بسم الله الرحمن الرحيم كنت متجها الي بحرى أمسية 26 سبتمبر من الخرطوم ولا أدرى لأي سبب أدرت مؤشر راديو السيارة نحو إذاعة أمدرمان وعلي موجة ذاكرة الأمة سمعت نكتة رواها مقدم البرنامج بأنها وردت ضمن مادة تم إعدادها في العام 1967، ومفادها:- أحضر والد مرضعة لطفله الوليد لأن الام لم تدر من الحليب ما يكفي لإشباع الرضيع ..وكان لون المرضعة الجديدة أسودا، وعندما رأها الطفل الأكبر سأل والده ببراءة أبي أبي هل سترضع هذه السيدة هذا الطفل حليبا أم قهوة.....انتهت النكتة ولكن مقدمي البرنامج مذيع وزميلته واصلا ضحكهما لمدة زادت عن الدقيقة. قيلت هذه الطرفة ثقيلة الظل قبيل ما يزيد عن أربعة عقود، وهي تعبر عن ذلك الزمن وتقاطعاته الإجتماعية والثقافية والعالم لم يفق بعد من صدمة الحرب العالمية الثانية التى أزهقت عشرات الملايين من الأرواح، وخلفت اضعاف هذا العدد من المصابين والمعاقين والمنكسرين نفسيا فضلا عن هزات إجتماعية وسياسية وإقتصادية عنيفة لا تزال إثارها باقية الي يومنا هذا. ومما لا شك فيه لو أن هذه النكتة قيلت علي أثير اى جهاز حكومي يمول من مال دافع الضريبة في اي بلد غربي علي شواطئ الأطلسي أو المتوسط لقامت القيامة علي الأقل علي ذلك الجهاز الذي صدرت منه تلك النفحة العنصرية، ولأطاحت بأمر القائمين عليه، يتقدمهم الوزير المعني باعتباره المسئول الأول، ولكن يبدو أنها مرت مرور الكرام علي المستويين الرسمى وغيره، في سوداننا الحبيب وهوأيضا سودان العجائب الذي لا يرى عيبا إلا في الاخر علي نسق معضلة (هم ونحن، أو أنا وأنت) فضمير الغائب غالبا ما ينسب اليه العيب في السودان..فمثلا حكوماتنا تلعن صباح مساء أولئك الخونة والمارقين والعملاء الذين يستهدفون السودان،أرضه موارده وشعبه، وفي مجتمعنا الكثير مما يومئ بشرور الاخر القريب أو البعيد. أما إعلامنا حين ينطق عن أوروبا سيما الغربية وامريكا فلا يرى فيها سوى تلك البلاد الغارقة في المجون والمخدرات والفسق والعنصرية وكل الصفات الأخرى التي تحط من قدرها.وهذا إسقاط يوحي بأن بلادنا خالية منها. توقفت عن السير بعد أن نأيت جانبا تأملت بعيدا أتفرس وجوه العابرين مشاة كانوا او ركبانا، وجال في ذهني شريط أبنائى وبناتي بل وأحفادى، قريتي الوادعة الصغيرة والتي كانت ترقد علي سفح جبل (كوسو) منذ أكثر من اربعمائة سنة، ولكنها اختفت من الوجود تحت ألسنة لهيب الحريق عام 1989م، أعادتها إرادة البقاء الي الوجود مرة أخرى،ولكنها صارت ركاما ثانية في العام2003م، ولم يبق معها إلا الذكرى لا تنفك تسيطر علي روايات ساكنيها يرددونها بحنين مر وبشبق وألم شديدين. ملابسات الحريقين يحفظها بتفاصيل مملة اولئك الذين صاروا كبارا اليوم وقد كانوا أيفاعا يومها بأذهان متوقدة تحتفظ بأدق التفاصيل ويروونها بعباراتها المهينة الواحدة تلو الأخرى....ترى هل تعيد إذاعة أم درمان تلك الذكريات أم الصدفة فقط هي التى أوردت هذا التطابق في الحدث والحكي.؟؟؟؟ إعتراني حزن نبيل (Colere saine) كما يقول الفرنسيون، وحتي لا يلتبس الأمر فلست من دعاة بسط الرقابة من اي نوع علي وسائل الإعلام لأن النكتة التي أوردتها ليست من بين تلك التي أفلتت من الرقيب ولكنها دخلت الأثير من نافذة أخرى وهى نافذة الواسطة فالذين يلجون الي أجهزة حكومية عديدة باتت مصادر تأهيلهم الواسطة فقط من عدة أوجه فاصرة القربي والقبلية أو الإنتماء السياسي وأحيانا روابط الجغرافيا ولربما تجتمع كلها فيمن يتم إختياره ويقدم لنا هذا العمل السئ، غير الخلاق بئيس الشكل والمعني، فاقد الوازع الديني الذي يقر بإختلاف الناس لأمر يعلمه الخالق، وهو أيضا فاقد الحس السياسي والثقافي الذي لايرى في التنوع إلا مصدرا للإزدراء والتهكم. استجمعت قواى وواصلت مشوارى فالحزن وحده لا يكفي حتي لو جمعت كل الأحزان، ليظل السؤال الذي لم يبارحني من أنا، أنت، نحن وهم وإلي أين سائرون؟؟ إن ثقافة اللون التي تسيطر علي مجتمعنا بهذه الدرجة، جعلتني أشفق علي أولئك الذين إستجابوا لها سيما الجنس اللطيف ممن سعين الي تغيير لون بشرتهن فأحالوها الي أمساخ مشوهة.إذا فمالعمل حيال أمر كهذا؟؟؟ الإجابة بالطبع ليست سهلة ولكنها ليست مستحيلة، يجب أن نعود لمناهج التربية والتنشئة لإعادة توجيهها نحو غايات أرحب وأفضل فكلما ضاقت النفوس واضمحلت طموحاتها يكون التعبير عنها أضيق وأضعف ولعل هذه النكتة هي الدليل الأبلغ علي ما أقول أرادوا بها حط قدر لون معين من البشر فإذا بهم ينزلون بكل بني البشر الي درك اسفل من القاع .فيا إذاعة أم درمان والتي تبث من بقعة في دولة الإيمان والتوحيد والمشروع الحضارى أوجه إليك هذا السؤال: أتعيبين الصنعة أم الصانع؟! إن بلادنا مأزومة وليست في حاجة لإستزادة هذه الأزمات،ويكون الأوجب علي القائمين بأمر الإعلام الإرتقاء بمستوى ما يقدمون من مواد مبثوثة علي الأثير، لأن كثيرا من متابعيهم من ذوى البشرة السوداء استمعوا لتلك الحكاية، ولن تعجبهم بكل تاكيد، وكم هم أولئك من غيرهم في بلد إسمه السودان،ممن لم يستسيغوا هذا المنحي الموغل في الإسفاف. كانت وسائل الإعلام هي السباقة للتمهيد لمذابح روندا المرعبة بتصوير الضحايا بأنهم صراصير لا غير وربما أقل (moins que des cafards)، تهكما وتحقبرا، وتهيئة نفسية لا تشعر الجاني بالذنب اذا ما ارتكب جرما بحق الضحية وهو ماحدث بالضبط، لذلك كان الإعلاميون أكثر من مثلوا أمام المحاكم التي جرت إنصافا لضحايا تلك المذابح. جعفر منرو [email protected]