( 21 يوليو 1915 – 21 يوليو 2015 ) لا أعرف كيف يصير حاله إن عاش عمراً مديداً وشهد ما بلغ بالصحافيين في السودان ما بلغ . أظنه كان سينسى سجن المستعمر في أواخر الأربعينات ، حين كان رفيق سجنه " محمود محمد طه " . يبدو أن مواضي أيام الصحافة كانت في زمن المُستعمر أفضل ، ففي العهد العسكري الأول تم مصادرة صحيفته " الصراحة " وتم إصدار صحيفة " الثورة " لسان حال الحكم العسكري، من ذات المطابع التي كانت تخص صحيفة "الصراحة" . قبله كان الصحافي الأول " عرفات محمد عبدالله " الذي نصر ثورة 1924 ، وهاجر لمصر وذاق الأمرّين ، وتنقل إلى العمل في بقالة ، ثم انتقل إلى منطقة القناة ، ثم المملكة السعودية وعاد إلى السودان ليؤسس " الفجر " إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى عام 1937 . في تلك الأيام ، وما بعدها ، تربى الصحافي" عبد الله رجب "، زاده أيام دراسة الخلوة والمدرسة الابتدائية ، رغم تميّزه ، حالت تكلفة التعليم دون أن يواصل دراسته النظامية ، فبدأ يعلم نفسه بعصامية احترافية ، تنقل في المراحل ، وتعلم الإنكليزية ، وصار ترجماناً ، ومثّل السودان في مؤتمر الترجمة عام 1974 الذي استضافته دولة الكويت . (2) تسعة وعشرين عاماً منذ رحيله المفاجئ، حين غاب عن وعيه ساجداً عند صلاة الصبح . أسبوع ثم رحل ، وإنها لنعمة من أنعُم اهفب عند الرحيل ! . التقيته عام 1979 ، ثم صرنا جزءا من العائلة الكبرى بالمصاهرة ، وهو ديدن الشعوب السودانية التي التقت في الزمان والمكان . أول زيارة ل لسكني ، تفقد مكتبتي الصغيرة ، وذكر أنه لا يعدنا بالزيارة مرة أخرى لمشاغل الدُنيا . من يدقق النظر ، يكتشف أني تأثرت به كثيراً ، ولم تُحدِث السبع سنوات التي قضيناها معه أثرها إلا لاحقاً . ودوداً كان ولطيفاً ومتسامحاً ، متجاوزاً غلظة مُجايليه ، فكان بحق مثقفاً عضوياً . كان همه الأول غمار الناس . كانت القراءة والكتابة محبته الأولى ، فنهض على غير ما نهض أنداده ، حمل مفاهيم متقدمة في التربية ، وضرب مثلاً في التواضُع ، دقيقٌ في متابعة النصوص ، يصحح هنات اللغة وأخطاء الإملاء . صبوراً كان . له اجتماع أسبوعي مع مجموعة أصدقاء لتجويد تلاوة الذكر الحكيم، عندما كان يستأجر بيتاً في " الحلفاية " في الثمانينات ،صادق أهلها ، وبادلوه المحبة بمثلها ، فحلفاية الملوك غنيّة عن التعريف ، فيها شعوب وقبائل ومنها سلالة الشيخ يعقوب مُجلي ، الذي حضر إلى السودان في بدء مملكة سنار . ظل الصحافي" عبد الله رجب" ، رهن محبة صاحبة الجلالة الصحافة ، وقدم لها قرباناً عمره الذي ادخر ، وثروته الكتب ، خير جليس . لم يتسنَ للصحافة أن تتركه ليوثق التاريخ كما كان يحب أن يفعل ، إلا قبل ستة أشهر من رحيله . كان يزور دار الوثائق في مبناها القديم أيام الدكتور "إبراهيم أبو سليم "، ليملأ الفجوات في السيّرة التاريخية التي كتبها تحت اسم ( مذكرات أغبش ). سجّل الإذاعي الجزلي برنامج" أسماء في حياتي" برفقة الصحافي " محمد الخليفة طه الريفي" والأسرة . ولكن شاءت الأقدار إلا يرى التسجيل النور ، وقد كان قبل أشهر من رحيله . (3) سيرته الموجزة : - عبدالله رجب محمد - الميلاد : مدينة "سنجة" عاصمة مديرية " الفونج 21 " يوليو 1915 درس المدرسة الأولية في "سنجة". اطّلع على صفحات من " حضارة السودان "عام 1924 . عرف اقتناء الكتب والمجلات بالاشتراك عام 1927 : منها اللطائف المصورة ، كل شيء والعالم ، الدنيا المصورة ، المصور ، الفكاهة . عام 1937 عرف طريقه لمجلة الرسالة ثم الثقافة والهلال والمقتطف والمجلة الجديدة لسلامة موسى . وقد اهتم في النصف الأول من الثلاثينات بكُتب " سلامة موسى " و " محمد عبده "و " الدكتور محمد عوض محمد" . وكانت محبته تجميع موسوعة من المعلومات ،مع ميل لمعرفة الظواهر العصرية . كان عزوفاً عن القصص الخيالية ، لم تجد هوى في نفسه . بدأ الكتابة في الصحف عام 1933 .و يقول هو إن أول صحيفة نشرت مقالاته هي " السودان " التي أصدرها "الشيخ عبد الرحمن أحمد" منذ 1935 وعمل عام 1947 بصحيفة السودان الجديد" . وفي عام 1949 طلب ترخيصاً لصحيفة الصراحة . وقبل صدور " الصراحة " كان معروفاً بعدائه للطائفية ورجالات الإدارة الأهلية . وعند ظهور" الصراحة" في يناير 1950 ، كانت معادية للطائفية وضد الاستعمار ومتعاطفة مع الأحزاب الاتحادية على قاعدة الكفاح المُشترك ، وتعاون معه في صحيفته "الصراحة " بالمقالات : "حسن الطاهر زروق "، و"عبد الماجد أبوحسبو" ،و" الوسيلة" ، و"عبد الخالق محجوب" ،و "التجاني الطيب " و"محمد سعيد معروف" . لم يحترف الصحافي " عبد الله رجب " السياسة ، حزبية أم غيرها . مواقفه كانت صحافية ، تصيب وتُخطئ كما كان يقول عن نفسه ،وهو حال العمل الصحافي وملاحقة الأحداث ،و لم يحاول الارتزاق في السياسة ، وكان هو كتاباً مفتوحاً عرضة للنقد . كان " عبدالله رجب "شيخ من شيوخ الصحافة السودانية المخضرمين ، ظل يعمل فيها ويكتب لأكثر من نصف قرن. صاحب ورئيس تحرير ( الصراحة) 1950- 1960 ، حيث كانت قلعة النضال الوطني ضد الاستعمار وشارك الوطنيون بمقالاتهم من نافذة صحيفته . صاحب أول ترجمة عربية لوثيقة حقوق الإنسان . له تراجم عديدة ومتنوعة نشرتها الصحف في الشؤون العالمية وعلم النفس وموضوعات متنوعة ، وهي في مجموعها مجلدات ضخمة.كان صاحب الفضل في رواج مصطلحات أولها " أغبش " و " الأهالي الغُبُش " و " محمد أحمد دافع الضرائب " و" عروس الرمال " لمدينة الأبيّض . نشر الصحافي" عبدالله رجب " موسوعته التاريخية ( مذكرات أغبش ) في صحيفته " الصراحة " في بداية الخمسينات ، ثم في بداية السبعينات في صحيفة " الرأي العام " .اهتم في أواخر سنوات عمره بالترجمة ، فهي مجال حيوي ، لا يعيره السياسيون عندنا كثير اهتمام . استعاد بعض التعويضات عن مصادرة صحيفته الصراحة عام 1984 بعد 24 عاماً من الصبر ، سدد بها ديونه وبدأ تشييد مسكنه الذي اكتمل بعد رحيله . في سعة لن نستطع أن نُجاري تاريخه ، لأن الصحافة قطعة من جمر الحياة ، الداخل إليها مفقود ، والخارج منها لا يذكره أحد . كان سعيداً أن مهر حياته للصحافة . تأثر به ابنه وصديقنا الصحافي " عبد الحفيظ عبد الله رجب " . كان حفياً بتلاوة الذكر الحكيم مُجوّداً . صحح الكثير من هنات التجويد لدى قارئي الذكر الحكيم من إذاعة أم درمان .انتقل إلى رحاب مولاه يوم 6 يناير 1986. اللهم أدم أجره على الخير الذي شملنا بوجوده ، كان ناثر الورد والرياحين، واسع الصدر عند الخلاف ، لا يستطعم إلا القليل . بيته قبلة من لا قِبلة له ومأوى العشيرة والأحباب . كان أبا عالي المكانة محبته تُظلل الجميع ، وبيته بيت الكرام . طيّب المولى ثراه بقدر ما عمل ، ونسأل مولاه أن يطعمه طعام الصديقين والأبرار . عبدالله الشقليني 19 يوليو 2015 [email protected]