في ذات ذكرى، حكت لي شقيقتي موقفاً لم أنساه. روت أنها قد ذهبت لشراء بعض الحاجيات من أحد المحلات التجارية بالخرطوم. طلبت من البائع عدداً من الأغراض و أردفت طلباتها بابتسامة لطيفة من باب الذوق وحسن التعامل، فبادرها البائع بقوله: "انتي بتتبسمي لي كدا بتحبيني و لا شنو؟!" لا اذكر إذا أكملت بقية الحكاية، فقد إنفجرت حينها بالضحك ولم أستطع إكمال الحكاية، فقد ثبت بالدليل القاطع حبها له، والدليل تلك الإبتسامة الخاطفة. تكررت ذات الحكاية معي في مدينة كارديف ببريطانيا و لكن في هذه المرة رفض البائع أن يبيعني الأغراض بحجة أنني كنت عابسة ولم أبادله الإبتسام. كنت وقتها شاردة الذهن ولم أنتبه له، فإعتذرت بأدب و إبتسامة أجمل من إبتسامته في محاولة صادقة لإبداء حسن النوايا فقال لي مداعباً " لو أن لي مرآة، لرأيتِ وجهكِ الآن، وكيف أصبح أجمل بهذه الإبتسامة". مد لي حاجياتي بودٍ و قال: "الآن يمكنك أخذها". لن أستطيع أن انكر فضل ذلك الموقف على مزاجي يومها و على سلوكي "الإبتسامي" بعدها، فقد أدخل ذلك الرجل السرور الى قلبي و علمني درساً أخلاقياً لن أنساه. و للأمانة، كثيراً ما أتذكر قصة البائع مع شقيقتي و أبتسم بمكر حينما أذكر وجهها و الغيظ يتطاير من عيونها، لكنني بلا شك أتحسر على إنعدام ثقافة الإبتسام في مجتمعاتنا. أتذكر تلك الوجوه العابسة في صالة الوصول في مطار الخرطوم وكذلك بعض الموظفين في الدوائر الحكومية و تجهم المسئولين مالم تكن تحت حماية "الواسطة". أتأمل إستنكار البعض لإبتسام الآخرين ووصفهم بالسذاجة فقط لأنهم يوزعون صكوك الأمان و يجملون اللحظات بإبتسامة جميلة تكسب الحاضرين راحةً و طمأنينة. من المواقف التي لاتنسى أيضاً، انني قد ذكرت لأحدهم أمر إفتقادنا لثقافة الإبتسام، فبادرني بنقدٍ لاذعٍ، وإنهال عليّ بإتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، و أسهب في وصف حال الفقر و المرض و الحكومة الظالمة بل وعدد قائمة طويلة من المآسي و ختم إحتجاجه بقوله "ياخ نبتسم على شنو؟ على خيابة حظنا و لا على الفلس؟" و زاد:" ابتسموا المرتاحين. أنا لو عندي و مرتاح، بوزع قروش إبتسامات شنو كمان!" فقلت له: يا عزيزي الإبتسامة أقيم من أموال توزعها على المارة و أنت "مكشر". ألم تسمع قوله عليه الصلاة و السلام "تبسمك في وجه أخيك صدقة"؟! إبتسامتك هي ثروتك التي توزعها على الناس بمحبة و توداد. إبتسامتك هي عطاؤك فإن هانت في نظرك، هي عظيمة في قلوب الآخرين. تتحدث عن المرض، وكم من مريض تأخذك إبتسامته الراضية المطمئنة لساحة عظيمة من الإيمان و اليقين. تتحدث عن الفقر و أجمل الإبتسامات، تلك المرسومة على وجوه الفقراء و المساكين. الإبتسامة ليست حصراً على أحد. الإبتسامة نور يصدر من الشفاه إلى القلوب فينيرها و يفجر طاقة إيجابية تمتد إلى الناظرين. طاقة تتسلل كالنسمة في يسرٍ وهدوء فتنعش اللحظات و تعطر المكان و تلون القلوب بالبهجة. الإبتسامة يا عزيزي تكسب الأرواح راحة وطمأنينة، وتملأها تفاؤلاً، مودة ورضا. الإبتسامة قيمة أخلاقية إيجابية لا تقل عن باقي القيم الإنسانية التي حثت عليها الديانات والشرائع وهي اولى خطواتنا لخلق مجتمع إنساني راقي ومعافى. للأسف يعتقد البعض أن الدعوة إلى الإبتسام، دعوة إنصرافية وسطحية و كأن الإبتسام ينقص من الإلتزام و الجدية أو يشكك في الإيمان بالقضايا المصيرية أو ينقص من هيبة الإنسان، أو يحط من قدره و مكانته الاجتماعية و ينسون أن أعظم الخلق، الذي عاش فقيراً و مات فقيراً في ظروف حياتية صعبة وبيئة صحراوية جافة، كان هاشاً باشاً باسماً و ودود. ليتنا نحيي ثقافة الإبتسام، تلك الثقافة الإيجابية، الدينية، الأخلاقية، الإنسانية و الحضارية. نربي أطفالنا عليها و نحيا بها و نستعين بها على ابتلاءات الدنيا و صعوباتها فهي قادرة على تزويدنا بروح متفائلة و طاقة ايجابية تهون الآلام و تحفز الانسان و تفتح له نوافذ الضوء و الأمل. إبتسامة صغيرة، بريئة و صافية أولى بوجوهنا من العبوس و التجهم، ولعلها الفاتحة لما نحتاجه لإقامة التناغم بيننا و خلق عالم متآلف و محب. [email protected]