أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيق الضفاف4
نشر في حريات يوم 23 - 05 - 2012


عباس علي عبود…
أساطير الأنهار..
رواية…
الإهداء:
صفية إسحق
يا سليلة الأنهار
والشموس
يا عروة الحنين
وميسم الجسارة
تأمَّل صفحة النهر، باحثاً عن حروفٍ لربما توهَّجتْ، في رئة الأحلام. أنصت لبرهةٍ يحدوه الأمل، مترقباً بشارة القبول. وكأنه أبصر طيفها، وميضاً قادماً من تخوم الأبدية.. فهل سمع صدى أنفاسها القديمة، ورحيلها عبر العصور والحقول؟
متمهلاً على الضفاف، انغرزت عصاه الملساء في الأرض اللينة، فانداح خياله إلى منابع الحكاية، وتواترت بدماغه المعاني والصور.. أنصت للموج، فهل سمع حفيف الحروف، وصوتُ عاشقٍ نبيل، يرسل الأنغام، من رئة التمني، والعشق، والوئام؟ خطواته هائمة، وكلماته غائمة.. لكن خفق صدره، ما استراح من ندائها، لم يقطع الرجاء. فهل غازلته أوتار الحنين؟ يوم رفرف طيفها، وسرت أنفاسها، كأنها سحابةٌ بتول.. نقشٌ على جرح التمني، وعدٌ تجلى، من رفيف الحلم، إلى مدارات القبول..
أفاق العجوز من تأملاته على رفيف الأجنحة. الهدهد انحدر من الجنوب، قادماً من ظلمات التاريخ ومنجم الحكاية.. رفرف حزيناً، ثم حطَّ على حافة المياه، يلمع بعينيه بريق الحكاية، بينما أطياف العروس ترفرف على الضفاف، وصدى حروفها قادمةٌ من رئة البداية..
ليلة البارحة نام الهدهد عميقاً بعد طيرانٍ طويل. بحثاً عن رائحةٍ فريدة. ومع قبسات الصباح الأولى، دار سبع مرات فوق كومة من التراب، ثم حطَّ عليها. مبهوراً عاين حفرةً عميقة، ثم حلَّق مرةً أخرى.. وعندما تقدمت طلائع الصباح، ظهرت معالم مقبرةٍ قديمة.. كان هيكل الزعيم يتوسط الحفرة وقد وسم باللون الأحمر، وحوله أربعة هياكل تغطي وجوهها بأكفها. وبجانبهم كلبٌ باسطٌ ذراعيه، ومرحاكة مستطيلة، بارزة الحواف..
كان أنين الضحايا عابقاً في أنفاس الصباح، بينما طيف العروس يهوم فوق الرميم، يرتل همساً أناشيد الرحيل.. لبث العجوز صامتاً، منصتاً لشهيق الضحايا، يوم اقتادوهم عنوةً ليدفنوا مع الزعيم.. وكأنه أبصر العروس، على ضفاف النهر، وسط الزغاريد والطبول، تزفُّ إلى عاشقٍ نبيل، بين يديها صولجان الملك، وبعينيها بريق القبول..
على حافة الماء، تأمل طيفها الساري مع الموج. فهل قرأ على صفحة النهر، آثار هروبها في عتمة الليل؟ وهل سمع صدى أنفاسها الحزينة، يوم اقتادوها في موكب النزيف؟
لم تصالح الهزيمة، لكنها ظلَّت على أسنة الفرار، تفتش في ثنايا الكلمات، وفي أزقة الحكاية. تسائل الأشجار والمطر، عن عاشقٍ نبيل. تركض في براري الاحتمال، تطلب حقها في العدل والوصال.. ولأنها لم تقبل الهزيمة، ظلَّت تكابد الغربة والانتظار. أحياناً تراودها حكاية الأم، التي ولدت من رحم النهر عند ذروة الفيضان. حين تلاقحت المياه الطينية، مع المياه البيضاء، واشتعلت البروق في سماءٍ دهماء، وقصفت الرعود.. وبينما أغوار النهر تمور بالطلق، وبالأسرار، انهمر المطر المدرار.. اشتدت وخزات الطلق، وهيمن طقس التوقع.. رويداً توقف المطر، انزاحت السحب، وتسللت من بينها خيوط الفجر. عبق الأفق الشرقي بالأرجوان، فتمخَّض النهر عن أنثى يانعة، سارت على الضفاف، تدوزن الأنغام..
ظلت هذه الحكاية تناوش خيال طفولتها، فتصيبها بالحيرة، والخوف. ولا تلبث أن تنمو بين جوانحها براعم الأمل. فتنسى، وتلهو، وتغني..
في الصبا سابقت أقرانها سباحةً، وتفوقت عليهم أحياناً. تخرج من الماء وسط رهط من المعجبين، تدندن بالأنغام، والجميع من حولها يترنمون في نشوةٍ وحبور.. ذاع صيتها فحاصرتها الدعوات لتشارك بالغناء في حلقات الكبار، لكنها تمنَّعت..
ولما تفتق جسدها، وفاح منها عبير الأنوثة، التقطتها العيون، واختاروها عروساً جديدةً للزعيم. لم يستشروها، ولا خطر على بالهم!! كان عليها الإذعان للأمر الواقع، بيد أنها أضمرت أمراً ما..
ليلة الزفاف، رنَّت الزغاريد في أوج الطبول.. من ذروة الرقص والغبار، انهار الزعيم، ونقل على عجلٍ إلى داره. الجموع في ترقبٍ مهيب.. فإن مات الزعيم، دُفِنتْ معه العروس!! لكنها انسلت من وسط الفوضى، والارتباك، وقصدت النهر.. ترددت والظلام يطغى. ناوشها نداءٌ متواتر. تلفتت حولها، ثم قطعت سبعة أشواط مهرولةً بين أطراف الغابة والضفاف. ركضت حتى أنهكها التعب. جلست لتستريح فغلبها النعاس. استرخت قليلاً ثم نامت..
عند السحر، احتدمت أطواق العتمة، بيد أن المطاردين من عتاة قبائل النهر، ما انفكوا ينبشون حصى الدروب.. بحثوا عنها وراء جذوع الأشجار، وبين فروعها. مشَّطوا جوف الغابة، وأطرافها، ثم انحدروا إلى الضفاف، تسبقهم صيحات الوعيد.. وقبل أن ينجلي الظلام، عصف اليأس بخطواتهم، فقال قائدهم: لنعد إلى الديار قبيل أن يدركنا الصباح.
كانت قبسات الفجر هادئة، ونسيمٌ هين يداعب الصدور. صاح أحدهم حين لمحها نائمةً وسط حقلٍ من الزهور. استيقظت مذعورةَ وحولها المطاردون. صوبوا رماحهم إلى جسدها المتسربل بالخوف والذهول. وخزوها بأسنة الرماح، ثم غرزوها حولها يتصايحون. انتزعوها من أحضان البراءة والأحلام. حملتها السواعد الخشنة، القاسية، وعادت بها إلى أتون التوحُّش والنزيف..
قُرِعتْ الطبول، وتلاطمت صيحات الخوف.. وسط الدائرة الجهنمية، اجتاحها رعبٌ عاصف. اختلج جسدها ثم سكن. اعتصرت بكفها زهرة بنفسجية، وبعينيها أملٌ يخبو في سديم الاحتمال.
لمع النصل الساطع في كف الكاهن. جحظت العيون من هول التوقع.. بُتِرَ العضو الأنثوي النابض بالتحدي، والحنين، والظمأ المكنون.. انطلق صراخٌ وحشي، همهماتٌ وأصداء مجون.. وبينما الأسئلة تنكأ الصدور، خيَّم فوقهم صمتٌ عابر، ثم اجتاح الضفاف، حزنٌ صاعق، وشهد الموج، فصلاً من الجنون..
أفاقت من هول الواقعة. انتاشها ألمٌ فادح، ثم راودها أملٌ هش.. فركتْ الزهرة بين كفيها، ثم غطت بها عضوها النازف المبتور. رويداً نزلت قطرات من السماء. اختلط الدم بالرحيق وسال إلى النهر، وانهمر المطر..
على قوس الرجاء، سرى أنينها المكتوم.. بقرة بيضاء عند أطراف الغابة، التقطت الذبذبات الحزينة، فانحدرت إلى الضفاف.. دنت منها، لعقت جسدها بلسانها الخشن، وهي ترنو إليها بعينين مشفقتين. نهضت على ركبتيها، تلمست بأناملها ضروع البقرة. أدنت شفتيها ورضعت حتى الارتواء.. ظلَّت ترضع لسبعة أيام، حتى برئت جراحها أو كادت..
عند الظهيرة رفرفت طيور البقر. تراقصت خصلاتها الذهبية، وهي تدور في محاور لولبية، ثم حطَّت تباعاً على الضفاف. انتظمت وأحاطت بجسدٍ مثخنٍ بالهزيمة..
رفرف سربٌ من فراشات، أجنحتها سوداء وعليها خطوط صفراء. فراشتان حطتا على حلمتي نهديها المشرعان على السماء.. اختلج جسدها، أسبلت جفنيها، ثم استكانت، فسمعت رنين حروفٍ صادحةٍ في البعيد. نغمٌ فريد، يدوزن دائرة الشهود.. خارت البقرة بصوتٍ مقموع، وبعينيها أسراب الدموع. رفرفت طيور البقر. حطت الفراشات وغطت الجسد المستكين، فأبرق في المدى حداء عاشقٍ نبيل.. دارت طيور البقر في محاور لولبية، إلى الأعالي خفقت أجنحتها. الفراشات تغازل الضفاف، والبقرة ترنو إلى أفق بعيد..
نهضت العروس، كأنها سمعت صوت العاشق النبيل. أرسلت بصرها إلى الأفق الرمادي، ثم مشت وئيدةً على الطين اللين. غاصت قدماها وتخضبتا برحيق الضفاف. نقَّلت بصرها بين الطيور في محاورها اللولبية، والفراشات الهائمة. احتدمت اللحظة بالشجون حين التفتت إلى البقرة.. توهَّجت العيون، فلمع رفيف الوداعة، وأسراب الحنين.. تمهلت، وأنصتت، تهسهس بخاطرها أوتار المشهد والشهود. تواتر إيقاع الوداع، والشمس سابحة على قوس الهمود. وبينما الغمام يظلَّل الآفاق، قفزت إلى النهر، وغاصت إلى الأعماق..
هكذا تردت من القداسة إلى الامتهان، ومن ثم مخرت دروب التاريخ، تلعق أنين القهر والهزيمة.. ظلَّ حنينها الفاجع ينداح مع الموج. بعد أربعين عاماً، خرجت من الأغوار، جذبتها أنوار القمر، لتدوزن الضفاف بنزيف الأنغام..
قال الرعاة إن أبقارهم تدافعت، وتنافرت. رويداً رفعت أعناقها صوب النهر، حين تموَّجت حولهم الأنغام، وصوتٌ مترعٌ بالشجون.. إنها عروس النهر، التي عبرت الفصول والحقول، على أسنة الفجيعة.. وقيل إنها خرجت من النهر، بعد كمونها في الأعماق لأربعين عاماً، وصدحت بالألحان، في سماء بيت الودَّاعية المهجور.. وقيل إنها ظهرت عند نخلة الشاطئ، وحولها الأمهات الأول، يترنمن راقصات.. وقالت صبية من تلميذات المدارس: رأيتها جهرةً.. سوداء كظلال الغروب. شعرها مبتل بالماء، وبعينيها أسراب النحيب.. وقيل إن العاشق النبيل، امتص أنغامها مع سكون الليل، والقمر شاهدٌ أصيل.. وعند الصباح، شُوهِد هائماً على الرصيف، ثم انحدر إلى غابة السنط.. تأمل زهور اللوتس، غازله البنفسج، فانطلق بخياله، يرتاد أودية العشق، مترنماً بالنشيد..
صيفاً، والقمر يكتمل بدراً، امتشقت جسدها فوق سطح النهر، تصارع الأمواج. نثرت الرذاذ من شعرها المبتل. مروحت حول بيت الودَّاعية المهجور، وصوتها المترع بالشجون، يخلخل سكون البلدة العميق، ويمضي على الدروب.. فهل أتاك حديث القلوب؟ وهل رأيتها صاهلةً، نازفة الأنغامْ؟ وهل رأيتَ موكب الغمامْ؟
□□□
حجر السقا وضع كفه على خده وتنهد. قلَّب دفتر الأيام فتلاحقت من ذاكرته الأحداث: مباهج الصبا في ربوع الجنوب، السير وراء الأبقار ورائحة الدعاش.. وقال في نفسه: عشتُ معظم حياتي في هذه البلدة. تعلَّم أبنائي وسافروا وراء أعمالهم، وأزواجهم.. كنتُ عوناً لعشيرتي في هذه البلدة، والآن هل يخدم أبنائي بني جلدتهم، أم أن الزمان تغير، وأصبح كل فرد يعيش لنفسه ولأسرته؟ هل تعود رابطة العشيرة كما كانت؟ لقد عاش أسلافنا في ديارهم ولم يغادروها، وعندما جاء دورنا داهمتنا الحروب، فسافرنا طلباً للرزق، ولحياةٍ جديدة. رحلنا عن ديارنا وظلَّ رباط العشيرة قوياً. تبدل المكان، لكن المشاعر ظلَّت ثابتة، أو ربما تغيرت قليلاً..
تذكر أيامه الأولى في البلدة، وعمله في بئر النخلة، التي سقت الأهالي لعشرات السنين، ولما امتدت أنابيب المياه إلى البيوت، هجروها. غطوها بالأخشاب وألواح الزنك.. فهل ما زال ماؤها عذباً، سائغاً للشاربين؟ ظلَّ غارقاً في ذكرياته وزوجته بجواره، تسعل بين الحين والآخر وتناوشه بالأسئلة.. وقال في نفسه: هل سنغادر هذه البلدة نهائياً؟ وهل سنعود إلى الجنوب؟ أنا شيخٌ كبير أعيش على مساعدة أبنائي.. تبددت في حينها المكافأة التي تقاضيتها عند تقاعدي بعد ثلاثين عاماً من العمل في محطة المياه. الأبناء اقترحوا علينا الرحيل للعيش معهم في الخرطوم. زوجتي لم تتحمس للفكرة، ولكني رفضتها قبل مناقشتها. وهذه المرة طلبوا منا الحضور إلى الخرطوم لاستقبال ابنتنا ألويل، العائدة بعد سنواتٍ من الغربة.
ألويل حجر السقا عادت إلى الوطن بشوقٍ جارف لأهلها وذكرياتها. الجدة داعبت حفيديها وسألت ابنتها: هل يعرفون لغتنا؟ ابتسمت ألويل ثم أجابت: إنهما يتحدثان الإنجليزية.. ثم أضافت: لغة أبيهم. واصلت الجدة مداعبة حفيديها وقالت: هل ستعيشين كل حياتك في الغربة!؟ ألا يكفي يا بنتي؟ أجابت ألويل بمرح: لن تطول غيبتي، سأزوركم كل عام.. ولكن متى سترحلون لتسكنوا هنا في الخرطوم؟ تنحنح حجر السقا وقال بصوتٍ ضعيف: نحن سنعيش في البلدة، ليس لدينا مكانٌ آخر.. إخوانك يأتون إلينا في الأعياد والعطلات. لقد تعودنا العيش هناك، والمصاريف التي ترسلونها لنا تكفينا.. واصلت ألويل حديث الذكريات مع أسرتها بينما إيقاع الغربة ما زال ساريا في نبضها. جابت وجدانها أشواط من الأسئلة الحائرة، وتواترت الذكريات.. في مطار هيثرو قالت لزوجها: لن أمكث في السودان أكثر من شهر.. جون سميث أشار إلى طفليهما قائلاً: أرجو أن يتعرفا أكثر على أهلهما وبلدهما.. هوية أطفالها سؤال ما انفك يؤرقها.. إنهم منبتون عن لغة أهلهم، وعن ذاكرتهم الروحية، وأرواح الأسلاف والعشيرة.. هكذا حدثت نفسها في قلب الخرطوم، حين أوقفت سيارتها على جانب الطريق.. ومن وراء الزجاج شاهدت الشماسة يتعاركون.. فتحت الزجاج فامتدت لها يدٌ صغيرة تطلب الطعام. ارتبكت وأغلقت الزجاج، ثم عادت وفتحته ورمت بحفنة من الجنيهات، ثم أغلقته مرةً ثانية.. تحلق الشماسة حول السيارة.. من وراء الزجاج ألقت عليهم نظرة مضطربة.. هربت ببصرها بعيداً، وانطلقت بسيارتها مسرعة..
هل ندمت على ما فعلت؟
من يدري؟
وبينما السيارة تشقُّ قلب المدينة الموبوءة بالغبار والمسغبة، تذكرت أصيلاً حزيناً على شاطئ نهر البلدة.. وقالت في نفسها: محجوب السر ما زال في السجن.. لم أذهب لزيارته في العامين الماضيين. ماذا أقول لأمه؟ وهل ما زالت في البلدة؟
في طريقها إلى البلدة ظلَّ دماغها يفحُّ بالأسئلة الحائرة. هل تبدلت مواقفها تجاه الإنسان؟ وهل نعيش قناعات ظاهرية، بينما يعتمل في صدورنا حب الذات والشهوات، دون إحساس حقيقي بمآسي الآخرين وكوارثهم؟ وكيف يمكن التوفيق بين الذات ورغباتها، والآخرين وحقوقهم؟ وقالت في نفسها: قناعتي لم تكن جوفاء، إنني أمتلك رصيداً من العمل الإنساني، وتجارب متعددة.. هل تبخر كل هذا!؟ أنا الآن أكاد لا أرى الفقر ولا الفقراء، كأنني لم أعش بينهم يوماً ما!؟
هل انطمست مشاعرها المتدفقة، واللهفة للعمل من أجل المعدمين!؟ وهل يستطيع الإنسان تحييد ذكرياته، أم إنه يتملص منها، ويمضي في حياته الجديدة، زاعماً لنفسه إنه سعيد؟ وأين تكمن السعادة إن وجدت!؟
وصلت البلدة والسؤال يلاحقها.. هل خانت ذاكرتها؟ مرَّ بجوارها طفل حافي القدمين فتذكرت ملوال، وقالت في نفسها: لم أعثر على من يدلني عليه. هل عاد إلى الوطن؟ وكأنها لمحت قنبور يسبح بعيداً إلى غور النهر، ويلوِّح بيديه الصغيرتين. كانت ابتسامته تضيءُ المدى، وعلى شفتيه سؤالٌ حائر..
على الشاطئ ابتسمت، حين عبرت بخاطرها حكاية ساحرة الماء، المتواترة في أسمار البلدة، وأحاديثها.. دندنت بلحنٍ حزين وخطواتها وئيدةً على الرمال، بينما طفلاها يتراكضان حولها ويلهوان بالماء. وقالت في نفسها: غريبان هنا، وغريبان هنالك في لندن، فهل سيكابدان الغربة طوال حياتهما!؟ انزلقت ذاكرتها إلى الطفولة، وحكايات الأم عن يرول الجميلة، التي قدمت نفسها قرباناً للماء.. غاصت عميقاً في شجنٍ روحي حميم، كأنها تبحث عن ذاكرةٍ مفقودة.. حاصرتها الأسئلة عن دورها في انتشال البؤساء من درك الفاقة؟ وقالت في نفسها: مَنْ يقدم الفداء لأهلنا في الجنوب؟ ترقرق إلى وجدانها صوت أمها في ذلك المساء المطير. اختلج وجدان الأم حين قالت بصوتها الحنون: عشنا الطفولة والصبا في ربوع الجنوب، حول البحيرة الكبيرة. الأسماك وفيرة، والثمار دانية. أرواح الأسلاف تأكل من طعامنا، وتسدد خطانا.. حدثونا عن طقوس الفداء، يوم فاضت البئر، وأضحت بحيرةً كبيرة..
قيل كانت الأرض خضراء، وسطها بئر يشربون منها، ويسقون أبقارهم.. وذات صيفٍ قائظ، جفت البئر وخيم الجفاف. دوختهم المسغبة فهاموا وسط الأشجار اليابسة. لا سحابةٌ تعبر فوقهم تبشرهم بالأمل، ولا رائحة الدعاش.. الشمس تشوي الدروب، وجلود الرازحين تحت هيمنة المجهول.. طوقتهم الحيرة، ثم انحدروا إلى قيعان القنوط.. وحين انقطع حبل أملهم، أو كاد، انبعث صوتٌ من قعر البئر الجافة. سمعته امرأة مهرولة، بحثاً عن قطرة ماء لطفلها الباكي.. ارتبكت خطواتها فترنحت، كادت أن تسقط، لكن الصوت أعاد إليها اتزانها.. أصاخت السمع فانبعث الصوت من قعر البئر!! هل تحدث قومها بما سمعت؟ وهل يصدقون؟ قيل إن الصوت انبعث مع أنفاس الصباح، سمعته فتاة كانت تحاول أن تحلب بقرتها العجفاء.. وقالوا إن الصوت سُمِعَ بوضوح عند الضحى، عندما مرَّ فتيانٌ يتداولون في أمر الرحيل، طلباً للنجاة.. تضاربت أقوالهم، ثم تنادوا، واجتمعوا حول البئر الجافة، يلمع في عيونهم الأمل، وتراوح خطواتهم بين اليأس والرجاء. كانت السماء صافية، والأفقُ عارٍ إلا من غبارٍ بعيد.. هل ينبعث الصوت؟ وماذا يقول؟ صمتٌ وتوجسٌ وترقبٌ مهيب.. انبعث الصوت من قعر البئر!! فهل سمعوا!؟ أم إنها الأمنيات والأحلام؟ صوتٌ صادحٌ، وصرخةٌ عاتية، فخروا ساجدين، من هول ما يسمعون:
يرول جميلة الجميلات.. البتول اليانعة، فداءً لكم ولأبقاركم. قدموا يرول الجميلة قرباناً، حتى يفيض الماء، وتخضر الحقول، وتجود الأبقار من لبنها، ولحومها، وجلودها.. يرول القربان، فداءً للإنسان..
أقبلوا على بعضهم يتهامسون.. تلفتوا بحثاً عنها، فتقدمت إلى وسطهم في أوج الأنوثة والنداء. سامقةً فتية.. فهل سمعت الصوت الذي ناداها، وطلبها قرباناً للماء!؟ هل ترفض، أم تقبل؟ وهل سينجو قومها بعد الفداء؟ انحدرت الشمس نحو المغيب، والجموع خاشعة، تحت وطأة الترقب العصيب..
لا أحد منكم سينجو، ستهلك القطعان والأشجار.. يرول الجميلة هي أملكم الوحيد في النجاة.. هل انبعث الصوت من قعر البئر محذراً، أم لعلهم يتوهمون!؟ وأقبلوا على بعضهم يتجادلون. قال كبيرهم: ماذا أنتم فاعلون؟ قال والد الفتاة: فلنذبح بقرةً بيضاء، قرباناً للماء.. فلنذبح بقرة، ولننظر هل يقبل الفداء؟ قالها أهل الفتاة، وعشيرتها الأقربون.. أحضروا بقرةً بيضاء. قُرِعَتْ الطبول وسالت الدماء. ابتهلوا كي يقبل الفداء.. انتظروا لأيامٍ يترقبون السماء.. فمتى تلوح تباشير الخلاص، وينزل المطر، أو يترقرق في قعر البئر الماء. حاصرهم العطش واقتربت ساعة الهلاك. فلجؤوا إلى كبيرهم فقال لهم: استشروها علَّها تقبل.. قال بعضهم بل نحملها إلى البئر، فالصوت كان واضحاً وحاسما. إما أن نقدمها قرباناً للماء، أو نهلك جميعاً، وتذهب ريحنا. فلتقرع الطبول، وليبدأ الغناء.. لكنها فاجأتهم حين انسلت من مكمنها ساطعة الجبين. التفوا حولها والخوف يلمع في العيون.. قالت لهم: سأقدم نفسي فداءً لكم أجمعين.. قرعوا الطبول، ودهنوا جسدها بالزيوت العطرية، زينوها بالسكسك وأساور النحاس، وريش النعام.. عاريةً إلا من إزارٍ في وسطها تقدمت الجموع. رويداً اتسقت أصواتهم وهم ينشدون.. تموجت الأجساد راقصةً، وانطلقت الصرخات إلى الفضاءات القاحلة، في انتظار الخلاص. كانت الظهيرة ساطعة، ويرول الجميلة تتقدم الجموع.. أيَّةُ أحلامٍ طافت بخيالها؟ أيَّةُ ذكرياتٍ تنبض الآن في صدرها؟ هل اضطربت خطواتها خوفاً من المجهول؟ هل لمعت بخيالها بيارق النجاة؟ أم خفق صدرها اتساقاً مع القدر المحتوم؟ ارتعشت حين انبعث صوتها من أعماق اللهفة، والحنين. انبعث صوتها شوقاً لمرفأ أمين.. أجهشت بالغناء، فاتسقت خطواتها مع إيقاعات الطبول، وأمواج الراقصين.. هادرةٌ بالتمني خفق صدرها، صادحةٌ بالنغم المكنون.. فهل عبر بخاطرها طيفُ عاشقٍ نبيل؟
رويداً توقفت الخطوات، ثم أحاطت بالبئر الجافة. رويداً خَفَتَ الإيقاع.. حلَّ الصمت واشتعل الترقب في الصدور. الخوف والرجاء، يتراقصان في العيون. جفت الحلوق حين تقدمت، فهل انبعث بصدرها نداء القبول؟
كالأحلام، كطيفٍ عابر، شاهدوا جسدها السامق يهوي إلى قاع البئر، فاشتعل في المدى وميض البروق، ولم يلبث أن قصفت الرعود، وانهمر المطر..
□□□
بالمئات والألوف تقاطروا من أنحاء العاصمة المثلثة، ومن الأرياف المجاورة، من المدن والبلدات.. مئات الألوف نقلتهم الحافلات والشاحنات. أكثر من ثلاثة ملايين مواطن احتشدوا في ميدان الساحة الخضراء، لاستقبال الزعيم، الذي قاد الحرب ضد الحكومة المركزية لأكثر من عشرين عاماً، ثم جنح للسلم بعدما ضمن حق تقرير المصير لمواطني الجنوب في إنشاء دولةٍ مستقلة، أو العيش في وطنٍ واحد يسوده العدل والسلام..
احتشدوا يحدوهم الأمل في غدٍ مشرق، بعدما اقتلعتهم الحروب والأوبئة من جذورهم التاريخية. عصفت بهم الفاقة، ودوختهم المسغبة في رحلتهم إلى عاصمة البلاد.. احتشدوا بالملايين أملاً في أنْ يحقق لهم السلام بعضاً من ضرورات الحياة، في مدينةٍ يطحنها الفساد.
في الساحة الخضراء تراكمت الحشود، وتصاعد الغبار. حجر السقا وصل من البلدة لاستقبال الزعيم. صار نحيلاً واهن العظم. طوته الأمواج البشرية الهادرة، وأبناؤه من حوله يكررون رجاءاتهم كي يعود إلى المنزل. قال لهم بنبرةٍ قاطعة: لقد حضرت من البلدة لاستقبال الزعيم، سأتحمل المشاق، ولن أعود خالي الوفاض.. احتمل الانتظار لساعاتٍ مرهقة، يشدُّ عزيمته الأمل، والشوق، والرجاء. وحين أطل الزعيم على الحشود الطاغية، غمرهم إحساس بالطمأنينة، بعد سنواتٍ عسيرة، كابدوا فيها ويلات الحروب، وغربة الديار واللسان.
عاد حجر السقا إلى البلدة وبصدره تفتقت براعم الأمل. غازلت وجدانه ذكريات الشباب، حيث أبقار القبيلة، ترعى وسط الحقول الخصيبة، والأكواخ المتناثرة عامرة بالرضا. وقال في نفسه: حارب من أجلنا، نحن أهالي الجنوب، حارب من أجل المحرومين، وأتى بالسلام من أجل أهل البلاد أجمعين. لقد ظللت دوماً مقتنعاً بأنَّ السلام هو الطريق الصحيح، لكن الظلم يقطع الطريق لرؤية الحق، ويدفع الناس إلى التناحر. من حقنا الآن أنْ نحلم بالصحة والتعليم، في الأحراش والمستنقعات. ومن واجبنا أنْ نطالب بمياه الشرب النقية، وعلاج المرضى. ستمتحن الأيام أقوال القادة، والزعيم الحق يفي بوعده.
حجر السقا أمضى ثلاثة أسابيع في البلدة، يحكي لأصحابه وعشيرته تفاصيل الاستقبال الأسطوري، والأماني المحتشدة في صدور الملايين، والأمل في العدل والمساواة.. حتى تواترت أنباء عن حادثٍ تعرض له الزعيم.. قيل إنَّ طائرته المروحية تحطمت وهو عائدٌ من زيارةٍ لدولة مجاورة. ظلت الأعصاب مشدودة، والصدور خافقة.. الملايين الذين احتشدوا للاستقبال، وملايين أخرى في طول البلاد وعرضها، في المنافي والشتات، ظلوا يلتقطون الأخبار من المحطات الأجنبية، بينما صمتت إذاعة الدولة في أم درمان.
بعد ليلةٍ من الأرق، والحيرة، والقلق، استيقظ باكراً. وحين أكدت إذاعة الدولة خبر مصرع الزعيم، داهمه حزنٌ كاسح، ثم طوته دوامة من الذهول. ظلَّ جالساً على عنقريب قصير، غارقاً في صمتٍ حزين. تقاطر إلى منزله الجيران، وأبناء العشيرة، والأصدقاء. حزنٌ صاعقٌ خيم فوق الجميع..
وكان نهار الفجيعة، والحزن، والمأساة.. وقت الضحى تواترت أنباء عن حرائق ومجازر تجري في الخرطوم. تضاربت الأنباء عن طبيعة ما يحدث هناك. ظلت شبكات الاتصالات الهاتفية معطلة منذ الثامنة صباحاً. بعض المسافرين على طريق الإسفلت قالوا إنَّ الحرائق اشتعلت في كل أنحاء العاصمة، وإنَّ المستشفيات استقبلت عشرات الجثث.
عندما أعلنت إذاعة الدولة خبر مصرع الزعيم، اجتاحت العاصمة حالة من الغضب، والفوضى والرعب. اندلعت الحرائق في المحال التجارية وقُتِلَ عدد من المواطنين. ظلت الجموع تركض، والسيارات تولي هاربة، والحرائق تشتعل. جماعاتٌ غاضبةٌ وضعت المتاريس واشعلت الحرائق. قتلت، ودمرت، وجابت الطرقات. امرأةٌ شابة احتمت مع طفليها داخل متجرٍ صغير فأشعلوا فيه النيران!!
لزمت مؤسسات الدولة، والأجهزة الأمنية صمتاً مريباً. وفي اليوم التالي، قادت القوات النظامية حملةً شرسة، قتلت فيها المئات من مواطني الجنوب، حتى تناثرت الجثث في مجاري الأمطار. شابٌ نحيلٌ خرج من كوخه ليشتري خبزاً لعياله، فأطلقوا عليه الرصاص!!
حجر السقا مكث في داره لا يبرحها.. ما انقطع الزوار، ولا توقفت حديثهم حول الزعيم، والأحداث الدامية التي أعقبت رحيله الفاجع. ظلَّت الأسئلة حائرة في العقول: هل كان سوء الأحوال الجوية سبباً في سقوط طائرته؟ أم اغتالته الأيدي الخفية؟ ومَنْ خطط ودبر ونفذ!؟ هل هي قوىً محلية، أم إقليمية، أم دولية!؟
حزيناً غادر حجر السقا داره وقصد النهر. على مهلٍ تمشى على الرصيف إلى حلة فلاته. قلَّب في دماغه تفاصيل الأسابيع الأخيرة، وأحلام الملايين التي داهمتها المأساة. وقال في نفسه: هل ستبدد الأيام أحلام الملايين، وأشواقها، وحقها في العدل والسلام!؟ تنهَّد عميقاً وهو يرنو إلى العجوز يتوكأ على عصاه في طريقه إلى النهر.
عند الضحى وقف العجوز على حافة الماء، مترقباً وصول الهدهد، الذي واصل تحليقه فوق سماء البلدة، يعتصره الحزن، وتعصف بدماغه الأحداث المرعبة، التي شاهدها أثناء جولاته وسط خرائب الديار، في غرب الوطن. ثمَّ عاد بطرفٍ من أهوال الفاجعة..
ما حدث في دارفور كان عاصفاً، ومروِّعاً، وفضائحياً.. هل يطلبون ثاراً، أم أنها تجليات الانتقام الفادح؟ أم لعلها حربٌ عبثيةٌ هكذا لوجه الخراب!؟ صوَّره البعض على أنه صراعٌ على الموارد بين قبائل رعوية وأخرى زراعية، بعد موجات الجفاف والتصحر التي ضربت الإقليم في السنوات الأخيرة.
طار الهدهد فوق الجميزات، ثمَّ دار سبع مرات حول نخلة الشاطئ. عاد إلى غابة السنط ثمَّ حطَّ على الضفاف، عند قدمي العجوز قبالة حلة فلاتة. أرسل العجوز نظراتٍ عميقة إلى مياه النهر الساكن. أنصت لحكايات الرعب، والدمار، التي اجتاحت القرى والفرقان:
فجراً استيقظت صبيةٌ نحيلةٌ على صوت هديرٍ في الجو، وبعد ثوانٍ تساقطت كراتٍ ضخمة من اللهب. اشتعلت الحرائق في بيوت القش، ودب الهلع والفوضى، والصراخ والأنين. نساءٌ ثكالى وأطفالٌ يتشنجون من هول الفاجعة. الصبية النحيلة طوقها الهدير والصراخ، وأشلاء الضحايا والدماء، فاختبأت وراء حائط قصير. شهدت الحرائق تلتهم البيوت، والخيول تجتاح الأجساد. الرصاص يلعلع، والدماء تخضب الثرى.. خلال ساعات اكتملت دورة من الخراب الصاعق. همدت النيران وما تزال بؤر الدخان تتصاعد هنا وهناك.
بخطواتٍ مرتجفة سارت الصبية وسط أكوام الرماد، وأشلاء الضحايا. شهقت، غطت وجهها بكفيها فتسللت إلى أنفها رائحة اللحم الآدمي المشوي.. ترنحت وحيدةً، حائرة الخطى وسط الرعب والأحزان. وقالت في نفسها: هل سيأتي أحدٌ لنجدتي؟ ومن أين؟ هذا الفضاء يحيطه الأعداء فإلى أين المفر!؟ تذكرتْ حينما كانت تخرج إلى المرعى مع رفاقها الصبيان، فسالت على خديها دمعتان، وقالت في نفسها: هؤلاء الفرسان على صهوات الخيول، لماذا يقتلون، ويحرقون!؟ أين أهلهم وأطفالهم؟ وعندما مالت الشمس صوب المغيب، كانت دموعها قد جفَّت على مآقيها، وصدرها هادرٌ بالنشيج والسؤال: إلى أين المفر!؟
عند الصباح دبَّ في جسدها بعض النشاط، بعد ليلةٍ كابدت فيها كوابيس الرعب. وجدت قربها بقايا زيرٍ مكسور، في قعره قليلٌ من الماء. شربت جرعتين فهاجمها الجوع بشراسة. بعد تجوالٍ قصير، وجدت كسرة من الخبز وسط عظامٍ آدميةٍ محترقة. حين التقطتها وقربتها من فمها تسللت إلى أنفها رائحة الشواء.. طوتها الحيرة طوال النهار، وعندما زحفت طلائع الظلام من الشرق، كانت على شفير الذهول، تجوس بصدرها رائحة الشواء، وترنو بعينين دامعتين إلى أفق مريب!! مرةً ثانية كابدت ليلاً ثقيلاً، ومع نسمات الصباح الأولى بدأت مسيرتها صوب المجهول. أنهك خطواتها الجوع، والخوف، والشمس الحارقة. عند الظهيرة سقطت مغشياً عليها، وحامت حولها الصقور.
شيخٌ على ظهر بعيره شاهد الصقور تحلق فلمعت فكرةٌ في دماغه. أوقف البعير، مشَّط المدى وبعينيه ازدحمت الحسرات.. قبل أيام عاد الشيخ إلى قريته الصغيرة. في الطريق ظلَّ يمني نفسه بلقاء زوجته وأحفاده، وقد حمل لهم الحلوى والبسكويت، بعد رحلةٍ قصيرةٍ لمدينةٍ قريبة. قبيل الفجر كانت الظلمة صافية، والنجوم تلمع في السماء. وبينما هو سارحٌ في أمانيه، سمع هديراً في الجو. تلجلج البعير وحاول أنْ يغير اتجاه السير، ثمَّ توقف حين لمعت شعلة الحريق. شاهد الشيخ كتلةً من اللهب تنهال فوق القرية، وطائرةً تعبر مسرعة فوق رأسه، ثمَّ تبعتها عدد من الطائرات، تقذف كتل اللهب على البيوت. دارت الطائرات عدة مرات وأمطرت القرية بوابلٍ من كتل اللهب. وعندما لاحت تباشير الصباح، أناخ بعيره وظل يتابع المشهد المروع. قريته تحترق، يطوقها فرسان على ظهور الخيول، يقتلون كلَّ هاربٍ من الحريق. لم يصدق عينيه، وتحسَّر لأنه لا يحمل سلاحاً، وقال في نفسه: ما ذنب الأطفال والنساء، لقد غادر شبابنا القرى، طلباً للرزق في المدن القريبة والبعيدة، وفي بلاد الغربة..
جلس على الرمال تعصف به زلزلة الحدث،. لمعت بذاكرته صورٌ قديمة، كان حينها صبياً يحمل إبريقاً لصب الماء لغسل أيادي الضيوف. ظلت صنوج النحاس ترنُّ، وهدير الطبول يمضي إلى الفضاءات الشاسعة. نحروا الإبل والثيران والأغنام. كان خلقٌ عظيم من أبناء القبيلة قد اجتمع من القرى والفرقان المبثوثة في الوديان، وعلى حواف الصحارى. افترش الجميع الرمال، وسطهم جلس ناظر القبيلة، وإلى جانبه ناظر قبيلةٍ مجاورة. تمَّ الصلح والاتفاق على دفع الدية لأهالي الضحايا من الجانبين، كما تقضي التقاليد. وفي ختام الجلسة، رفعوا أكفهم وقرؤوا الفاتحة. ضربت الدفوف والنحاس، ثمَّ سارت الخيول والنوق في وداع ناظر القبيلة المجاورة ورفاقه.
عندما ارتفعت الشمس إلى الضحى، دخل الشيخ قريته المحترقة. وقف وسط الأشلاء البشرية المحترقة، المتناثرة وسط رماد البيوت. اجتاحه سيلٌ من الحزن والغثيان، ثم غادر القرية على شفير الهذيان. أوقف البعير والتفت إلى الوراء، احتقن بصدره السؤال، وهو يرنو إلى بقايا الدخان المتصاعد من ركام القرية، التي عاشت وادعة، حتى داهمها الخراب..
سار الشيخ على بعيره يوماً وليلة. وحين شاهد الصقور تحلِّق، غير وجهته حتى وصل إلى الصبية الممددة على الرمال. بللَّ قطعة من القماش ووضعها على شفتيها. كرر محاولته حتى فتحت الصبية عينيها لبرهةٍ ثم أغمضتهما. أخرج من جرابه بقايا دقيق خلطه بالماء في إناءٍ صغير، ثمَّ أدناه من فمها. وحين أفاقت، نظرت إليه وبعينيها الخوف والرجاء. أسرج بعيره، حمل الصبية وضرب في متاهة الصحراء، يرنو إلى أفقٍ غريب.
□□□
من بؤرة العتمة، ومن أغوار النهر، نهضت فوق سطح الماء، تشدُّها أقواس الحنين، ونبال الألحان المنداحة من الأعماق. حيث رنين الربابة يدوزن الأحلام، والشوق، والتمني..
من بين الظلمات، تسلل الغناء الفاجع المرير، وفي سماء البلدة، صدحت أنغام الروح.. مريم بدر الدين تراود الأماني، وندى الليل ينز بالأغاني، بنشوة الوصال.. النسمات ترهف آذانها وتمصَّ رحيق الأحلام.. في تلك الليلة، واصل العاشق النبيل الغناء، متسربلاً بالحزن والأمل القديم. استل عصب التوقع من نزيف الواقعة. نسج شرايين الانتظار ضفيرةً للصبر، والتمني.. لكن طيفها تلوَّج بخاطره، برقاً فادحاً، أملاً تبدد في سويداء المحال. وكأنه أبصرها، في العتمة الضارية، جوار بيت الودَّاعية المهجور، تغني، فيرتعش الحنين على الضفاف.. تغني على أنغام الربابة السارية مع الموج، تدوزن الأوتار الساحرة، التي غازلتها الشموس.. إنها أوتار النهر، التي غمرت الضفاف، من فيض الأحلام.. فاستعارها الشيخ الشاعر، ليدوزن بها نبضات العشق والهيام..
تأرجحت الربابة على سطح النهر، هدهدها موجٌ هين، ودم الشيخ المقتول، يسربل همسات الليل. يعتق الدروب. كان الشيخ.. ((يمشي في حوشه، ويحضر البنات والعرائس والعرسان للرقيص ويضرب الربابة، كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون، وتذهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات، حتى إن الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أحد يضربها1)).. على شاطئ أليس، وفي وضح النهار، اغتالوه.. ثم قذفوا ربابته إلى النهر. هدهدها موجٌ هين ثم غاصت إلى الأعماق..
اكتمل القمر بدرا، وفاض رحيق الضفاف.. مريم بدر الدين غادرت الرمال وانحدرت إلى الخور. غاصت في الطين المخضب بالرحيق. الجسد الليَّن تغطى بالطين، وانسكبت عليه أنوار القمر.. قبيل الشروق هبط النحل من أعالي الجميزات، وحام حول الجسد النابض بالوعد. رويداً تغطى كامل الجسد بالنحل.. بقرةٌ بيضاء انحدرت من القوز الشرقي، وجاءت لميقات. انتظرت حتى انتهى النحل من مهمته، ثم لعقت الجسد المخضب بالشهد..
تنفس الصبح فنهضت بتولاً كاملة الجسد، فهل التأمت جراحها القديمة!؟ الهدهد رآها على الضفاف، تسكب نشيج الروح، وتغني، تسربلها الظنون.. وحين رفرف وهناً، وداعب بمنقاره المياه، أبصرها تعاند خفقان الموج، ثم نزلت إلى النهر، وغاصت إلى الأعماق..
عند السحر، ظهرت فوق سطح النهر. دهمتها أمواج التردد، ظمأ الروح، رعشة الوجدان والجسد الجموح.. نبشت رماد الذكريات، ومن ثم نهضت على قوس الحنين.. على قارعة التمني، تأودت على الرمال، فانطلقت أنغامها الفريدة، ارتعشت أوتار صوتها تداعب الخلود. اكتمل جسدها فانكسرت القيود، وبريق النصل الساطع والحدود..
على صهوة النشوة، نهضت من رميم الارتباك.. وتحت نور القمر، انجذب إليها العاشق النبيل. دوَّخه عطرها الباذخ، والطقس النازف بالألحان. اقترب منها فاحتوته، فانغمس في أتون النشوة.. وعند الصباح، شُوهِد على الضفاف، يهذي بكلمات الغرام..
تداول الأهالي حكاياتها بين مصدقٍ ومكذب. بعضهم أكد أنه شاهدها بأم عينيه!! وقيل بل هي ساحرة الماء، تغني ليلاً، في سماء بيت الودَّاعية المهجور. وقال آخرون: إنها محض خيال، لأن مريم الطبيبة هاجرت من البلاد قبل سنوات. أما ساحرة الماء، فلا توجد إلا في حكايات الأطفال.. تضاربت أقوالهم وفرحٌ غامض يلمع في عيون بعضهم..
ليلاً، دوزنت إيقاعاتها مع نغمات الربابة الساحرة، النابضة في الأغوار. على الشاطئ، قبالة بيت الودَّاعية المهجور، هاجمها بخيت التمساح، انتاش خاصرتها بمخالبه، ثم غاص إلى الأعماق..
على الرمال ترنمت، وطير دمها يصيح، كجرسٍ في الريحْ2.. واجفة الفؤاد تغني، حالمة الرؤى، رغم الآلام تغني، من خصرها الجريح. قطراتٌ على الرمال، وطير دمها يصيح، كجرسٍ في الريحْ..
الأنغام الساحرة تصعد من الأعماق إلى السطح الساجي تحت أنوار القمر.. في جوف السحر، انحدر الرعاة من ربوة الوفاء. نزفت مزاميرهم شجناً، بينما الأمهات الأول يتمايلن منشدات:
يا مريم الجريحة
جئنا إليك
من مغارةٍ مقدسة
في جبل البركل المهيب
جئناك بسر السر
بعطر الفجر والطيوب
يا سليلة الأنهار
والشموس
يا واحةً
في غيهب الدروب
المزاميرُ والرنين، اشتعلت ضياءاً شفيفاً، بريق الكريستال التف حول خصرها الرهيف، فالتأمت جراحها، أو كادت.. انهمرت ألحان غنائها الفاجع المرير.. ارتعشت مدارات النشوة. رقصت أفعى، تأودت على الرمال، ثم تثنت فوق الماء، فتزلزل في الأعماق، بخيت التمساح.. حاول الاختباء بين طين الجزر، لاحقته الألحان السارية مع التيار. النغمات الساحرة تطارد الشراسة، وشهوة الدم.. ارتجَّ بخيت في بؤرة الألحان، عصف به الدوار. منهوك القوى، هرب من الأعماق، باحثاً عن ملاذٍ في جوف الغابة.. مذعوراً ترنَّح على الضفاف، مدحوراً تكوَّم في حفرةٍ صغيرة، والفجر شاهدٌ أصيل.. بينما سليلة الأنهار الشموس، عند نخلة الشاطئ، نازفة الوجدان تغني.. كجرسٍ في الريحْ، طيرُ دمها يصيح..
من بساتين الخيال اليانعة، من بذرةِ الخصوبة، دنت فتدلت.. كان أول المساء، حين تدلت من ضفاف الأحلام، إلى رصيف النهر.. مشت بخطواتها الرزينة على التراب، عبرت ميدان الكرة إلى الدار الخراب. عشرات السنوات انقضت من عمرها، منذ الطفولة الباهرة، والصبا اليانع، ثم الأمل والانتظار.. على دروب الأحزان مضت أيامها.. رحل أخواها، ثم أمها وأبوها.. وها هي وحيدة القلب والخطى، وسط خرائب الديار.. الحائط الطيني المطل على النهر، اندرس أو كاد.. من فوق كتل الحيطان المنهارة، دخلت إلى حجرة ميلادها.. النافذة الخشبية ما تزال في مكانها. أنفاس الأمومة ما انفكت تراود الحيطان.. لفحت وجدانها ألسنة الحنين، ثم انداح خيالها صوب غيوم التمني. فهل سمعت صوت المؤذن الرخيم في ذلك الفجر البعيد!؟ حجرة الحبوبة كومةٌ من التراب صعدت فوقها وتطلعت إلى النهر. غازلت وجدانها أطياف الاحتمال، فهل عبرت من هنا أقدام عاشق نبيل؟ تفحصت الحيطان المتهالكة، كأنها تراها للمرة الأولى!! فهل عاشت هنا حقاً!؟ أم أنه صلصال الأحلام!؟ دارت حول البئر المهجورة، ثم استراحت على جذع النخلة المقطوع، جوار الحائط المتصدع. خنقتها العبرات، بيد أن الدموع احتبست في مآقيها..
وسط الخرائب، نمت أشجارٌ شوكية، لتمنح الدار بعض أنفاس الحياة.. ستة أيامٍ وهي تدور حول البئر المهجورة، ثم تستريح على الجذع المقطوع. تهدهد وجدانها أغنيات الصبا، وأمنيات الشباب.. ستة أيام تمضي على إيقاعٍ رتيب، وعلى أفقٍ قريب، ينبض ميقات.. هوَّمت بين الحجرات تفتش عن أنفاسها القديمة، عن نغمٍ عنيد، تضمه الضلوع.. حاولت التسلل إلى أغوار النفس، فتنهدت فيما يشبه الحسرة.. وفي البعيد، صدحت الربابة بنغماتها الساحرة، فهل سمعت النداء والنشيد!؟
في اليوم السابع اكتمل القمر بدراً. الأنوار ساجية على سطح النهر.. خطواتها على نسق التوقع، وصدرها خافقٌ بالاحتمال.. عند البئر توقفت، ثم أزاحت الخشب والزنك عن فوهتها، فتصاعد الهواء المحبوس، وتسللت الأنوار تبدد مفاصل الظلمات الرابضة على الجدران. استراحت على الجذع، متأهبةً للمشهد العظيم.. هرولت سبعة أشواط بين حجرة ميلادها والبئر، ثم وقفت على حافتها الإسمنتية.. وشوش أذنيها صوت الحبوبة المبحوح، وهي تحكي عن ساحرة الماء، فجنح خيالها إلى الطفولة اليانعة.. زغردت الأشواق، وعطر التمني يفوح من قعر المياه.. تطلعت شرقاً، إلى نجيماتٍ تزين الآفاق، ثم تأملت القمر السابح في زرقةٍ قاتمة. عطر التمني يفوح، أنفاسها ساجية، وبذاكرتها تبرق الأطياف: وجه أمها عند الصباح، أبوها يحكم ربط عمامته قبل أن يغادر الدار.. طارق بدر الدين في طريقه إلى النهر، يوم أن ودَّعها، بعد أن أودعها بقيةً من رحيق الأخوة، بينما عينا عاصم بدر الدين، تنمَّان عن ألمٍ دفين..
على أفقِ الصهيل، احتدمت الشجون. ثمة رجاء في رئة البتول. رنينُ حروفٍ، نداءٌ أصيل. على صهوة الرحيل، عربدت الرياح، أشرعة النواح، ورعشة القبول..
مع الشروق حلق الهدهد حول البئر، كأنه سمع أنينها المكتوم.. حطَّ على الجذع المقطوع تصفعه الحيرة: هل انزلقت إلى البئر، أم عادت إلى أغوار النهر!؟
عشرات الصبايا تحلَّقن حول البئر. عشرات التلميذات غادرن مقاعد الدراسة، بعدما سرت بينهن حكاية مريم بدر الدين.. عشرات الصبايا الحائرات في الرداء المدرسي بلونه النيلي، يتبرعم في صدورهن السؤال.. الفراشات بأجنحتها السوداء وخطوطها الصفراء حلقت فوق رؤوسهن، ثم دارت حول البئر.. عشرات التلميذات، والفراشات، والأسئلة، وأطياف السهوم..
□□□
محجوب السر انحدر من سارية الطموح إلى أنشوطة الردى، كطائرٍ عجوز، يرفرف وهناً، في طريقة إلى الأمان المستحيل. غادر أسوار السجن بخطواتٍ مضطربة. كانت في استقباله ألويل حجر السقا. مدت يمناها فضجَّ بالحنين، وسرت تحت جلده ململة الحزن والارتباك.. صافحها مبتسماً وقال لها إنه سيغادر إلى أمستردام لأمرٍ مهم وعاجل. فهل كانت نبرات صوتها محايدةً حين قالت: ومتى ستعود إلى البلد؟ أجابها بعد صمتٍ حامض: لست أدري؟ ثم استدرك قائلاً: سأخبرك في الوقت المناسب.. أشاح بوجهه ولاذ بالصمت. فقالت في نفسها: هل سيعود إلى الوطن مهزوماً كسير الجناح؟ وكأنه قرأ ما يجول بخاطرها، فقال في نفسه: هل خانت ذاكرة الضفاف والغروب!؟
وحيداً وصل إلى محطة فكتوريا في طريقه إلى هولندا، وقال في نفسه: أمي، هل مازالت في انتظاري!؟ وحين تحرك القطار، ازدحمت بوجدانه اللحظات الحميمة مع سارة أبراهام.. هل كانت صائبة حين دعته، وألحت في الرجاء، ليبقى معها في أمستردام؟ هرب بنظراته عبر النافذة. زاهيةً كانت زهور الربيع، والحقول يانعة. تململ على مقعده محاولاً اقتناص لحظةٍ ما. راوغ ذاكرته ثم انفلت هارباً بين طيات الخيال، بيد أن السؤال ما انفك يلاحقه.. عبر الليل يمضي القطار فتنطلق الأفكار الحبيسة:
لم أطلب المستحيل. طلبت العدل ولم أدركه! ولكن سيأتي يوم وينتصر الفقراء. إن ما فعلناه كان لبنة في صرح الحرية. خسرنا جولة، وقد نخسر جولات، ولكني لن أكف عن المحاولة ما دمت على قيد الحياة. هل اخترنا الوسائل الخطأ لبلوغ الغايات الصحاح؟ ربما.. خلال شهر واحد يجب عليَّ المثول أمام المحكمة في أمستردام، لأنهم يشككون في ولائي للهوية التي أحملها، هكذا قال لي المحامي الذي عينوه للدفاع عني. وقال لي إن القضية التي يجب عليَّ مواجهتها هي ادعائهم بأني أدليت بمعلومات كاذبة، للحصول على الجواز الهولندي، وإنني كنت أضمر التآمر على بلادهم حتى قبل وصولي إليها!!
سرح بخياله عبر الظلمات وتخيَّل نفسه أمام المحكمة ينتصب قائلاً: أعلم أنكم تشككون في ولائي لهذه البلاد! حسناً سأتنازل عن جواز السفر الذي تحصلت عليه وفقاً لمعلومات صحيحة دونتها في محاضركم.. تريدون إرجاعي إلى البلاد التي ولدت فيها، لا مانع.. ولكن لتعلموا بأنني لن أحيد عن الأهداف التي آمنت بها، وعملت من أجلها..
أفاق من توهانه على سؤالٍ حائر، وقال في نفسه: هل سأتنازل عن الجواز الهولندي؟ إنهم حتماً سينزعونه مني، فمن الأفضل المبادرة، ولكن هذا يثبت ادعاءهم. وإذا كانت هنا بلادهم، وهناك بلادي، فعن أيَّ ولاءٍ يتحدثون!؟ يريدون محاكمتي مرةً أخرى! لا ضير، دعهم يفعلون، سأقول الحقيقة وأتحمل النتائج. غريبٌ هنا وغريبٌ هناك، فهل حقاً إنني عملت من أجل الإنسان؟ وهل أستطيع التضحية من أجل الآخرين وأنا أكابد غربةً ضارية!؟ والشبكة المجيدة هل تفككت؟ أم فككوها وتفرق أفرادها أيدي سبأ؟ كان معي رجالٌ ونساء من شتى بقاع الأرض. لقد عملنا كفريق واحد، وحققنا جزءً من أهدافنا، فأين هم الآن!؟ كنت صادقاً حين دعوتهم، وحين عملت معهم بكل طاقاتي ووجداني. وها أنا الآن وحيداً في مفازة الحيرة. هل ضللتهم جميعاً، الذين عملوا معي لنحقق أهدافاً آمنا بها؟ واللائي عشقتهن؟ هل كانت أحلام الصبا وهماً، والحنين إلى أمي سراب؟ ألويل حجر السقا وضحكات على الضفاف. سارة أبراهام وجسدٌ محتشدٌ بالنداء.. هنالك خللٌ ما. هبْ أنني عشت وحيداً في الصحراء، فهل سأدرك يقيناً ما؟
يتوغل الليل فيسرح بخياله وراء نجيمات الأماني، ثم يغور في ذاكرته يقلب طيات المعاني.. على لظى التردد تقلبت أفكاره. يستكين لبرهةٍ ثم تنهشه الظنون. القطار يمضي، واللحظات جهنمية، والخواطر نازفة. فهل يرفع أمره إلى السماء؟ لقد حافظ على علاقة محايدة معها، فهو لا ينكرها، ولا يلتزم بتعاليمها! لكن اللحظة حاسمة، هل يستطيع في ليلةٍ واحدة أن يواجه ذاكرته ومستقبله؟ وأن يحدد علاقته مع أهل الأرض، ومع أهل السماء؟
رويداً تداعت اللحظات، تكاثفت كحبات المطر، ثم انهمرت على صدره سنوات السجن السبع، والانتظار الفادح المرير. نكس رأسه حائراً والقطار يمضي، ثم طوته دوامةٌ مِنْ حنين. هل يعود إلى الوطن ليبدأ من هناك، أم إنه هروبٌ مستحيل وحلمٌ بليد؟ وهل يولد من جديد؟ داعبته الأحلام، ثم تدحرج من ذروة الأمل إلى سفح القنوط. بلا مقاومةٍ ترك وجدانه لينسحق، ولأفكاره أن تتلاطم في ليلٍ أخرس، وثمة برقٌ يلوح في البعيد..
في قاعة المحكمة، احتشد بالتحدي، رغم ظلال الهزيمة في نظراته، ونبرات صوته. اعتدل في وقفته حين اعتراه ارتباك مفاجئ، وقال لهم: تدَّعون النزاهة والحياد، وأنتم تعلمون أن المعلومات المدونة لديكم، والتي حصلت بموجبها على جواز السفر، صحيحة.. ولكن!! هل تعتقدون أنني بلا طموحات سياسية، أو أنني لربما أخون ذاكرتي، أو أتنكر لها؟ كلا، لن أحيد عن المبادئ التي آمنت بها، وعملت على تحقيقها. أما المعلومات، فأنتم أدرى بصحتها.. فقيل له: هل تعلم بأن شبكة الهجرة قد تناسلت إلى شبكاتٍ متعددة، وأن بعضها انخرط في تجارة المخدرات، وتهريب السلاح، وكثيراً منهم انضم إلى جماعات الإرهاب، في محاولة يائسة لتدمير الحضارة الإنسانية؟ أجابهم في برود أدهش بعضهم: بل هي المركزية الأوربية التي تجرف البشر روحياً ومادياً، ثم تلقي بهم في مهاوي الفقر، لتعيد نهبهم من جديد!! وقيل له: ألست المسؤول، أخلاقياً على الأقل، عما تفعله هذه الشبكات، بتعدد أطيافها ونشاطاتها؟ ابتسم قبل أن يقول: قلتُ لكم لست نادماً على ما فعلت، ولن أحيد عن دروبي..
في قاعة المحكمة التقت عيناه بعينيها. سارة أبراهام امتشقت جسدها الريان.. هربت ببصرها بعيداً، وقالت في نفسها: أيُّ نوع من البشر هذا المحجوب!؟ هل كافح من أجل المظلومين حقاً، كما يقول؟ أم إنه خان اليد التي انتشلته من الضياع، وفشل في أن يسلك الطريق القويم!؟ تأملته لبرهةٍ ثم ارتدت إلى نفسها..غازل طيفه أوتار حنينها المتقد. لسنوات ظلَّت تفاوض بعض الأغاني، تراود همس العبير، أنفاس العناق، ورقة الشعور. جادلت رنين اللغة، وسهم المغامرة، وعتمة المصير.. وحيدةً سهرت الليالي تراوغ الذكريات.
بعد فراقهما قبل سنوات، ورحيله إلى لندن، حاولت النسيان، فهل نجحت؟ وحيدةً تمضي أيامها، جسدها يهسهس بالنداء، وذاكرتها تضجُّ بالنشوة، وثمة رجاء، وتوجس من مظاهر الإقصاء في المجتمع من حولها.. وقالت في نفسها: إن هذه المجتمعات تنعم بدرجة من الرخاء المادي، والحريات الفردية.. فهل وصلت إلى درجة من السمو الروحي، والتوازن الأخلاقي، لتقبل الآخر هكذا لوجه التسامح!؟ أم أن جذوة الإقصاء ما تزال تستعر في الصدور، وسرعان ما تتصاعد موجات متجددة من التطرف والعنف؟ فبإسم العلم!! وعلى هدي نظرية النشوء والارتقاء، ظنوا أنهم الأقوياء، فنصبوا أنفسهم مكان الطبيعة، وأحرقوا القبائل الفقيرة في ناميبيا، فصمت ضمير العالم المتحضر!! لكن الحرائق سرعان ما انتقلت إليهم في عقر دارهم، وكانت المأساة، والرعب الفادح في أوشيفيتس وبوخنفالد. إنها لحظة حرجة عندما تشرع دولة عريقة في ترحيل الغجر!! فهل يعلمون أنهم بفعلهم هذا، إنما يدشنون موجةً جديدةً من الإقصاء، ستقودنا حتماً إلى أفقٍ مرعب!! هل أحزم حقائبي وأعود إلى وطني، أم أعبر الأطلنطي إلى دنيا جديدة؟
ترددت كثيراً وحاصرتها الهواجس، لكن اهتمامها تصاعد مع الأيام، حتى التهب حماسها لقضايا الهجرة والمهاجرين. تابعت أخبارهم، وتعرفت على أحدهم فقال لها: ولدت هنا في المهجر، ولكني حتماً سأعود إلى حيفا في فلسطين.. فقالت له: تقصد العودة إلى إسرائيل؟ رد بهدوء: يوماً ما لم تكن هنالك دولة بهذا الاسم، كانت فلسطين.. قاطعته محتجةً: هل تعني أنك ستعود على أنقاض بلادنا!؟ فقال لها: أنا لا أتحدث عن الدمار، ولا أتمناه لأحد، ولكني أطالب بحقي في الوطن. جدودي عاشوا هناك، زرعوا الزيتون والبرتقال، وأنا حتماً سأعود، أو يعود أبنائي.. ولكن كيف!؟ هكذا ببساطة.. أجابها مبتسماً فقالت في نفسها: لكي تعيش لا بد لك من إلغاء الآخر!! هل هذا منطق سليم؟ ربما، وقد يكون كذلك رغم فداحته!! هل الآخر عقبة في تحقيق الذات؟ صحيح أن المجتمع نشأ أصلاً على الاستلاب، وقهر الفرد، ولكن البشرية تحتاج اليوم للتعايش والتسامح، فهل من سبيل للعيش في وئام!؟
حيرتها أسئلة الهوية وقبول الآخر. ضجَّ بصدرها نواح الضحايا عبر القرون، فانهمكت في إعادة قراءة كتب الأديان والتاريخ، علها تجد إجابات عن أسئلتها وحيرتها.. دونت بعض المقاطع من العهد القديم، رددتها أكثر من مرة كالباحث عن خلاص:
وحدث في تلك الأيام الكثيرة أن ملك مصر مات وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية.
اذهب وأجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم. إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ظهر لي قائلاً: إني قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر.
فقلت أصعد من مذلة مصر إلى أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليوسيين إلى أرضٍ تفيض لبناً وعسلا.
وقالت في نفسها: هي إذن أرض التعدد، وقبول الآخر. لكنهم اليوم يتربعون على قمة الإقصاء، متنكرين لتاريخهم، وذاكرتهم، وفيها خلاصهم، وربما خلاص الناس أجمعين..
محكمة.. أعادها صوت القاضي لما يجري في القاعة. صوَّبت بصرها إلى محجوب السر مشفقةً، وقالت في نفسها: هل كان بريقاً في عتمة الحاضر!؟ بأمر المحكمة نزعوا منه جواز السفر الهولندي، سلموه وثيقة سفر اضطراري، واصطحبه شرطيان حتى باب الطائرة!!
محجوب السر عاد من أرق الحنين، إلى أتون الحزن والارتباك. عاد إلى أرض الوطن فعلم أن أمه سافرت إلى أهلها في الصعيد، ثم عادت إلى البلدة، عاشت لسنوات، وحيدةً، حتى رحيلها عن الدنيا، بعد انتظارها الشاهق المرير..
على شاطئ نهر البلدة، دحرج خطواته على الرصيف. الآن يدرك، وعلى نحو جارح، أنه منبتٌ عن ذاكرته الروحية، والإثنية. كأنه لا ينتمي إلى هذه البلدة، ولا إلى أحد!! دوخته الأسئلة الحارقة، والاحتمالات. منبتاً عن ذاكرة المغامرة، والأحلام، وعن مدارات العشق والتمني.. برحيل أمه، أصبح وحيداً في العراء الفادح، كشجرةٍ اجتثت من جذورها، فهوت إلى التراب.. وقال في نفسه: هل يمكنني العودة إلى الغربة، ومواجهة النزيف الوجداني، أو البقاء في الوطن ومواجهة المجهول؟
منذ وصوله إلى البلدة، طالعته الحيرة في عيون الأهالي، وفي إيقاعاتهم، وأحياناً في لا مبالاتهم.. لكن الحزن والارتباك عصف بخطواته، فتنكب دروب الحنين. وعلى أفق السراب، انداح بخياله برقاً في دياجير الاحتمال.. فهل يحمل حقائبه ويغادر الوطن المنزلق على قوس الخراب؟ أم أن نذر الكارثة التي تدب تحت جلده، مجرد أوهام وأزمات شخصية؟ وهل بامكانه البقاء ليشارك في درء المحنة إن وقعت!؟ هل يبقى في البلدة، أم إن طواحين النجيع دارت ولا مناص!؟ أيُّ دروبٍ؟ أيُّ بلادٍ؟ وهل ثمة أملٌ يلوح على أفق الرحيل؟ لقد تبدل إحساسه بالذين حلم بهم، ولهم.. قطع أشواطاً، ودفع أثماناً فيما يعتقد أنه في صالحهم، ولكن..
على شاطئ نهر البلدة حاول الانفلات من طاحونة الأسى والارتباك. انحرف بأفكاره إلى أحوال الوطن، وهموم الناس. وقال في نفسه: الفاقة تحاصرهم، والمرض ينهش صدورهم، والموت يتربص بهم!! فمن يقدم نفسه فداءً لهم؟ وكأنه استشف أحلام القرابين عبر القرون.. راودته حكايات الطفولة عن ساحرة الماء..هيمنت على مخيلته، ولم يلبث أن وقع فريسةً لها:
إنها عروس النهر، التي توجوها في الزمان القديم، أميرةً للفداء.. قدموها قرباناً حتى يفيض النهر بالخير والنماء. اختاروها من بين الجميلات، سامقةً بتول. قيل إن الضفاف لم تجود بمثلها جمالاً، وفتنة.. ألبسوها حريراً سماوياً، وعلى صدرها تأرجحت زهرةٌ من الذهب. حملوها على محفةٍ من جريد النخل، وانحدروا إلى الضفاف.. قابضين على جمر التوقع، هائمين على أرصفة الحنين، صاعدين إلى سدرة التمني، ترفرف أحلامهم فوق قافلة النشيد. انحدروا من تلال الرجاء، رجالاً ونساء.. الطبول والبخور، والرقص والغناء. موجةٌ فوق موجة، والنهر يضجُّ بالنداء..
في موكب الزفاف، احتشدوا على الضفاف. عشرة زوارق انطلقت إلى غور النهر، يتقدمها زورقٌ مزينٌ بجريد النخل، والخرز الملون. وسطه جلست العروس، عابقةً بالعطور.. على مرجل التوجس، أنصتت لخفقان الموج، لمعت بخيالها أسراب الأمل، استكانت لبرهةٍ خاطفة، ثم اجتاحتها سنابك الخوف، وغشيتها بيارق الذهول.. واصلت الحشود التدافع في المياه الضحلة، بينما الزوارق تشق الأمواج، يحفها النشيد، ودوزنة الطبول:
أيتها البتول
يا عروس النهر
يا زهرةً نقية
الخير سيفيض
وتشرق الفصول
فلترقصوا
فالوقت أصيل
وزهرة الفداء
يانعة
وساطعة
كنشوة الحضور
فلترقصوا
ولتقرعوا الطبول
فالزوارقُ
تشق عباب الموج
عابقةً بالوعد
وفي المدى
تضيءُ نجمة القبول
فالمجد للحقول
والمجد للبتول.
في أوج الصهيل، ترنحت العروس، ثم قفزت إلى أمواج الأبدية. في أوج الزفاف، ارتعشت أحضان النهر، لتورق الضفاف، وتنزل السكينة..
□□□
غادر البلدة كطيفٍ عابر.. فهل عاش فيها أصلاً، ثم حمل جراحه ومضى!؟ البلدة لم تعد كما كانت!! شاخ الجميز، وتهدمت أجزاء من رصيف النهر. والمستشفى الذي ولد فيه قبل عشرات السنين، اجتاحه الخراب!! محجوب السر، هل كان حلماً أم سراب!؟
في البلدة سهر ليلته الأخيرة مصلوباً على سارية القنوط.. ظلَّت فكرة النجيع تمور بصدره ولا مناص!! فأيُّ حنينٍ اتقد بوجدانه، حين تطلع من نافذة الحافلة، وتابع طريق الإسفلت، ثم قال في نفسه: لا برقٌ يضيءُ ولا ندم، وليس ثمة معنى أو رجاء..
في أتون الضجر، مضت الأيام. وفي عتمة الآفاق، تلوح أطياف الخلاص، ثم تنبهم.. ذات فجرٍ حامض، غادر الوطن، هكذا وحيداً، هائماً في دياجير التمني..
تحت خيمةٍ في مضارب الصحراء، انضم إلى رفاق المغامرة. وقال في نفسه: لا يعلمون تاريخي مع الهجرة، والمهاجرين، والسدود..
في عتمة الليل، والنجيمات تزغرد في سماءٍ تبدو محايدة، عبروا الحدود.. كانوا تسعة، امرأتان وسبعة رجال. بل كانوا أكثر!! عاشرهم اغتالته رصاصاتٌ مصوبةٌ بدقةٍ غادرة، فخرَّ صريعاً، وكتبت دماؤه على رمال سيناء، حكاية العشق والانتماء، ولعنة الرحيل.. فمن يكتب الوجه الآخر للمأساة!؟
في سكون الليل، المعتق بالدماء، هومت بخيالهم أطياف الأمل.. تسللوا عبر الحدود، تظللهم غمامة الرجاء.. محجوب السر ترنَّم بنغمٍ حزين، وقال في نفسه: سيدركنا الصباح، فهل سندرك الخلاص!؟
في صحراء التيه، ساروا حثيثاً، وليل المغامرة طويلٌ وعسير. تبادلوا الحكايات والأماني. النجوم الباهرة، في سماءٍ حالكة، طرزت خيالهم بالأمل. صدحت موسيقى الحنين حين افترشوا الرمال الباردة، ليستريحوا قليلاً. أشويل دينق قالت لهم: لم أتصور.. خنقتها العبرات فسالت على خديها الدموع.. زوجها ملوال رغب في زيارة أقاربه المعتصمين في ميدان مصطفى محمود، مطالبين الأمم المتحدة بإعادة توطينهم، ولكن..
جمعتهم الأقدار.. انحدروا من أحراش الجنوب، من جبال النوبة، ومن دارفور الجريحة. توافدوا إلى الخرطوم بعدما تحولت هوامش الوطن إلى مرجلٍ للفجيعة!! بين سندان العوز، ومطرقة الأجهزة الأمنية، كابدوا مرارة العيش في عاصمة بلادهم، فيمموا شطر الشمال، إلى مصر، وتحولوا إلى لاجئين بغير حقوق!! ظلَّوا يلوكون الصبر والصمت، عسى أن تنقلهم مفوضية اللاجئين إلى دولٍ أخرى، بعدما انسدت وراءهم دروب العودة إلى الوطن!! قليلٌ منهم حالفهم الحظ وتم ترحيلهم إلى أمريكا وكندا، بينما الأغلبية صابرة في انتظار الفرج. مرت السنوات فعشعش في صدورهم اليأس، وأظلمت في وجوههم آفاق الخلاص. وحين استبد بهم اليأس، حزموا أمرهم واعتصموا في الميدان..
مئات السودانيين في ضاحية المهندسين يحاصرهم الجند. نساءٌ وأطفالٌ وشباب. منعوا وصول الطعام إليهم أحياناً. وقطعوا عنهم مياه الشرب أحياناً أخرى!! وذات نهارٍ راعف، داهموهم!! سحلوهم!! وتركوهم بين قتيلٍ وأسيرٍ وجريح!! ملوال جاء للزيارة والتضامن.. جاء يحمل سندوتشات الفول والطعمية، فداهمته الأحداث، ودفع حياته ثمناً للوفاء!!
محجوب السر استعاد التفاصيل المروعة، التي سمعها في رواياتٍ متعددة من بعض الشهود. أطرق إلى الأرض، ثم ابتعد بخطواته قليلاً، فاشتعلت بذاكرته شظايا الفسفور، التي انهمرت على رؤوس سكان غزة، فحصدت أطفالاً، بعدما أحرقت جلودهم، وشوهت بعضهم الآخر.. قناة الجزيرة نقلت مفاصل الرعب على الهواء مباشرة. سيارات الإسعاف المنطلقة، وزعيقها الداوي.. سماء المأساة تمطر فسفوراً حارقاً، في واحدة من أكثر سكرات الدم، شراسةً ووحشية.. كاميرات التلفزة تتراكض بين المستشفيات، تطاردها الدماء، والبكاء، وأشلاء الضحايا.. مراسل فوق سطوح المنازل، في الخوذة والأردية الواقية من الرصاص، استطالت لحيته، وأطل السهر من عينيه، بينما الكاميرا بجانبه ترصد شظايا القذائف المنهمرة كالألعاب النارية، فوق رؤوس الأحياء والأشياء.. هل يوقفون الحرب عشية أعياد الميلاد المجيدة؟ لا أحد يدري!! هل يوقفونها مع أعياد رأس السنة؟ لا أحد يدري!! والفسفور ينهمر..
لأسابيع وهو خلف الشاشات، أنهكت أعصابه مفاصل الرعب والدمار.. وقال في نفسه: إنها حربٌ بلا نظيرٍ في التاريخ المعاصر!! وها هو الآن يقصد الدولة التي زعم أن حكامها غارقون في محض همجية. فهل سيقع في قبضة الجيش الذي أدار الحرب الجهنمية؟ أم أنه سيظفر بلقب لاجئ؟
ضرب في التيه مع رفاقه واجتازوا الحدود إلى إسرائيل، فهل ودعوا أيام البؤس والشقاء!؟ راودتهم الأحلام والأماني، إلا أن الأضواء الكاشفة، ومكبرات الصوت، زلزلت لحظاتهم، وأحاط بهم الجند، مدججين بالرصاص..
في الزنزانة الرمادية الجدران، حاول أن يلملم شظايا أفكاره، وأعصابه المنهوكة. سبعة من رفاقه في مغامرة العبور تم ترحيلهم إلى معسكر للاجئين. الثامن يقبع سجيناً في صحراء النقب، حيث تدور المفاعلات النووية، في صمتٍ مرعب، ينذر بالفناء!!
ضباط الاستجواب قالوا له: إن شبكات الهجرة التي تزعمت حلقتها الرئيسة في لندن، ما تزال تزعزع الأمن الأوربي.. وقيل له: قضيت في السجون البريطانية سبع سنوات، وبعدها لفظتك هولندا وجردتك من هويتها، لأنك كذبت عليهم بعدما قدموا لك المأوى والأمان.. وها أنت تخترق حدود دولتنا وتهدد أمننا.. اعترف، دوِّن كل المعلومات التي بحوزتك حتى نخفف عنك العقوبة.. فقال في نفسه: أصدروا حكماً بإدانتي قبل عرضي على المحكمة!! في مدينةٍ اجتمعت فيها ديانات السماء، ودعت، وما انفكت تدعو، للمحبة والسلام!! أهي شهوة الحكم تبيح إقصاء الآخر، وتدميره!؟ لقد زرعوا الحرائق، والدم، والدموع، في رفح، والشجاعية، وحي الزيتون. فهل سيحصدون ما زرعت أيديهم، أم أن الأمر برمته ضربٌ من العبث والأوهام!؟
هل اختار وبمحض إرادته ركوب الأهوال، أم أن الأقدار ساقته إلى مصيرٍ محتوم!؟ وقال في نفسه: لماذا لم أرحل إلى أعماق أفريقيا، إلى منابع النهر، حيث البحيرة العظيمة؟ فلربما اغتسلت عندها من أدران الرحيل، والعشق المتخثر، وكدمات الصدام؟
محامٍ من أصولٍ مغربية قالت له: مرحباً بك في بلادنا.. شكرها لأنها كابدت المشاق، وجاءت لزيارته في السجن، بعد محاولات مارثونية، كرٍ وفر، بين مكاتب الأمن، ومنظمات حقوق الإنسان، حتى تحصلت على إذن كي تقابله لعشر دقائق.. تحت كاميرات الرصد والتنصت، أبلغته وصية من سارة أبراهام، قالت فيها: عدتُ إلى وطني بعد ترددٍ طويل. عدت لزيارة أمي وأبي.. وفور وصولي قرأت في الصحف عن أخبار اعتقالك بتهمة اختراق الحدود، وتهديد الأمن. فانتابني إحساسٌ عميق بأنك بريء. سأتضامن معك حتى النهاية..
كشجرةٍ يابسة وقف في قفص الاتهام. لمحها بين الحضور فناوشه طيفها.. سارة أبراهام تركض في المدى، فهل رأى غمامة تغازل الطيور؟ وهل رأى سحابة الخريف تلثم الشجر؟ تأمل لبرهةٍ المحامي التي اختارت الدفاع عنه، وقال في نفسه: من الواضح إنها تكابد التمييز في هذه الدولة العجيبة..
في قاعة المحكمة قال لهم: لقد توحشت حضارتكم وافترست أوطاناً، ولغت في دماء أبنائها، واستباحت تاريخها، وتراثها، وأهازيجها البريئة. وها هي تكشر عن أنيابها لافتراس بلدانٍ أخرى.. فعن أيِّ عدالةٍ تتحدثون!؟ وقال في نفسه: لعلهم على حق!! فمن يصدق، إنني وبعد كل تاريخي مع المنافي والسجون، عبرت الحدود لاجئاً، بعدما انسدت في وجهي الدروب!؟ هل أضمر لهم الشر حقاً وأنا لا أدري!؟ هل أقول لهم إن مهمتي هذه المرة عاطفية فيسخرون مني؟ وهل جئت في مهمةٍ عاطفيةٍ فعلاً!؟ حسناً سأقول الحقيقة وليفعلوا ما يشاؤون.. ولكن ما هي الحقيقة!؟
هل انبهمت المعاني، أم اختلت قواه العقلية؟ تبدلت الأيام، وتبخرت الأحلام أو كادت، وها هو متسربلٌ بالسأم والإحباط. وقال في نفسه: سيحكمون عليَّ بالسجن في كل الأحوال.. ليس أمامي غير التماسك والصمود.. رويداً تحولت نظراته من التحدي إلى اللامبالاة، ثم باغته الحنين لوجدانه القديم.. انفلت فجأة من مدارات اللحظة المتوترة، وغاص عميقاً بين سراديب الذاكرة، باحثاً عن نهر البلدة، وحكايات الطفولة. انزاح من المواجهة إلى غيوم التمني، والنهر ينهضُ من شبق الأحلام، من سدرة الحنين والمجادلة.. وحين طلب ممثل الادعاء استجوابه، كان غارقاً في الماضي، متجاهلاً اللحظة وجميع مآلاتها. كأن الأمر لا يعنيه، والمجتمعون في هذه القاعة لا شأن لهم به.. وحيداً في عراءٍ فادح قال في نفسه: سأمضي، ولكن إلى أين؟ نعم سأمضي.. لا يعنيني الاتجاه ولا المسافة. لا بد من نهرٍ قريب، لأشرب منه وأستريح. ويدثرني ليله عندما ينهكني التعب.. نعم، النهر قريب، وحتى وإن غابت الشموس، ستشرق أخرى.. لا أحد هناك، ولا يعنيني مَنْ هنا. إنهم واهمون..
محكمة.. طرق القاضي على الطاولة فانتبه الجميع، بينما هو سادرٌ في غواية الهروب من عتمة الحاضر، إلى أفقٍ يبدو أقل ضراوة.. أفق من طقوس النسيان والتمني.. محكمة، طرق القاضي مرةً أخرى، وبدأ ممثل الادعاء في استجوابه، لكنه خاطب السراب!! ظلَّ محجوب السر ساهماً، متجاهلاً إيقاع اللحظة. بارد الجبين، وبعينيه تتخطف الأطياف والرؤى..
لست نادماً، ولستم قضاتي!! انبعث صوته من غبنٍ دفين.. لست حالماً ولكنكم واهمون.. تهدج صوته فصمت، ثم داهمته نوبة من التوهان، والهروب المباغت إلى سراديب النفس الحائرة، والخائرة على شفير التصدع.. محامي الدفاع نهضت قائلة: إن موكلي مريض، ويبدو الآن أمام أنظاركم في حالة من الذهول. فأرجو من المحكمة الموقرة عرضه على الطبيب النفسي..
وخزتها الكلمات الأخيرة فانتفضت سارة أبراهام كالملسوعة.. اعتدلت في جلستها، داعبت شعرها ثم قالت في نفسها: هل أطلب منهم السماح لي للإدلاء بشهادتي؟ وماذا أقول لهم؟ هل كان النداء الذي داهمه في أمستردام، وسواساً قهرياً؟ ربما.. لقد قضى سنوات في أقبية الأسر الرطبة، في جنوب بلاده. وربما انحرفت صحته النفسية هناك.. بل إن ذلك ما حدث بالفعل.. إن صمتي غير مبرر، أكثر من هذا لقد وعدته في رسالتي إليه بالتضامن معه حتى النهاية.. حسناً سأطلب فرصة للإدلاء بشهادتي. سأقول لهم إنه ضحية الحرب، أسروه في حربٍ أهلية، فهرب من قيودهم عليل النفس.. أيها السادة إن المعلومات عندما تتكامل لدى الطبيب النفسي، سيكون بإمكانه أن يثبت بالدليل القاطع، أن هذا المتهم الماثل أمامكم، عليل النفس، وربما كانت قواه العقلية مختلةً أيضاً.. ولكن، هل المحكمة عادلة، أم إنهم يفتشون عن كبش فداء؟ وكيف نمارس الديمقراطية بلا قضاءٍ عادل!؟ هذا غير معقول! لا بد من أن يتمتع القضاء بالنزاهة.. ولكن كيف نفسر مأساة الناشطة الأمريكية، التي انسحق جسدها تحت جنازير الجرافة، فتصاعد أنين اللحم، والدم، والتراب.. تصدت بجسدها لتحمي بيتاً فلسطينياً من الدمار، لكن سائق الجرافة سحق جسدها على التراب، وفلت من العقاب!!
وقالت في نفسها: الغرق في التفاصيل سيضيع الفرصة، وسيحاكمونه بالسجن وهو مريض.. نهضت ورفعت صوتها قائلةً: أيها السادة.. هوت مطرقة القاضي على الطاولة.. سيدي القاضي إن لدي معلومات مهمة في صالح المتهم فلتأذن لي بالكلام.. إن المتهم الماثل أمامكم مريض نفسياً. لقد كنا أصدقاء يوم أن داهمه نداءٌ غريب في أمستردام. كنا نعيش في وئام، لكن السنوات التي قضاها أسيراً في أحراش بلاده، ظلت هاجساً يلاحقه. وحين داهمه النداء، قرر الرحيل إلى لندن، لتبدأ المأساة..
وجه القاضي السؤال إلى المتهم في نبرةٍ هادئة:
- هل لديك أقوال؟
أجاب محجوب السر دون أن يرفع رأسه
- لستم قضاتي
- هل ترفض التعاون مع المحكمة؟
- لا أعترف بها أصلا!!
زفر بحرقة فاصطرعت بصدره الحسرات.. وعلى أفقٍ بعيد زمجر النهر.. الأمواج تضرب الرصيف، والطيور سابحة إلى أفق المغيب..
□□□
هل وُلِدَ النهرُ مِنْ رحم الأحلام!؟ الغيمُ رماديٌ، والأرضُ قيثارةُ الحنين. اشتعلت نبضات الطلق الأولى في سماء المحاولة. وئيداً تراكم السحاب، والأرض حبلى بالتمني، برعشة الإخصاب. وحين أضاء البرق سراديب الأحلام، وشعشعت الغيوم، كان التراب قد هيأ المكان للطلق الراعف.. الريح خلخلت الوديان، وجدلت الضفاف. سبعة أيامِ بلياليها والسحاب ينهمر. رويداً امتلأت البحيرة العظيمة، وتدفقت في الوديان، فانطلقت أمواج الوعد تراود الضفاف، حبلى بالثمار..
الطقس أزرق
والسماء قريبة
من سدرة القبول
ليلٌ وصمتٌ أصيل
نهرٌ يتهادى
وخفقان الموج حروف
الضفاف حالمة
وصادحة
بالنغم الشفيف
نهرٌ وأمنيات، وثمة ميقات، لميلاد الإنسان، من رحيق الضفاف، ونشأة الحضارة، من تعدد الأنهار، والألسن، والأنساب..
الأحلام والرؤى دشنت دروبهم لعبادة الآلهة.. كانت النيران مقدسة، والنجم والسحاب. والبروق حين اشتعلت خروا ساجدين، خوفاً وطامعين.. إنه دبيب الروح، يسري في الحجر، وفي صلب المياه. عبدوا روح الطبيعة، ثم ساروا في دروب التجريب، ترفرف فوقهم أشرعة الرحيل.. من ضفةٍ إلى أخرى، تنقلوا بين الأنهار في مساراتها المتعددة، وتعرجاتها، حتى تلاقت الفروع، وتلاقحت المياه، ثم تدفقت في مجرى واحد، هيمنت على ضفتيه طقوس الرحيل.. هكذا تكون النهر، من قطراتٍ أولى في جوف الغابات، إلى شلالاتٍ هادرة في قلب الصحراء.. تنقلوا بين الضفاف فتطورت عقائدهم، من التعدد إلى التوحيد. من طقوس الصيد، إلى هندسة أحجار المعابد، في النقعة والمصورات.. من أساطير الأنهار، إلى الإله الأسد أباداماك.. فهل أتاك حديث النجوم، والشمس تدوزن السحاب، وتعلمهم عدد السنين والحساب!؟
تواترت موجات الرحيل عبر الحقب والقرون. يفردون أشرعتهم، وينحدرون مع تيار النهر. على الضفاف يستقرون لآمادٍ تطول وتقصر، يطورون أدواتهم وفنونهم. تكبر تجمعاتهم، وتتعدد ألسنتهم.. يتقهقرون جنوباً عندما تجتاحهم الحروب والأوبئة، وكوارث الطبيعة.. ثم تبدأ موجاتٌ أخرى من الرحيل شمالاً..
النهر ينحني قليلاً فتقل سرعة التيار. على جزرٍ ثلاث تكاثفت الأشجار والأسماك. طلائع المستوطنين، وصلوا إليها عن طريق النهر، وعلى ظهور الدواب.. هكذا نشأت البلدة في أحضان النهر، وظلت وطناً للجميع، وساحةً للرقص والغناء.. إيقاعها المتسامح هو سرَّها، وديدنها القديم المتجدد.. إليها ينحدرون من أصقاعٍ نائية، وضاحيةٍ قريبة. ومنها يهاجرون، ويضربون في فجاج الأرض. إليها يحنون كأن في أعماق نهرها تكمن ذاكرتهم القديمة. وفي صدورهم تعبق رائحة الضفاف.. ألويل حجر السقا حملتها بين جوانحها في غربتها الطويلة. تذكر صباحاتها المشرقة حينما يصفع البرد وجهها، في عاصمة الضباب، وهي تسرع الخطى، متلفعة بالأردية الثقيلة. في لندن عاشت مع زوجها تحت ظلال التوافق. لكن الحنين ما برح يناوش وجدانها، حتى أنجبت طفلها الأول فانشغلت به. في المرة الثانية أنجبت بنتاً أسمتها أليس، فتفجر الحنين الكامن، واحتوتها الشجون. ويوم مات زوجها في حادث سير، بوسط لندن، أظلمت الدنيا في وجهها، وحاصرتها الأحزان.. كان جون سميث زوجها، وصديقها، وملاذها الأمين، حين تداهمها موجات الحنين.. بصدرٍ رحب واجه أسئلتها، وأحياناً نزواتها.. قالت له: لولاك لما استطعت العيش في بلادكم!! أجابها مبتسماً: هي بلادنا معاً، ووطن أبنائنا.. رحل جون سميث وتركها في مفازة النحيب، وهجير الأسئلة المبرحة..
ألويل حجر السقا عادت إلى الوطن لتلملم أحزانها، ولكن سرعان ما داهمتها الأسئلة الحارقة.. فهل تعود إلى بريطانيا رغم مآزق الهوية، وتكابد الغربة وحيدةً، أم تبقى في الوطن!؟ على قوس الردى تسائل نفسها عن البقاء والرحيل. الصمود في أرض الأجداد ومهد الطفولة، أم إطلاق أشرعة الرحيل؟ تسائل نفسها عن أطفالها الذين تشعر دوما بأنهم ضحايا. وقالت في نفسها: إنهم يدركون غربتهم أكثر من الآخرين، لأنهم يكابدون أسئلتها مباشرةً، وصمتهم في أحيانٍ كثيرة، ربما كان سبباً في زيادة معاناتهم.. لقد جربت حياة الغربة ومآزقها، فهل أستطيع العيش في الوطن؟ ولكن أين.. في الشمال أم في الجنوب؟ والفرقاء الحاكمون يسنون سكاكينهم لجولاتٍ أكثر فتكاً، ومأساوية!!
في البلدة حاصرتها أشواقٌ ضارية. عربدت بصدرها أوتار الحنين. كأن الإياب غربةٌ جديدة.. على شاطئ النهر غازلتها الأماني، ثم ناوشتها الهواجس والذكريات:
ذات صباحٍ مشرق، حملها مترو الأنفاق إلى جنوب لندن.. مليون شخص احتشدوا في حي نوتينغ هيل، فتموجت بهم الشوارع، في مهرجان الألوان والثقافة.. الفتيات السمراوات، حفيدات أبناء الكاريبي، بأزيائهن البيضاء، يتمايلن طرباً في قلب الأشجان. فتاة من أصول هندية تأودت كالطاؤوس، تاج رأسها مرصع، وعلى كتفيها درقة من ريشٍ أحمر داكن. فتيان في أردية سماوية، وقبعات زرقاء. الأورانج والزهري والأسود. الألوان تدشن ألحانها، والجموع الراقصة تنشد الوئام. أنغامٌ شجية، وأجسادٌ تتراقص على قوس الحرية. إنه التنوع الفتان، نسقٌ باهر من الألوان، وروعة الإنسان..
وسط الأجواء الاحتفالية، شعرت بالرضا، لكن هواجس الغربة تململت تحت جلدها.. فقالت في نفسها: قد يصبح أبنائي جزءً من هذه المنظومة، أما أنا فأحنُّ إلى الضفاف، إلى دروب البلدة، ورائحة الجروف.. وكأنها عند غابة السنط، ترنو إلى آفاق النهر الرحيبة.. صدحت بوجدانها أغنية بوب مارلي:
مسروقٌ من أفريقيا
جُلِبَ إلى أمريكا
يكافح منذ وصوله
يكافح للبقاء
لو كنت تعرف تاريخك
لعرفت أصلك
ولما سألتني من أكون
على شاطئ نهر البلدة وقفت صامتة، تحدق إلى أفق السراب.. وقالت في نفسها: هنا ولدت، وهنا وطني.. لكن أولادي ولدوا في بريطانيا، وهنالك قبر والدهم، وذاكرتهم.. على صهوة التوتر كظمت حيرتها، وأحزانها الطافحة. كأن دروب البلدة، وأشجارها، أطيافٌ عبرت ذاكرتها، وغازلت وجدانها، قبيل أن تتوه في أودية النسيان.. حتى النهر بدا لها حزيناً، مثقلاً بالهموم. تأملت الموج الهين. خطواتها مبعثرة على الضفة، وخيالها يطارد أطياف الخلاص الهاربة. باغتها أملٌ صريح، ثم تلاشى حين وجدت نفسها تقترب من العجوز، الواقف على حافة المياه، مستندٌ إلى عصاه، يتأمل، ويفكر.. تسمَّرت في مكانها، علَّها تجد خلاصاً في هيئة العجوز، أو تأملاته.. وقالت في نفسها: هل أسأله المشورة؟ وهل يفهم ما يقال؟ إنه لا يكلم أحداً، ولا يكلمه سوى الهدهد، الذي يأتيه بالأخبار من أطراف الدنيا، وأصقاعها النائية.. إذن لأجرب فربما كان على يديه الخلاص.. ولكن، هل من حقي أن أقطع خلوته مع نفسه؟ حسناً سأنتظر..
قريباً من العجوز ظلت واقفة، تراوح بين قلق الانتظار، وذكرياتها المتواترة. ثم سارت على الشاطئ مبعثرة الخطى، خائرة الوجدان، تضجُّ بصدرها أسئلة الرحيل.. وقالت في نفسها: سأبقى في الوطن!! ولكن كيف أتدبر أمر المعيشة؟ وحتى إن وجدت عملاً ما، أو مصدر رزق، فهل يستطيع أبنائي العيش في الخرطوم!؟ هل أرحل إلى الجنوب!؟ وما معنى كل هذا التردد!؟ سأعود إلى بريطانيا وأكابد الغربة وحيدةً من أجل أبنائي. فهناك يستطيعون بناء مستقبلهم رغم العقبات..
العجوز ظلَّ غارقاً في تأملاته، بينما الحكايات القديمة تتجلى على صفحة النهر الرمادية. فيبتسم أحياناً، وتراوده ظلال من الحيرة أحياناً أخرى:
الفتيات السمراوات في أليس حالماتٍ بالرحيل، يترنمن بالنغم الحزين. يسوين الطين المخمر بأناملهن الرقيقة، ثم ينقشنه بمهارةٍ فائقة.. الأباريق والأكواب الرقيقة، تصقل، ثم تحرق، ليقدم فيها الشراب المقدس. الجرار مزيَّنة بالنقوش الملونة، وصور الملكات والمحاربين، الأرانب والنمور.. كلَّ ما يصنعنه يضجُّ بالحيوية، بنشوة الحياة..
على الضفاف حالماتٍ بالرحيل. صدورهن عامرة بالحنين، لكن النداء ما انفك يراودهن، وقوافل النزوح تمضي عبر القرون.. كأن إيقاعهن يحاول اقتفاء آثار الغابرين من أسلافهن، الذين اجتاحهم الخراب فهاموا في الفلوات.. لكن طلائعهم، الذين أدركوا دبيب الكارثة بين مفاصل الحياة، أفردوا أشرعتهم، وضربوا مجاديفهم مع التيار. حيث نقلوا خبراتهم، وشاركوا في هندسة المعابد وفنونها. بيد أن ظلمات المجهول، وأسئلته العصية لازمتهم، وتجلَّت في طريق الكباش المهيب، حيث تماثيل الحجر في صمتها الحائر، تنمُّ عن خوفٍ مبهم، ظلَّ يمور في صدور النحاتين، وانتقل عبر أناملهم الماهرة إلى صلب الأحجار. حتى الأعمدة المنقوشة بمهارةٍ فائقة، تشهد على المحاولات الدؤوبة، لدوزنة الحجر على أنساق الطبيعة. بيد أن أطياف الحيرة، والخوف، ما انفكت تهوم حول المعابد القديمة، وتقف شاهداً على الإصرار العنيد، للتصالح مع الطبيعة. ليتسق العقل مع الوجدان، في ديناميكية التناغم الحي، بين خفقان الجسد، وروح الطبيعة..
وبينما العجوز منهمكٌ في فكِّ طلاسم بعض الحكايات القديمة، تواترت بخياله أطيافٌ من المستقبل.. كأنَّ عبير الغابات، عابقٌ في الأثير من حوله.. غابات الأمازون البكر، رئة الخلاص. حيث الأجساد السمراء المندغمة في جدلٍ عميق مع أنساق الطبيعة، في ديناميكية متصاعدة، لإعادة التوازن القديم.. كانت أجساد أسلافهم، هي قوة العمل، التي شيَّدت حضارتي الأنكا والأزتيك. وعندما تراكمت الغبائن في صدورهم، تقهقروا جنوباً، واحتموا بالغابات. شيدت الحضارة المعابد العظيمة، والأهرامات.. لكنها دهست قيماً إنسانية أصيلة، في لهاثها العاتي، نحو المجد والخلود. فانسحقت طائفة من الناس عند قاع المجتمع، وتسلل آخرون هرباً من الذل والهزيمة..
في غابات الأمازون، تململت مفاصل المجتمع الراكد إلا قليلا. بدأت نبضات الطلق الأولى لرحلة العودة، من رحم الغابات، إلى مهاد الأسلاف. حيث تغوص قيادة النظام العالمي في أوحال الحروب، ومعمعان الاستلاب الثقافي.. كأنهما نسقٍ واحد: طلق الهجرة من غابات الأمازون، ودبيب الزلزلة في النظام المصرفي العالمي. إنها موجات النزوح، تبدأ ولا تنتهي، إلى أن يتم الوعد والميقات.. إنه نداء الطبيعة، كي يتوازن التاريخ؟
موجات النزوح تعمُّ الأرض من أقطارها الأربعة. إنه الميقات: الشبان البوذيون بأرديتهم الحمراء، ورؤوسهم الحليقة، انحدروا من هضبة التبت، حاملين مشاعل الرحيل. إنهم رأس الرمح لاختراق السور العظيم، الذي طوقهم عبر الحقب والقرون، وها قد جاء زمان الخروج.. مئات الملايين من الفلاحين الفقراء هجروا قراهم ونزحوا إلى المدن، بعدما دمر الاقتصاد الجديد سبل عيشهم القديمة، دون أن يقدم لهم البديل. فاحتدم التوتر الرهيب، بين مركزية الدولة، واقتصاد السوق.. وعند الذروة، تصدعت القوقعة، وانفرط العقد، فهامت أرواح الضحايا في ميدان السلام السماوي، ودشنت موجاتٍ من الرحيل العنيد.. ملايين المعدمين تنقلهم القطارات والسيارات.. على صراط النزوح اجتاحوا سهول سيبريا، رغم الثلوج الرهيبة، والريح العاصفة. اجتازوا الأورال، وأوكرانيا.. فهل ستصدهم حوائط المركزية الغربية، التي ما انفك ساستها يسخرون العلم، لدرء موجات النزوح المتصاعدة، من كلِّ أركان البسيطة!؟ إنه نداء الطبيعة، فهل يتوازن التاريخ؟
أفاق العجوز من تأملاته، ثم غادر النهر وئيد الخطى، يتواتر بوجدانه رنين أوتار الرحيل، من بؤرة التمني، إلى الوطن القديم..
□□□
1/ الشيخ إسماعيل صاحب الربابة: كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، تأليف محمد النور بن ضيف الله، تحقيق يوسف فضل حسن – دار جامعة الخرطوم للنشر – 1992، ص 92
2/ ولم يزل طيرُ دمي يصيح
كجرسٍ في الريحْ
العودة إلى سنار، محمد عبد الحي، دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة الثانية 1985، ص 33
الخرطوم: يوليو_ أكتوبر 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.