قد عاف عيني النوم واللوم عادني وللطائف المأنوس بالشوق عاد لي فهبي إلى مهفى فؤادي ومهجتي وشدّي إليه الرحال بالشوق وارحلي أقيمي به أطراف ليلٍ وغدوة وفي كل رسمٍ كان سلواي فانزلي (بديوي الوقداني) ودعنا ينبع، وتركنا ديار جهينة وراء ظهورنا، وانطلقت بنا القلوص تنهب الأرض، بمحاذاة الساحل نحو الطائف، مروراً بجدة التي وصلناها بعد زوال الشمس عن كبد السماء، فألفيناها تغلي من شدة الحر والرطوبة. إلا أننا حظينا بمرافقة وفود الحجيج وهم متجهون نحو مكةالمكرمة؛ لأداء مناسكهم فنعمنا بصحبتهم حتى مداخل الحرم عند حي الشميسي على الطريق بين مكةوجدة. ولما لم يكن من المسموح نظاماً لغير الحاج بدخول مكة وقتئذ؛ كان لازماً علينا أن نسلك طريق غير المسلمين الذي يمر بجنوب المدينة المقدسة. شددت خطام القلوص، وكأني بها قد فهمت ما كنت أهم به؛ فأبطأت السير، ولوحت بكفي مودعاً تلك الوفود، وقد سالت مني دمعة وأطلقت زفرة حرى وأنا أردد قول الشاعر الأندلسي وهو يودع أفواج الحجيج بقوله: أزف الفراق وفي الفؤاد كلوم ودنا الترحّل والحِمام يحوم قل للأحبة كيف أنعم بعدكم وأنا المسافر والفؤاد مقيم قالوا الوداع يهيج منك صبابة ويثير ما هو في الحشى مكتوم قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم وبحسب تقلب طبع الإنسان بين الواقع والخيال؛ جال خاطري في تلك الكثبان الرملية والجبال المتناثرة إلى الجنوب من مكة، وخيّل إلي أن قد سمعت عمر بن أبي ربيعة يغازل بعض فتيات قريش، وهن يستمعن إليه بإحساس مرهف؛ لعلمهن بمكانته الأدبية وعفته التي لا تتناسب مع غزله الحسي وكأني قد سمعته يفاخر بقوله: بينما ينعتنني أبصرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغر قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ قالت الوسطى: نعم هذا عمر! قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر؟ سرحت بخيالي الجامح في تلك الذكريات الجميلة حتى احسست بالقلوص ترقى جبلاً عالياً فعرفت أنني أسير بطريق الهدا بين مكةوالطائف؛ وإذا البرق يلوح أمامي والسحاب يغطي سفوح الجبال المترامية حتى كأنه يلامس سطح الأرض. وبعد أقل من ساعة من الزمان هبط بنا الطريق، الذي تحفه المخاطر والإثارة، إلى ديار ثقيف وهوازن، وحللنا مدينة الطائف المأنوس، كما يحلو لأهلها تسميتها. هذه المدينة التي تكتم أسرار أنوثتها أمام زائريها حتى تتأكد من صفاء سريرتهم وتتأنى في إغوائهم ربما لاستبقائهم فترة أطول في مدار فتنتها. تعد الطائف واحدة من أقدم مدن العالم، وقيل إن مدينة الطائف هي المقصودة في آخر دعوة لأبي الأنبياء إبراهيم بعد أن استودع زوجته هاجر وابنها إسماعيل بجوار الكعبة قافلا إلى الشام: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). وتشير الرواية إلى أن الله سبحانه وتعالى استجاب لدعوة إبراهيم "فأُمر جبريل الأمين بقلع قرية من الشام فاحتملها من تخوم الثرى بعيونها وأشجارها ومزارعها ثم طاف بها بالبيت العتيق ووضعها مكانها فسميت الطائف". ولهذا السبب فإن الطائف هي مدينة الرمان والعنب الرازقي، والورد والسياحة والجمال والهواء العليل، والخضرة الدائمة والمصايف الرائعة؛ مثل الشفا وقصر شبرا التاريخي وعين بردى. وهي أيضاً من المناطق الحضرية في الجزيرة العربية وهي واحدة من المدن التي تشير إليها الآية الكريمة: ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) والقريتان المعنيتان في الآية هما مكةوالطائف. وهذه المدينة العريقة تضم معالم تاريخية لها قدر كبير من الأهمية مثل ضريح الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ومسجد عدّاس ومسجد السيد المحجوب، الجد الأكبر للسادة المراغنة، وإلى الجنوب منها توجد مراضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد التي جاءت منها مرضعة الرسول السيدة حليمة السعدية رضي الله عنها. كما اشتهرت الطائف ثقافياً؛ إذ يوجد بها سوق عكاظ، وهو أحد الأسواق الثلاثة الكبرى في الجاهلية بالإضافة إلى سوق مجنة وسوق ذي المجاز، وكانت العرب تأتيه لمدة 20 يوماً، ثم تسير إلى سوق مجنة فتقضي فيه الأيام العشر الأواخر من شهر ذي القعدة ثم تسير إلى سوق ذي المجاز فتقضي فيه الأيام الثمانية الأولى من شهر ذي الحجة ثم تسير إلى حجها. وفي الوقت الحاضر يقام مهرجان ثقافي كبير في سوق عكاظ، تنظمه وزارة الثقافة السعودية وتدعو له الشعراء والمثقفين والأدباء والمفكرين ويؤمه المهتمون بالشأن الثقافي من كل حدب وصوب، وتوزع فيه عدة جوائز قيمة. وكل هذه الخصائص جعلت من الطائف مدينة متميزة بين المدن السعودية الكبرى. مكثنا في هذه البلدة الجملية أياماً في ضيافة أخوتنا من أبناء دار حامد الذين غمرونا بفائق كرمهم وحسن ضيافتهم؛ خاصة أيام العيد فاستأنسا بقربهم حتى ودعنا الحجاز وقفلنا راجعين إلى نجد. [email protected]