في وقت متأخر جدا من صباح يوم الثلاثاء الموافق الرابع والعشرين من شهر يوليو من عام 1934، والهواء على غير المعتاد لا يزال مبللا برطوبة الليل، فُجِعَت مدينة وينبيك، عاصمة محافظة منيتوبا في كندا، بمصرع سيرجنت جون فيرن، أثناء مكافحة سطو مسلح، هو الأول من نوعه في تاريخ المدينة، كان قد قام به نزيل سابق في أحد السجون الأمريكيّة، على صيديلة نوربيردج الكائنة في العقار رقم 11 من شارع ماري. ذلك ما أوردته الصحف في صبيحة اليوم التالي على صدر صفحاتها الأولى. كان سيرجت جون فيرن، وهو "عملاق يحمل في صدره قلب طفل"، قد ذهب إلى موقع الحادث، مستجيبا من دون أدنى تردد لنداء الواجب، بل من دون تغطية من أحد، أورفيق مُساند. لم يحمل معه إذ ذاك حتى مسدسه. كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس في المدينة ولما يتجاوز عمره آنذاك تسعة وثلاثين عاما. "يا أبانا، كل شيء ذهب الآن معه". هكذا، بدا كما لو أن الفرح لم يطرق قلب زوجته آيرس جيفرسون مرة. في ساعة مبكرة جدا من ذلك الصباح، وثمة رقائق سحبية صغيرة متفرقة بدت مرتسمة على صفحة السماء مثل نُذر كارثة وشيكة، ولم يكن ثمة من أحد من أولادهما الصغار قد استيقظ من نومه بعد؛ رأته زوجته آيرس جيفرسون بهيئته الأليفة تلك لآخر مرة من خلال شرفة المطبخ الزجاجية العارية من ستارة، بينما يقوم بفتح باب السياج الخشبي القصير المحيط بالبيت، محدثا صريرا مكتوما لم يُغيّر شيئا في حدة الصمت الماثل، ويمضي إلى عمله بهدوء وبطء آليّ في بزّته الرسمية، من غير حتى وداع "يليق في الأخير براحل إلى الأبد". وقالت آيرس جيفرسون في تدفق إحساس حاد بالفجيعة "فقط، لو كنت أعلم أنها ستكون المرة الأخيرة لي معه". ثمة قسّ في نحو الثمانين من كنيسة "في الجوار" تدعى "سان أندروز". "رأى الكثير في هذه الحياة". حسب رواية الصحف وقتها. زار أرملة سيرجنت جون فيرن خلال تلك الأيام "العصيبة". علل ما حدث كتدبير "رباني لا رادَ له". ذلك، "يا بُنيتي"، أن الحصَّة المقررة لكما للعيش معا من قِبل الربّ في هذه الحياة الزائلة كمتعة صيفٍ قطبي قد نفدت تماما في تلك اللحظة. "أجل"، لا تقديم. لا تأخير. لا زيادة، يا بنيتي، ولا نقصان هناك. كل شيء مقدر ومحسوب من قبل الربّ في الأعالي بدقة. لا كلمة، لا همسة، لا إيماءة فوق ما هو مقرر بالفعل في كتاب الأجل. لقد حدد الربّ منذ الأزل قسمة الأفراح والأحزان المشتركة بينكما. وفي مثل تلك الأحوال، "يا بُنيتي"، لا يجوز للمسيحيّ الحقّ أن يتمادى في ضلال الحسرة قائلا إن الأشياء كان من الممكن لها أن تسير في طريق غير تلك الطريق المكتوبة من قبل الربّ. فضلا أن البشر لا يحسنون تصريف الزمن الممنوح لهم "أثناء الحياة الدنيا". عندها، عندها فحسب، بدأتْ آيرس جيفرسون تدرك حقيقة وضعها الجديد كأرملة. وقد شعرت على نحو غامض كما لو أن الوجود برمته ليس سوى رحلة محكومة بالوحدة الأبديّة منذ لحظة الميلاد حتى لحظة الممات. قالت للقسّ يومها، أتدري، يا أبانا، "إنني" قد أنسى تفاصيل أول لقاء لي بعزيزي جون المسكين، قد أنسى كذلك تفاصيل معالم ليلة الزفاف، لكنني لن أنسى أبدا ما حييت هواجس أول ليلة لي قضيتها في أعقاب وفاته. في ذلك الصباح، ظلّتْ آيرس جيفرسون تتابعه، وهو يمضي بتلك الخطى البطيئة المثقلة على غير العادة وحيدا صوب حتفه، كما لو أن قوى غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو طريق اللا عودة بلا تأخير. خفق قلبها وقتذاك بشدة، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل لها من هناك إيماءة حبّ لم يسبق له أن تخلى عنها في ظلّ أكثر أجواء الشتاء القارس سوءا في كندا، طوال سنوات زواجهما العشر. قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار بينما تحاول منع نفسها جاهدة من البكاء "لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا". كما لو أن "الصمم أصابه". في الواقع، لم يكن يا أبانا "يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت". حسب أرشيف بوليس مدينة وينبيك، يكشف تاريخ خدمة سيرجنت جون فيرن أنه التحق بقوى صغيرة قوامها عشرة رجال تعمل في ضاحية "سان بونفيس". كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920. بعد نحو العامين تقريبا، ترقى "جون فيرن" إلى رتبة "سيرجنت". كان سعيدا وقد خالجه حسب رواية زوجته تلك للصحافة شعور أن الحظّ يبتسم له "مقارنة بزملائه في أمريكا" لألف سنة قادمة. أجل، كان العالم في كندا لا يزال "على قدر كبير من الطيبة". لكنّ أيا من تلك المصادر الصحفية المنحدرة من مجريات تلك الأيام لم تذكر شيئا على وجه الدقة عن أعمار أولئك الأطفال الأربعة الذين تركهم سيرجنت جون فيرن صباح ذلك اليوم في رعاية أرملته. كل ما خرجت به الأرملة وقتذاك: كان مرتب شهرين، أي حوالي 400 دولارا كنديا، ومبلغ 40 دولارا أخرى تم تقديمها في قمة التعاطف العام من قبل مؤسسة تعويض العاملين التي خصصت كذلك مبلغا ضئيلا لكل طفل من أولاده الأربعة حتى بلوغ سنّ السادسة عشرة. لا جدال أنه ظلّ بحوزة الأرملة بعد انصراف آخر المعزّين الكثير من الذكريات لتُنفقها بسخاء على ليالي وحدتها "القادمة"، كما لو أن الزمن توقف، لولا النسيان. مدينة وينبيك التي روَّعها هول ما جرى، أطلقت اسم سيرجنت جون فيرن على أحد شوارعها في وقت لاحق كتكريم له، ولم يغب عن المدينة في بادرة طيبة "ترتقي لمستوى الحدث" أن تتكفل كذلك بمصروفات الجنازة، التي كانت "حتى ساعات ذلك الصباح" زوجا وأبا ومواطنا صالحا ومثالا "يُحتذى في مدينة أبرز ما يميزها: سلامها الداخليّ"، وفق ما جاء في إحدى خطب التأبين الرسميّة ساعتها. كان ذلك بالفعل حدثا مؤثرا في الحياة الرتيبة لمدينة لفقرها توشك أن تتوكأ على غنى مدن كنديّة أخرى. إلى الدرجة التي تمّ معها تنكيس الأعلام في أثناء سير الجنازة. ونظرا لذلك القدر الكبير من الاحترام الذي تكنه المدينة للراحل، فقد أغلقتْ معظم المؤسسات والمحلات التجارية أبوابها، بينما بدا نحو الثلاثين طفلا من مختلف مدارس وينبيك وهم يمضون هكذا مطرقين حاملين الزهور خلف أبنائه الأربعة الصغار ضمن تفاصيل أخرى داخل ذلك الموكب المكلل بالحزن. سيرجنت جون فيرن، حين تلقى في مكتبه بلاغا بالحادث في حوالي الثامنة والربع صباحا، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال الإطفاء لنقص وقتها في عدد القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه قط أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد حتفه الوشيك سيتحول تدريجا إلى ملتقى دائم تُعقد فيه تلك الصفقات على عجالة ما بين المومسات وأولئك الباحثين عن لذة عابرة. وتلك لم تكن على أية حال اللعبة الوحيدة من ألاعيب وحيل الأستاذ التاريخ التي لا تحصى. ففي عصر السرعة هذا، نسيت الغالبية العظمي من الناس تقريبا ذلك الاسم الكامل للشارع. وقد اكتفوا مع تقادم العهد بالدلالة عليه بتلك الرتبة، سيرجنت، والتي يمكن أن تحيل في نهاية المطاف لآلاف النظاميين في هذا العالم!. [email protected]