دقت الساعة الخامسة عصرا و هو يقترب بسيارته من ذاك المركز التجارى الفخم . المكان يعج بالناس و السيارات و الأضواء . أوقف سيارته السوداء قرب لافتة إعلان ضخمة تقول " مطلوب حراس عمارات بمبالغ جيدة " . تشاغل بالنظر إلى مرآة السيارة الأمامية فلاحت له مقدمة شعره و شئ من جبينه . " شعرك خشن يا حبيبى " هكذا همست له تلك الليلة و هى تجرى أسنان المشط بين شعره . حينها فرد شعرها الجموح على كتفيه و همس و هو يقبله " و شعرك شلال من حرير " . نظر حوله ويداه تنقران على مقود القيادة فى إنفعال و أنفاسه تعلو و تهبط فى توتر وسيم ، فقبل قليل هاتفته حبيبته و طلبت منه أن يلتقيها قرب هذا المركز (هى عادة ما تلتقيه فى ذاك المقهى الأنيق حيث يجلسان و هما يتظاهران بالدراسة سويا) . دق جرس هاتفه الجوال . تدفق صوتها الوسيم ضاجا بشوق أخضر . هى داخل المبنى لكنها ستتأخر قليلا . بحث فى طبلون السيارة عن شئ يسلى به نفسه فعثر على جريدة سودانية حديثة . طالعته فى الصفحة الأولى قصيدة " ليل و لاجئة " فطفق يرتل معها : لا تنامى الليل أوغل لا تنامى الريح أطفأت السراج وقهقهت خلف الخيام لكم يعشق هذه القصيدة ، و هو لا يزال يذكر حماسة معلمه لها فى المرحلة الثانوية . أدخلته القصيدة فى دوامة صمت أخرجه منها بوق سيارة وراءه . التفت فرأى وجها كالحا يصيح به صاحبه أن يحرك سيارته حالا . قادها بضعة أمتار و صاحب الوجه الكالح يطلق من فمه حمما من سباب . إلتفت حوله فى حنين . لم تأت حبيبته بعد . هذه البنت التى قدمت من بلاد أخرى ، ما بين بشرتها الشمس و بشرته الأبنوس ولدت – و بلا مقدمات - قصة حب طاغية السخونة . عضه الشوق أكثر فلاذ بشريط لفنانه المفضل " عبدالكريم الكابلى " .هى رائعة " ضنين الوعد " . غاص فى ثنايا اللحن العبقرى و الصوت الفخم و النص العظيم . دقائق و ابتسم و ذكرى ما تداعب ذاكرته . ذات يوم قالت له محبوبته و صوت " الكابلى " العظيم يدندن بذات الأغنية الحلم " مش فاهمة شى من هالغنى ، لهجتكم السودانية صعبة . وقف هالشريط وغيره بشريط لكاظم الساهر " . ضحك و قال لها " لكن هذا نص فصيح " فهزت رأسها الجميل فى عناد و قالت " برضو مش فاهمة شى " . ........................... فلسطينية . ألهذا حين عانقتها للمرة الأولى إنغرس فى صدرك تفاح يافا ؟ قبل أن تلتقى بها ، كنت تعتقد أن دفاتر العمر قد امتلأت بالتجارب و الأقاصيص ، و أنه ليس ثمة حيز لقادم يرافقك فى قطار نبضك الذى يجهل أسماء الأشجار و المحطات و الركاب . " اليوم لدينا جلسة تدريبية فى مبنى شركة إقتصادية عريقة " هكذا حدثك مديرك البغيض فى البنك . أردف و هو يتحاشى النظر إلى عينيك الحادتين " حاول ألا تتغيب يا أخى الكريم " . تلك هى طريقته فى التحدث إليك ، يصيح فى وجوه الآخرين حتى إذا اقترب منك خفض صوته . إبتسمت فى سخرية . لعل أحد الموظفين القدامى حدثه عن كيف صفعت مديرك القديم فى إجتماع حين تحدث باستخفاف عن بلادك السودان . نظرت إلى وجه مديرك الناعم كما جلد ثعبان ، في سرك بصقت على ابتسامته البلاستيكية المهترئة ، ثم لملمت بضعة أوراق مهترئة و غادرت الى شقتك القريبة . .................. السادسة عصرا قد حانت ، و أنت تجر قدميك متثاقلا أعلى سلالم تلك الشركة . إلتفت حولك فى ضجر و أنت تهمس لنفسك " ساعتان إضافيتان ستهرقهما كما أهرقت سنوات عديدة قبلهما في هذه المدينة ، و أحمق آخر سيعلقك على مقاصل ثرثرته " . إقتربت من القاعة المنشودة . صوت يرتفع مرددا سؤالا عن نظرية قديمة لعالم الاقتصاد الأمريكى الشهير " رونالد كوز " . دلفت ثم جلست فى مؤخرة القاعة . رفعت رأسك فطالعك وجه المتحدث يتصدر لفيفا من الحضور ، هو شاب فى منتصف رفاهيته المسماة عمره .أصغيت لدقائق . الرجل يهرطق ببضعة شذرات إقتصادية لابد أنه سرقها من الإنترنت . مرت بقربك موظفة ما ، لعلها سكرتيرة . مدت صوبك ورقة ما و هي تبتسم . فى تلك الثوانى الهاربة من خارطة زمان الإغتراب المقيت آنست نجمة ترفع رأسها و تمازح غريبا يدخن سيجارته فى ليل سأمه . سألتك هى بصوت مسكر " شو اسم حضرتك ؟" . فهمست " سيد عبدالله " . سألتك عن إسم البنك الذى تعمل فيه فأجبت و عيناك تغوصان فى عينيها فى تحدى صارخ لتقاليد المكان . إرتعشت عيناها إرتعاشة لم تخفى عليك قبل أن تتهادى بعيدا عنك كما تتهادى غمامة تتغنج على دروب الأفق . أثناء استراحة الشاى تأملتها . لاحت لك فى عباءتها الجميلة ، متوسطة القامة تميل الى الطول ، نحيلة الجسد لكن فخذيها ممتلئان ، صدرها يبدو باذخا رغم محاولات الخمار اليائسة ان تخبئه عن عيون الكون ، ذهبية اللون ، هادئة الملامح ، صغيرة الفم ، طويلة الأنف ، فاتنة العينين . هكذا أحطت بها ملامحا. توثبت حواسك بعد خمول . بعض الحضور الذى لفتت انتباهه طلتها الجميلة حاول أن يستعرض خفة ظله . لكنها إبتسمت فى ثقة و تماسك . لكم تأسرك الأنثى الواثقة الخطى ، التى تمشى ملكة !! عقب انتهاء الجلسة ذهبت إليها متعللا بالسؤال عن شئ ما . كانت واقفة وسط جميع صغير من المتدربين و بقربها رئيسها . رن هاتفها فردت . طرق صوتها نوافذ سكرك القصية و فارتعشت شفتاك فى ترقب زنجى الوقع . تأملت أصابع يديها بهدوء فبدت طويلة و نحيلة كما أصابع عازف جيتار هيبيزى ( و هى ترقد شبه عارية بين ذراعيك فيما بعد اعترفت لك انها لطالما أحست بالضعف أمام نظرة الثقة التى تشع من عينيك الحادتين ، ثم أردفت ضاحكة أنه لم يدر بخلدها أنها ستعشق رجلا أسمرا يوما ) . مرت الأيام وانطوت ذكرى الموظفة الشمس بين طيات ترهات عملك البغيض . ثم ذات مساء التقيتما . كنت مدعوا الى حفل إفتتاح مشروع ريفى ما حينما رأيتها . فى ثوان تحولت عيناك إلى سنجابين مشاغبين يركضان على شلالات شعرها الطويل . اقتربت منها و حييتها . انساب الحوار بينكما طبيعيا كانسياب نهر بين أفخاذ أرض بكر . ضحكت هى كثيرا تلك الليلة و يداها ترتعشان على كأسها الملئ بعصير البرتقال . تحسست جرحك القديم و انت تتأمل قامتها المثمرة . هذه صبية لو اهتزت قليلا لتساقط المانجو من نهديها . سألتها بجرأة إن كانت تعزف أية آلة موسيقية فنظرت إليك طويلا ثم سألت " لماذا تشعر أننى أعزف آلة ما ؟" قلت لها بثقة و عيناك تغوصان فى لجة عينيها العميقة المسكرة " سيكون من مظالم الكون الكبرى ألا تنثر هذه الأصابع الجميلة بعض شلالات الموسيقى على الناس والأشياء " . ثم تحدثتما كثيرا . حدثتها عن بلادك ، عن نيليها و نخيلها و غاباتها و جزرها و صحاريها و ناسها . ومع كل تفصيلة كانت تشهق دهشة ظمأى على أهدابها الطويلة الفاتنة . كان الشوق قرصانا ذاك المساء حينما دق جرس بابك . فتحته بتبتل و كفك طفل يرتعش . دلفت السيدة الشمس . عانقتها بجوع جمالى لا متناه . بكت تأثرا و هي تشم فيك عبق غابات افريقية غسلها المطر . لقاؤكما الثانى كان أكثر عذوبة . رقصتما على إيقاع موسيقى اسبانية لسعت مسامك . هذه السيدة الشمس : كل جزء من جسدها أنثى لوحده . ذاك اليوم تحدثتما كثيرا .حكت لك عن طليقها ذاك ، عن طفلتها التى ماتت فى مهدها و عن بلادها التي لم ترها يوما ، و حكيت لها كثيرا عن جراحات عمرك الكبار . .................. أفاق من تأملاته على رنين هاتفه الجوال . تدفق صوتها و هى تسأله أن يوافيها عند البوابة سبعة . قاد سيارته ببطء وهو يلتفت حوله . جموع من أعراب المدينة يزحمون باحات المكان ، سيارات تصطف وراء بعضها و أمامها يقف سائقون يحترفون الإصغاء الأخرس ، و طفل يصيح باكيا و هو يمسك بلعبة بلاستيكية مكسورة . من سيارة يقودها سودانى أمامه تهادى إلى أذنيه صوت " العطبرواى " هاتفا " لا لن أحيد " . إبتسم فى شجن و سيارته تشق طريقها بين الجموع بتؤدة . بلغ البوابة المنشودة فأوقف سيارته قربها . نفض المقعد الأمامى المجاور له بكثير اشتياق فعما قليل سيضوع جسد محبوبته عليه . عما قليل ستسكر أصابع يديه و هي تجاور جسدها البض ، و حتما سيجد فرصة ليمسك باصابعها وراء ظهر المدينة . دقيقة و سمع طرقا على باب السيارة الخلفى . التفت فوجد محبوبته و هى تشير إليه أن يفتح الباب . لفت سحابة سوداء وعيه و بضعة وجوه تتطلع صوبهما فى فضول . نظر إلى المقعد الأمامى الخالى لثوان ثم غادر مقعده فى صمت . فتح لها الباب و هو ينحنى فى أدب جدير بسائق مطواع . جلست فأغلق الباب وراءها . إستدار وعيون كثر تتطلع إلى محبوبته فى نهم . جلس أمام عجلة القيادة و دون أن يعى سمع صوته يهتف فى هدوء مفخخ " إلى أين يا مدام ؟ " . ضحكت هى فى عصبية ثم قالت في نبرة خافتة " بعتذر حبيبى بس كلهم كانو بتطلعو فينى فما كان فى حل إلا أجلس فى المقعد الورا " . لم تزده عبارتها سوى هدوءا فقاد السيارة ببطء و أصابع قدميه ترتعش فى إنفعال و ثورة بينما غاصت شوارع المدينة في غلالة رمادية كثيفة . انحرف عند الزاوية اليمنى و حالما بلغت سيارته الطريق العام ترجل خارجا ، استدار فى سرعة حول السيارة ، و فتح الباب الخلفى فى عنف و وهو يصيح بها آمرا أن تخرج !!! ............... مهدى يوسف إبراهيم عيسى ( [email protected]) جدة