بسم الله الرحمن الرحيم بدأ بالأمس تصحيح الشهادة السودانية..وربما تكرمت الصحف بخبر عنها..لكن من يسلط الضوء على أقسى المآسي الوظيفية ..التي تضخمت عبر السنين..فقديماً كان المقابل لأعمال التصحيح ..مجرد بدل سفرية..ويتجول باعة الشطائر والعصائر والسجاير بين المصححين وهم جلوس بكامل كرامتهم في مقاعدهم..لذلك كان التصحيح بجانب كونه عملاً قومياً وواجباً وطنياً ..مناسبة للالتقاء بأبناء الدفعة..واستعادة الذكريات الجميلة..لكن مع جور الزمان على المهنة..صار مناسبة للحصول على مبلغ مالي لا يمكن توفيره دفعة واحدة من الرواتب المتهالكة. وصار مناسبة للتكالب والتظلم ممن لم يجد الفرصة ..لذا عزف عنه من يجد هذا المبلغ وهم كثر بعد تسليع التعليم بدخول اقتصاد السوق على الخط..أما الخدمات فقد تدنت..وإن كنت ممن تخرجوا في الثلاثة عقود الماضية ..فلا تتجول بالقرب من مراكز التصحيح في مواعيد الإفطار..حتى لا يؤذيك منظر معلمك الذي كنت تهابه وتجله وتضعه مكاناً عليا..وهو متحلق مع غيره حول صحن الفول في بقالات الأحياء.. على بنبر أو حجر..أو على فُرش بجوار بائعات المأكولات الشعبية .. للهروب من بوفيهات مراكز التصحيح التي تستنزف ما أتوا من أجله..أما الخدمات في الداخل ..رغم خصم مبالغها من المصححين..فتعبر في أحسن الظروف عن مستوى فهم القائمين عليها من النقابة للخدمات التي يستحقها المعلم..فالخدمات في بلادنا ..لا تعبر عن أزمة مالية بالضرورة..لكن عن ثقافة رسخت في القائمين عليها..وإلا ..فما مشكلة خدمات الكهرباء مثلاً؟ فهل هنالك مسئول تمت تربيته وظيفياً على أنها يجب ألا تقطع ؟ أم أن غيابها بديهي يكفي إبراز العذر للتبرير ؟ فيصبح بالتالي أثاث المكتب فاخراً مستورداً والخدمة كارثة. لكن الجانب الآخر من المأساة..هو الوجه المظلم للقمر.. الذي يصور في هالة المسئولية القومية وبيت شوقي الشعري الذي استنزف حتى عاد مجال سخرية..أعني به نظام العمل الذي تم تطويره عبر السنين .. وفصل بوعي أو بغيره ..لتكون مركزية قابضة ..مربوطة بحوافز متضخمة..وهو في الواقع حالة سودانية عامة ..فمركزة العمل ..تضخم الحوافز الشخصية لعدد محدود بصورة لا تظهر ضخامتها في الميزانية ..على عكس توزيع العمل في كل المستويات.. فيوزِع الحوافز والذي يثيرتضخمها الريب وحفيظة المالية..والامتحانات كذلك..والكل يذكر ما ورد في الصحف عن حوافز وكيل الوزارة قبل سنوات من الامتحانات..حيث فاقت المائة وسبعين مليوناً في السنة.. والأنكى أن ذلك يتم عبر تصوير بعض المعلمين بأنهم خوارق في العمل والوطنية والأمانة قياساً بآخرين من عامتهم ..لذلك يسوِّدهم نظام العمل على معلمين آخرين في التصحيح وإن كانوا في أعلى الدرجات الوظيفية ..والعبارة القميئة..أن درجتك في ولايتك ..أما هنا فالرئيس الذي يختار ..يرأسك وإن كان أقل درجة وظيفية منك..في قلب بين للموازين..ولك تصور التسييس والعلاقات الخاصة بعد ذلك ..فلنذهب إذاً إلى نظام العمل لنكون أكثر تحديداً.. يقسم العمل إلى كنترول ومصحح..وهنالك مهام مفهومة للكنترول تتمثل في إعداد الأوراق للتصحيح ووضع الأرقام السرية..والمنطقي بعد ذلك استلامه لقوائم الدرجات ورصدها واستخراج النتائج..لكن نظام العمل قد أضاف للكنترول مسئولية أخرى تتحول إلى سلطة. ومربوطة بحافز .وهي مراجعة أعمال المصححين..وهذا هو السر الأساسي في تأخر ظهور نتائج الشهادة السودانية مقارنة بمثيلاتها..وتطلب هذا زيادة حوافز أعضاء الكنترول..ولأن نظام الحوافز يتم بنسبة متصاعدة..حيث كبير المصححين ضعف المصحح وعضو الكنترول أضعاف لكبير المصححين ..يمكنك تصور التضخم إلى أعلى وتفسير ما ذكرته الصحف في ما ورد أعلاه من حافز الوكيل السابق. أما المصحح..فمهمته معروفة في التقييم والرصد..لكن نظام العمل ..رفع سيفاً مسلطاً على رقبته..في الحذر من رئيسه والكنترول والأخطاء المؤكد حدوثها واكتشافها جرّاء هذا النظام..والذي يعمم فيها الكلام بقسوة عن عدم الأمانة والمسئولية ومترادفاتها..والمؤسف أن الطالب قد يدفع الثمن بدوره..لأن 75% من جهد المصحح ينبغي أن يكون في تقييم الإجابة..لكن معظم جهده يذهب إلى تنفيذ خطة التصحيح ..وهي اللغة المشتركة بين الكنترول والمصحح..فالانشغال بكيفية ومكان وضع العلامة وطريقة كتابتها ورصد الدرجة ..هو الأهم ..فبالغاً ما بلغت دقة الكنترول ..فإنه مع ضغط العمل ..سيركز اهتمامه عليها..وليس على مستوى التقييم ..والذي لا تخصص لهم في جميع المواد.. وبالمقابل فإن المصحح في ذهنه كنترول سيراجع ..فما معنى حوافزه إن لم يكتشف الأخطاء ؟لذلك فهنالك مواقف تدعو للسخرية والرثاء في آن واحد ..حيث يأتي الرئيس منفعلاً في وجه معلم خريج ومهما بلغت درجته ..لأنه لا يكتب النصف أو الواحد بطريقة صحيحة.!!!.والأخري في معلم لم يرض عنه كبير المصححين وقتها وأقسم له بأنه لن يأتي العام القادم مصححاً لأن تقريره عنه سيكون سالباً ..فأقسم المعلم للدكتور كبير المصححين بأنه سيأتي العام القادم إليه حاملاً أوراقه ليراجعها هو حيث سيكون في الكنترول..وقد كان للمعلم ما أراد.هذا المثال يبين أن عضو الكنترول ..يمكنه لا أن يكون أي معلم يعمل وفق النظام فحسب ..لكن أي موظف في الوزارة..وبالفعل فإن أعضاء الكنترول في وقت ما ..كان بينهم حتى طلاب جامعات. وفيهم مظفي وزارة.حتى أن المصححين كانوا يتضجرون من (شفع )الكنترول هؤلاء. لذلك فيصح السؤال ..ماذا غير مركزة العمل وتضخيم الحافز يجعل هذا النظام سائداً ؟فلا يحدثننا أحد عن غير ذلك.. الخلاصة أن نظام العمل يجب تغييره لا لصالح آلاف المصححين فقط..ولكن لصالح الطلاب والأسر..فإذا تمت جميع مراحل المراجعة في غرف التصحيح ..أياً كان عدد مرات المراجعة وربطت بزيادة الحافز والخصم عند الخطأ المؤثر ..فإن الجهد الابتدائي سيركز في تقييم إجابة الطالب ..وسيزيد حافز المصححين..وعند تسليم الكنترول قوائم جاهزة..لن يأخذ إعلان النتيجة كل ذلك الوقت.. [email protected]