتم تأييده وتنفيذه.
أنشطة ثقافية شاركنا فيها، قرقاش: وهى مسرحية تحكى عن طاغية كان ينكِّل بشعبه، إخراج مخرج شاب إسمه"عبد الرحيم"وبطولة طلاب الكلية، الجبهة الديمقراطية، فى إطار الكفاح والنضال ضد نظام جعفر نميرى، كنت أقوم فيها بدور أحد"عسس" الطاغية، نقمع المعارضين وننكِل بهم، نجحت تلك المسرحية نجاحاً باهراً وقدمناها فى العام 1985م فى عدة عروض أذكر منها "المسلمية" فى الجزيرة وفى كلية الزراعة والبيطرة فى شمبات، وأشتهرنا بها.
شهادة مهمة وللتاريخ: مُذّ أن دخلنا الجامعة، كان أولاد وبنات "الجبهة الديمقراطية" هم الأقرب لنا، فأحببناهم فى رفقة صادقة وشاركناهم كل أنشطتهم السياسية والإجتماعية الرياضية والثقافية، وصوَّتنا لهم فى الإنتخابات ولكن: حتى تاريخ اليوم ما حصل أى واحد منهم، بشكل رسمى أو شخصى، طلب مِنَّا الإنضمام إلى الجبهة الديمقراطية أو الحزب الشيوعى، رغم أننا كنّا نرى تلك الرغبة فى أعينهم التى كانت تضجّ بالدعوة بشرط أن نبادر بها نحن، ولم نفعل.. أى أناس أولئك البشر، ما أرقاهم من نفر، ليت الذى يدّعُون الأسلام وينشرون الحقد والكراهية كانوا بأخلاقِ الرفاق فى الجبهة الديمقراطية.
ومن الأنشطة التى شاركنا فيها وإنتفاضة رحب/ أبريل تمُورُ كالبركان وتكاد تقذف بحِمَمِها فى وجه الطاغية، عمل كورالى مع الأستاذ المرحوم الفنان/ مصطفى سيد أحمد فى رائعة ناجى العَلى:"مهما هُمْ تأخّرُوا فإنّهُم يأتون، من درّبِ رام الله أو من جبلِ الزيتون، يأتُونَ مثل المَنِّ والسلوى من السماء ومن دُمِى الأطفال من أساورِ النساء.. من حزنِنَا الكبير يُولدون، ومن شقوقِ الصخر ينبتُون، باقة انبياء ليست لهم هوِّية وليست لهم أسماء.. لكنهم يأتون.".. كان عملاً رائعاً وكنا نحرص على البروفات للتجويد وتم تقديمه فى احتفالات الجامعة بزكرى أكتوبر الأخير الذى سبق إنتفاضة مارس/ أبريل 1985م.
وعلى مستوى كلية القانون قدَّمنا فى ذلك العام"الملحمة": (لمَّا الليل الظالم طوَّل)، وكانت البطولة للمبدع أحمد بابكر الذى لعب دور"الباشكاتب"الأستاذ الموسيقار محمد الأمين، وقام بدور امبلينا السنوسى إحدى الزميلات فأجادت، وكذلك دور المبدع خليل إسماعيل، أمّا نحن فكنَّا الكورس والجوغة وقد جوّدنا وأبدعنا:"بينَّا وبينك تَارْ يا ظالِم".
حفلات أبوعركى البخيت فى الجامعة: فى الأعوام 1985-86 كان الفنان الرائع الأستاذ/ أبوعركى البخيت دائم الحضور فى الجامعة يعطر بغناءه العذب المثير كل كلياتها، بواقع حفلة على الأقل كل أسبوع، فصار صديقاً لطلاب الجامعة يساهم فى صناعة الثورة القادمة بغناءٍ مُلهِم: كان يفتتح حفلاته "برميات" ملهمة ومؤثرة: (حيث العقلُ لا يخاف، وحيث المعرفة حُرَّة، وحيث العقل لا يفقد مجراه فى صحراء التقاليد الميِّتة، فى هذه السماء من الحرية يا ابتى دع وطنى يصحو.) يقال أنه شعر "طاغور"لكنِّى لست متأكداً. وكان ذلك يفعل فعل السِحر ويحمِّس المشاعر ويلهبها، ويدفع إلى الثورة ويعجِّل بها. وكان فى كلية العلوم طالب إسمه "سيف" وكان مفتوناً بغناء عركى ويتبعه أينما حلَّ وكان يلبس"السديرى"ويرقص مستخدماً "عصا" أعتقد أن سيف من شرق السودان، وكان ظاهرة فى عِشق غناء أبوعركى.
الداخليات التى سكنا فيها داخل"البركس": "داخلية النشر" المقابلة لمستشفى العيون غرفة (3) أرضى سكنا فيها عشرة طلاب ونحن "برالمة" وهى الغرفة التى شكلتنا وخلقت منا مجموعة متجانسة، وفى السنة الثانية عندما انتقلنا إلى داخلية "عطبرة (أ)" كانت المشكلة أن أىٌ من العشرة يريد أن يسكن مع كل العشرة، بينما الغرف فى داخلية عطبرة صغيرة تسع لأربعة طلاب فقط، وقد سعدت بالسكن ثلاثة سنوات فى غرفة وآحدة بداخلية عطبرة (أ) الطابق الثانى مع كل من:عادل عطية حسن باشا، ومعاوية حسن، وعبد الرحمن سيد أحمد، وما أجملها من رِفقة وأمجدها من صُحبَة.
نبوءة فيصل الدابى التى"أكل"بسببها"علقة"جماعية، لكنها تحققت!: يقر أولاد دفعتنا، بل جيلنا أجمع، بأنَّ زميلنا فيصل على سليمان الدابى(منزريا) قادمٌ من وادى "عبقر"حباه الله بعقلٍ مُبدِع يقطع كالمنشار، وجسم رياضى، وهو فوق ذلك شاعرٌ مطبوع يقرض أبدع الشعر، و"ظريف" يخلق النكتة من العدم. ونبوءة فيصل تلك هى أنه فى ذاتِ مساء ونحن عائدون من الجامعة إلى "البركس" بشارع النيل عبر بوابة العلوم، وعند مرورنا تحت كبرى النيل الأزرق أوقفنا فيصل الدابى وقال: (والله بجى يوم البنات يسكنن البركس، والأولاد يودوهم داخلية البنات!).. وقع قوله كالصاعقة على الجميع، جحظت عيوننا وفغرت أفواهنا لبُرهَة، وما كان مِنَّا إلا أن"سكيناهو" جماعياً و"هبتناهُ" بكل شيئ وقع على أيدينا حتى وصلنا الداخلية التى كنا ندخلها ليس عبر البوابة الغربية المواجهة لمستشفى العيون ولكن كنّا ندخلها عبر ثقب أحدثناه فى سور"الدرابزين"على شارع النيل أطلق عليه توفيق (جي.جي) وهو إختصار ل Goats Gate. تلك هى نبوءة فيصل الدابى التى تصورناها خيالية غير محتملة الوقوع، لكنها تحققت بعد أقل من نصفِ عقد من الزمان عند مجيئ عُصْبَة "الإنقاذ" إلى سُدّة الحكم فقاموا بتشويه التعليم عبر ما أسموه "ثورة التعليم العالى" والتى كانت فى الحقيقة إتلافٌ للتعليم وتدميره فى السودان، كمٌّ بلا كيف، زبدٌ يذهب جُفاء، وحشوٌ يفتقِرُ إلى الجودة، وعُنفٌ بالسِنان بدلاً من حُجِّةٍ باللِسان.
من هم الذين كانوا يسرِّبون أخبار الداخلية إلى بنات الدفعة: ثبت لنا منذ السنة الأولى أن هناك من يُسرب ما يحدث فى "البركس" إلى بنات الدفعة، وذلك أمرٌ خطير. بدأنا نسمع من بنات الدفعة "تلميحات" بوقائع تحدث فعلاً فى الداخلية فى إطار الحريات الشخصية ما كان لها أن تخرج من حِرزِها الطبيعى إلى فضاءات أوسع، خاصة بنات الدفعة والكلية، ففى ذلك إغتيال كبير للشخصيات، ثم أن الأمر لم يكن فى إطار المعاملة بالمثل Reciprocity بل كان"بلوشى".. وبالبحث والتقصى الدقيق إكتشفنا الخلية التى كانت تسرب أسرار الداخلية ووضعنا لها حداً وحسمناها فتلاشى خطرُها، وثبَّتنا الحريات، خاصة وعامة.
مواقف حزينة وصعبة مرَّت بنا وتجاوزناها بسلام، وفاة وآلدِى ثم وآلِدة الزميل أحمد ساتى: أمّا وآلدى العزيز عليه رحمة الله فكان قد أُجرِيت له عملية جراحية بمستشفى الخرطوم التعليمى، لم تكن تلك العملية التى أجراها دكتور زاكى الدين ناجحة، لو أخذنا فى الإعتبار عامل السن لأن أبى حينها كان فى السبعين من عمره، فتوفى إلى رحمة مولاه ودفن فى مقابر أحمد شرفى/أم درمان. وقف معى أولاد الدفعة كالإخوة الأشقاء طوال فترة مرض الوالد، وعندما توفى إلى رحمه مولاه حضروا جميعهم فى بص الجامعة إلى أم درمان الثورة الحارة (14) منزل خالنا محمدين إبراهيم حسن وقاموا بواجب العزاء ومكثوا معى حتى سافرنا أنا وإخوتى إلى الفاشر صبيحة اليوم التالى للوفاة.. وعندما عُدْتُ بعد أسبوع، أبلغنى"توفيق" بأن مدام تادروس"بتاع" اللغة الإنجليزية طلبت أن أذهب لمقابلتها فور عودتى، ثم رافقنى حتى باب مكتبها وإنتظرنى بالخارج! تخيَّل هذا الود وهذه المشاعر.
فى نفس العام الدراسى ونحن نستعد للامتحان مرضت والدة الزميل أحمد عبد الرحمن ساتى مرضاً شديداً، وقمنا بزيارتها جماعياً، وتمنينا ألا يحدث مكروه يضع الأمتحان فى محك. لكن أمر الله إذا جاء لا يؤخرَ، انتقلت والدة الرفيق/ أحمد ساتى إلي جوار ربها، وتبلَّغنَا الخبر، وطفقنا نعِدُ "سيناريوهات" إبلاغ أحمد بالخبر، كلفنا بالمهمَّة عمر سقدى وجمال عتمورى وعصام طبوش، وكان أحمد مُحبِاً لأمه تلهِمُه الخير والصلاح وتنير له طريق الهُدى والرشاد، ومرَّ الأمر بسلام فذهبنا كل الدفعة والكلية إلى حيث سرادق العزاء بمنزلهم فى بحرى، وفى المساء أقنعنا أحمد لنعود معاً إلى البركس وإستأنفنا المزاكرة، لأن الأمتحانات أيضاً كالموت لا تتأخر، كان موقفاُ صعباً تجاوزناه بتكاتفنا وتضامننا وحُبِّنا الكبير لبعضنا البعض.
السابقة القضائية "قضية ثريا إبراهيم" وبروف أكولدا مان تير: كنا نحب أساتذتنا حُبَّاً كبيراً، ونفتخر بهم جداً ونقلِدهم فى"الداخلية"ونتقمص شخصياتهم بإعتدادٍ فخيم. دكتور أكولدا درَّسنا فى السنة الرابعة مادةConflict of Laws أظنها تترجم إلى "تضارب القوانين" لست متأكِداً.. وفى محاضرته كنّا "نأخذNotes " بسرعة وكان دكتور أكولدا يتيح لنا ذلك بالإبطاء فى التدريس رويداً رويداً، وكان يتحرك خلال القاعة ليتأكد من أنَّ الجميع حاضِرون ومشاركون. وأثناء تدريسه لنا قضية ثريا إبراهيم(سابقة قضائية) ضبط زميلتنا العزيزة "مها الطاهر" وقد كتبت ثريا إبراهيم باللغة العربية بدلاً من الإنجليزية لغة التدريس، فوقف عندها دكتور أكولدا وقال لها بطريقته المحببة:Hay you, Thoriah Ibrahim is not existing in English? فضجَّتِ القاعة بالضحك إلا هو.
ومرَّة أخرى كان دكتور أكولدا مندمجاً فى محاضرة يلقيها علينا ونحن قد طارت عقولنا و"صفرَّت" بطوننا لأن زمن الفطور قد جاء وذهب كل الطلاب إلى"السُفرة" بينما نحن "حبيسى" البروف، ف"هَمْهَمنا" بصوت مسموع، فسألنا: ما الخطب فتبرَّع الزميل محمد زاكى مجيباً نيابة عن الفصل بأن موعد الفطور قد أزف. فتوقف البروف وقال: أوكى، نلتقى فى محاضرة الغد، فقلنا "إن شاء الله" بصوت وآحد، فقال لنا:for me am sure I will come tomorrow وفعلاً حضر غداً!.
يوم ظهور نتائج التخرّج 20 مايو1987م: معلوم أنَّ نتيجة كلية القانون لا تُعلَّق فى اللوح الخشبى"بورد" كبقية الكليات، فطالب القانون يذهب شخصياً إلى"مسجل الكلية" وكان وقتها العم/ صِبير وبعد إثبات شخصيته ببطاقة الجامعة، يقوم المسجل باستخدام "المسطرة على كشف النتيجة"، إبلاغك بالنتيجة شفاهة. وكان معظم الطلبة يذهبون فى رحلة الخروج من مكتب المسجل حتى الباب ثم يعودون مرَّة أخرى يسألونه ماذا قال؟..عمك "صبير" المسجل كان بارداً كالثلج!. من الأوقات الصعبة فى كلية القانون لحظة الدخول إلى مكتب المسجل لمعرفة النتيجة.
نقاش ثم مطاردة مثيرة بين فيصل الدابى (مينزو) ودكتور/ عبد الله دفع الله: حضرنا لنتيجة التخرج يوم 20 مايو 1987م وكنَّا صِيام فالدنيا رمضان، وتخرَّج معظم أولاد الدفعة بسلام، وكانت تنتابنا مشاعر مختلطة ومُربِكة جداً: ماذا بعد؟ إلى أين سنذهب؟ وكيف يمكننا أن نلتقى بعد اليوم، وأين؟.. ومن طرائف ذلك اليوم أن فيصل الدابى جاء باكراً للنتيجة ثم جلس فى مكان بارز من"الزير هاوس" مدخل الكلية الغربى من جهة "ضهر التور" المدخل الرئيسى، واثناء جلوسه حضر إلى الكلية دكتور عبد الله دفع الله أستاذ الشريعة وقاضى المحكمة العليا حينها، فوجد فيصل الدابى جالساً "خالِفاُ رِجلاً فوق رِجل"، فصاح به دكتور عبد الله: "هوى.. نان إنت قاعد هنا لشنو؟ الناس مشو شافو نتايجم". فرد عليه فيصل:"يا دكتور أنا مشيت شفت نتيجتى، نجحت وإتخرَّجت وبدرجة الشرف كمان"!.. تعجب الدكتور من نجابة هذا الطالب فسأله: "أنت جنسك شنو؟" فيصل قال ليهو: "شايقى".. الدكتور قال: "أيوا.. أصلو الشايقية ديل شُطار لأنهم باكلو التمُر".. فيصل قال ليهو: "يا دكتور.. التمُر أنا ما باكلو.. الدكتورقال: أها.. فيصل قال ليهو:"التمر أنا بشربو، وقام جارى".. والدكتور ساكيهو بعصاتو وهو يصيح: "امسكوه جيبهو.. يقول لى التمر انا ما باكلو أنا بشربوا؟؟!!" وكانت "نكتة" التخريج التى لا تنسى. لو حدث ذلك فى هذا الزمان"الرخو" لأقيم على صديقنا فيصل عدداً من الحدود الشرعية.
أساتذة لهم علاقة مميزة بأولاد الدفعة ومعزّة خاصة:
- دكتور أمين مكى مدنى هو المُلهِم الأول لطلاب القانون بجامعة الخرطوم، لأنه لم يكن المدرِّس فحسب ولكنه القدوة الحسنة و"أيقونة"النضال الوطنى وحامى حِمَى حقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون ومبدأ الشرعية والديمقراطية والحكم الرشيد. كان الكل يريد أن يكون أمين مكى مدنى، وكنَّا نتقمص شخصيته و"نتماهَى" فيها بأسلوب مسرحى أنيق، أطال الله عمره فى صحة وعافية وراحة بال، فقد منحنا العلم والقدوة والرمز، والقيم النبيلة والأمل.
- دكتورة أمريكية "جميلة" إسمها "مكِينى" درَّستنا قانون التأمين فى السنة الثالثة، وكنّا معجبون بدقتها وطريقة شرحِها الجميل، وذات مرّة مرضت "مكينى" ولم تتمكن من أداء المحاضرة ولكنها أتت إلى القاعة وهى تمسك بيدها مكان الألم فى"خِصرها"وكتبت فى"السبورة" الآتى ثم غادرت:due to unforeseeable contingencies, I will not be able to teach today, our next meeting will be tomorrow, sorry for any inconvenience.. وكنا نسمى كتاب قانون التأمين "كتاب الحرائق" لأن تصميم الغلاف فيه حرائق مشتعلة فى مبنى ضخم.
- بروف عبد الله إدريس (العميد) واستاذ ال Business Law الشركة والشراكة Perpetual Succession و Salmon V. Salmon نبعٌ صافى من علمٍ يُنتفَعُ به، والله على ذلك شهيد.
- دكتور أبو سمرة أستاذ قانون العقود كان أستاذاً غير متفرغ، كان يعمل فى المؤسسة العربية للتنمية على ما اعتقد، كان يدرِّسناً عصراً، وكان لطيفاً وحفِياً بنا، وأجمل منظر كان عندما يأتيه عم عبد الوهاب بكوب القهوة داخل القاعة، ودكتور أبوسمرة هو أول من تعرّفنا على يديه نظام الأمتحان المفتوح أو ال "Open Book Exam" وهو أن تدخل الأمتحان بالكتب والمراجع التى تريدها! ويمكن أن تكون مفيدة جداً، ويمكن أن تكون ضارة جداً كما قال لنا هو يوم الأمتحان. هذا النظام يطبق فى الدراسات العليا، "الماستر والدكتوراة".
- دكتور المرحوم/ محمد يوسف أبوحريرة، كان صديقاً عزيزاً لأولاد الدفعة وقد بدأ تدريسنا "قانون الإثبات" ولكن عندما حان موعد الإنتخابات تركنا وذهب إلى الإنتخابات فى دائرته المضمونة "شرق النيل" وفاز فيها وصار وزيراً للتجارة وإستورد"خِراف البازقِرِى" من أستراليا. أبوحريرة صديق عزيز للدفعة وكان يأتى بسجائر"البنسون" الفخمة ويستبدلها من الطلبة ب"البرنجى أبوكأس"رحم الله أستاذنا الحبيب دكتور أبوحريرة.
- دكتور/ هنود أبيا كدوف، دَرَّسنا فى كل السنوات الأربعة رغم أنه أستاذ قانون الأراضى Land Law ودكتور هنود هو قدرُنا، كنا نحبه ونخشاه، ولكنه ارتبط بنا وأحبَّنا وكنا عندما لا نريده أن يأتِ للمحاضرة كان الزميل توفيق ينظِم لنا كورال "الكافرون"يعنى نقرأ جهراً سورة الكافرون"كورالياً"بقيادة "توتو" ثلاثة مرات، وتأكَّد أنَّ دكتور هنود لن يأت إلى المحاضرة ذلك اليوم. وكادت "شياخة" توفيق أن تسقط يوماً عندما قرَأنا"الكافرون"إلا أن دكتور هنود ظهر فجأة بهيئته المُهيبة إلى الكلية! فشخصت الأبصار مُعَلّقة بتوفيق"فكى توتو"، ولكن بقدرة قادر، إذا بدكتور هنود الذى دخل الكلية و"حَامَ" مُحلَقاً فيها، ثم صعد إلى الطابق الأعلى ناحية مكتب العميد، وبعد حوالى الخمس دقائق خرج دكتور هنود من حيث أتى وقفل راجِعاً، كاد توفيق يومها أن يفرضَ علينا رسوماً على"كورال الكافرون" ملكيته الفكرية.
- بروفسيور الضرير رئيس قسم الشريعة كنا نستلطفه رقم عنفه معنا. لمّا مررنا من "البرليم"إلى الصف الثانى"ثانية أبورنات" دخل علينا بروفسير الضرير فى محاضرته، فوجدنا نجلس على راحتِنا فى القاعة "يعنى أولاد وبنات مختلطين كالعادة" فصاح بنا جادَّاً ونحن "هزِلون": أين تجلس النساء؟ وطفق يكرر السؤال ونحن مُحرَجُون ونقول فى قرارة أنفسنا: ليته سكت، ولكن إشتد فى القول وإرتفعت نبرات صوته: لماذا لا تجيبون؟ أين تجلس النساء؟ فتطوع بعضنا بالرد، وكل الإجابات كانت خاطئة. وفى زهو نصرٍ واضح، أشار البروف إلى مؤخرة القاعة وقال: هناك، فى الصفوف الخلفية.. فصمتنا، وصمت هو أيضا للحظة، ثم صاح بنا: ماذا تنتظرون؟ فما كان مِنَّا إلَّا الإنصياع لأمره واجب النفاذ، فأعِنَّا زميلاتنا وشجعناهُنَّ ليتبوأنَ مقاعدهن فى الصفوف الخلفية من قاعة"أبورنَّات". تلك الحادثة أثارت جدلاً واسعاً فى النشاط الطلابى الجامعى وانتهت كالزوبعة فى فنجان. وأستمر ذلك الفصل Segregation بسبب نوع الجنس طوال ذلك العام ثم تلاشى عندما انتقلنا للصف الثالث Semi Final.
هذا قيضٌ من فيضِ أساتذتنا الأجلاء بارك الله فيهم.
الكآبة التى أصابتنا بعد التخرج: كأى أولاد دفعة عاشوا شرخ شبابهم مع بعض، فى جامعة وفرَت لنا مناخاً ملائماً للتحصيل الأكاديمي والثقافى والإجتماعى فى مجتمع قِمَّة فى الصفاء والرُقِى والتجانس، كان التخرج والعودة إلى الحياة العادية يشكل صدمة كبيرة، وتغيير يقود إلى الكآبة.. اتفقنا نحن أولاد الدفعة من سكان ام درمان أن نلتقى عصر يوم الإثنين الأخير من كل شهر فى حدائق"الجندول" مع العلم بأنه لا توجد تلفونات موبايل وقتذاك. وذات مساء يوم إثنين أتيت من أم بدة إلى"الجندول" وانتظرت ولم يأت أحد، فأخذت مِنّى"الدبرسة" مأخذاً كبيراً. وجاء المساء وغربت الشمس، وحين هممتُ بالمغادرة جاءت سيارة نصف نقل ووقفت غير بعيد، وبدأ الذين بداخلها ينزِّلون آلات موسيقية و"ساوند سيستم"، فسألتهم بفضول ماذا هناك؟ فأخبرونى بأنهم يعدون لحفل سيقيمه الفنان الكبير جداً محمد وردى الليلة هاهُنا، فسالته: وردى؟ فرحِتُ فرحاً عريضاً أزال عنِّى الغم الذى إعترانى عصر ذلك اليوم، وسهِرنا الليل كملناه.
معظم أولاد وبنات الدفعة إغتربوا أو هاجروا: الغالبية العظمى من أولاد دفعتنا غادروا البلاد فور وقوع كارثة انقلاب "الإنقاذ" 1989م بعد 11 شهر فقط من تخرجنا، وكنَّا قد إجتزنا امتحان تنظيم مهنة القانون(المعادلة) دورة اكتوبر1987م وتقدمنا للإلتحاق بالمِهنِ القانونية، الهيئة القضائية وديوان النائب العام والمحاماة. ولكن لمَّا وقعت واقعة "الكيزان" يونيو 1989م قرر جُلّهُم مغادرة البلد عملاً بقوله تعالى وأمره: (أمشوا فى مناكِبِ الأرض، وكُلُوا من رِزقِه، وإليه النشور.) لم يتبق منهم داخل السودان إلا قليل، مثلى أنا المصاب بال "Home sick" (لا اعرف ترجمتها) ولكنِّى أعترف: أنا لا ولن ولم أغادر السودان إلا مُكرَهاً، فلدى قناعة راسخة بعدم الرغبة والقدرة على العيش خارج الوطن مهما كان، ومعاك إنتظارى ولو بالكفاف. وبعد أن أكرِهْتُ على مغادرته لن يطيب لى العيش حتى أعود إلى السودان. ومن القليلين الذين لم يغادروا السودان من أولاد دفعتنا من غير"الكيزان" الذين إحتلوا البلد، نجد: جمال عتمورى، عمر سقدى سعيد، هاجر إبراهيم الشيخ، عثمان الرشيد مضوى، عواطف حسين، إدريس النور شالو، عبد الله الشامى، عصام عبد الله الحسن (عاد من السعودية)، كما عاد مؤخراً جداً الزميل يحي حسن عبد الرحيم. أمّا البقية فهاجروا نهائياً أو إغتربوا غربة طويلة (27 سنة) وما زالت مستمرة إلى أن يغور"الكيزان" أو أن يُقتلعُوا من أرضِ السودان إقتِلاعَاً.
من الأشياء الطريفة ونحن"برالمة": جاء موعد إنتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم (KUSU) واحتاج "الكيزان" إلى أصواتنا، وكانوا (يخموا)"البرالمة" بحاجات عجيبة! أرسلوا لى ود دفعتنا الرجل شديد الإحترام (ط.ع) فطلب منى بأدبه الجمّ وتهذيبه الفطرى أن نجلس مساء اليوم، أنا وهو، على عزومة شاى فى نجيلة داخليتنا"النشر"، فجلسنا وكنت أعلم ما يريد،"عشم إبليس فى الجنًّة". كنت أعرف كلَّ مداخله ومخارجه وحُجَجَه وبراهينه، قال لى باسماً مستبشراً: نريد منك التصويت لنا"الكيزان" لأننا نعرف إنك من أسرة مسلمة ومتمسكة بدينها وكذا وكذا.. فشكرته على الإطراء ثم سألته: ولكن ما علاقة ذلك بإنتخابات اتحاد طلبة الجامعة؟ فرد بحِدَّة: ألا تعلم أن هذا صراع هو بين "الله"و"ماركس"!!؟؟ فاتاح لى الفرصة التى طالما إنتظرتها لأهزمه بالقاضية وأتخلّص من "سخفه" فقلت له: "طيب دا صراع بين الله "القادر" وعَبْدُه "ماركس"!، انتو الدخَّلكُم فى الموضوع شنو؟ فغضِب إبن دفعتى و"برّطم" بكلام غير مفهوم، ورُبما هدد بغضب من الله ولعنة قد تصيبُنِى، ثم ذهب إلى حال سبيله ولم يُكمِل كوب الشاى الذى عزمنى لنحتسيه سوياً (روح رياضية صفر)!. هكذا الكيزان فى كل زمان ومكان يتقمّصُون الله وشؤونه، ويتحدثون ويكذبون ويفسدون ويزنون ويقتلون ويفتنون ويحرقون بإسمه.
نسمع هذه الأيام ترنيمة:"فاز الوطن فاز الوطن" فى دعاية تنصيب البشير لولاية تتِمّة الثلاثين سنة، والترنيمة تعنى أن عمر بشير هو الوطن! على انه فاز بنسبة ضئيلة من أصوات الذين "فِضْلوا" داخل السودان، والتزوير ايضاً كان حاضراً، كالعادة، فى العملية الانتخابية الأخيرة، الباهتة.
هذا ما جادت به زاكرة خَرِبَة بعد ثلاثة عقود من وقوع هذه الأحداث، شعرت أن هذا الجزء من سِفر الحياة، على أهميته، بدأت الزاكرة تمحو كل يوم بعض احداثها، فرأيت أن اوثق ما ثبت وتأكد لى، على امل أن يستكمل رفاقى وأولاد دفعتى ما سقط. أرجو صادقاً أن يستكمل رفاقى وأبناء دفعتى ما سقط وهو كثير.
شكراً لبنات وأولاد دُفعَتِى، وعموم جيلى، ولكم دوماً حُبِّى وإحترامى.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.