المقدوم مسلم، هو أحد الرجال العظماء، الذين ذكرت أسماؤهم، في كثير من المصادر التاريخية، دون إعطاء تفاصيل وافية عنهم. وسنحاول هنا تسليط بعض من الضوء على هذه الشخصية الفذة؛ استناداً على القدر الضئيل المتاح لنا من المعلومات. ونود الإشارة إلى أن اسم هذا الرجل لم يرد إلا هكذا "المقدوم مسلم"، إذ لم يذكر حتى اسم ابيه أو القبيلة التي ينتمي إليها، مع أغلب الظن أنه من قبيلة الفور. ومن المعلوم أن كلمة مقدوم هي لقب إداري مثل الشرتاي والناظر والدمنقاي، وهي ألقاب كانت سائدة في سلطنة الفور. ولذلك نجد في تقسيماتهم الإدارية: أربعة وحدات إدارية بحسب الاتجاهات، وهي مقدمية الصعيد في نيالا، ومقدوم الريح في كتم، ودمينقاي الغرب في زالنجي، وملك "الصباح" في بارا. وهذا الأخير، كان في وقت غزو محمد علي باشا للسودان، هو المقدوم مسلم. فقد أورد محمد بن عمر التونسي، مؤلف كتاب "تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان" ما نصه: (وفي أيام السلطان محمد الفضل أرسل محمد علي باشا ابنه إسماعيل بجيش جرار لفتح سنار، وأرسل صهره الدفتردار لفتح كردفان. وكان في كردفان مقدوم من قبل السلطان محمد الفضل يقال له: المقدوم مسلم، فتغلب عليه الدفتردار وأمتلك البلاد بعد واقعة شديدة.) ولعل هذه هي الحادثة الوحيدة التي ذكرت في معظم مصادر التاريخ عن المقدوم مسلم، بيد أن الرواة المحليين يذكرون شمائل هذا الرجل الذي يقال إنه كان يتصف بالشجاعة والكرم والحزم، سيما وأنه كان رجلاً ملماً بشيء من الفقه والعلوم الشرعية ولا يحكم إلا بما هو موافق للشرع. وحسبما سمعت من عمتي الجاز عمر قش، رحمها الله، وقد عاشت عمراً طويلاً، وسمعت عن كثير من المعمرين، فقد أجمع كثير من الرواة في دار الريح، على أن المقدوم مسلم كان رجلاً شجاعاً، وورعاً وحاكماً عادلاً، لم ينسب إليه ظلم أو تعد على حقوق الناس، بل كان يراعي الالتزام بحكم الشرع ويشجع العلماء جرياً على عادة حكام سلطنة دارفور الذين كانت تربطهم علاقات طيبة مع علماء الأزهر الشريف، كما شجعوا العلماء القادمين من الغرب على الاستقرار في أنحاء السلطنة من دارفور وحتى كردفان. وعلى سبيل المثال، منح سلطان الفور منطقة خرسي للسادة الدواليب. وتعد خرسي أول مركز للطريقة التجانية في السودان وقد تأسس في القرن التاسع عشر الميلادي وقام سلاطين الفور بإهداء منطقة خرسي للدواليب باعتبارها مركزاً تجارياً وتمتعت بالإعفاء من الضرائب وذلك للاستقلال السياسي لأسرة الدواليب عن (المقدوم مسلم) نائب سلطان الفور على كردفان. وكما هو معلوم، فقد ظلت شمال كردفان؛ خاصة في أجزائها الشمالية، منطقة نزاع بين سلاطين الفور والمسبعات والسلطنة الزرقاء، وذلك لأنها لم تشهد قيام كيان سياسي على الرغم من اتساع رقعتها وموقعها الجغرافي في وسط بلاد السودان. وقد نشأت في هذه المنطقة، أو بالأحرى، كانت منطقة بحري كردفان، تتبع لمملكة المسبعات أو مملكة كردفان كما يطلق عليها أحياناً. وتوجد في هذه المنطقة مجموعة من القرى الكبيرة، وتمتد لتشمل كاجا وكتول والحرازة في المنطقة الشمالية وأم درق وأبو حديد، إلى جانب كجمر وديار الكبابيش، وكانت هذه المناطق تخضع لسلطان المسبعات. وحسبما ذكر، عند دخول جيش محمد على باشا كردفان في عام 1821 كان المقدوم مسلم والياً على هذه المنطقة. وقد أفادني الأستاذ خالد الشيخ حاج محمود، الباحث في التاريخ الكردفاني، بأن المقدوم مسلم قد عين، من قبل سلطان الفور، كحاكم عسكري على منطقة بارا في عام 1811، فقضى على مملكة المسبعات ووطد حكم سلطنة الفور هناك. وحاول الدفتردار إغراء المقدوم مسلم؛ فأرسل إليه طالباً منه تسليم بارا، على أن يجعله حاكماً عليها بعد ذلك، إلا أن المقدوم رفض بكل كبرياء وقام بحفر الخندق "القيقر" حول المدينة. وفي أبريل 1821 وصل الدفتردار، إلى بارا، عن طريق كجمر، ومعه (4000) من الخيالة والمشاة، وعشرة مدافع وحوالي (1000) من الجنود. وقد واجه جنود المقدوم مُسلَّم جيش الدفتردار، وخاضوا معركة حامية الوطيس. ولم تكن الأسلحة النارية معروفة لأولئك الجنود الذين كانوا يركبون الخيل ويلبسون الدروع المصنوعة من النحاس ومسلحين بالسيوف، أما المشاة فقد كانوا شبه عراة، وكانت أسلحتهم الدرق والرماح والفؤوس، ولكنهم مع ذلك قاتلوا ببسالة. وكان النصر، في بادئ الأمر، حليف المقدوم مسلّم حتى قتله أحد شيوخ الجميعاب، وبعدها انكسرت شوكة الكردفانيين، تحت وطأة الأسلحة النارية، وسيطر الدفتردار على المنطقة، ونهبت مدينة بارا، وبعد يومين حل المصير نفسه بالأبيض، وسقطت ثروات عظيمة في أيدي الأتراك. ومهما يكن من أمر، فإن المقدوم مسلم هو أحد الأبطال الذين ظلمهم من كتبوا تاريخ السودان؛ لأنه يستحق أن يذكر في سجل الخالدين؛ لأننا قد علمنا دفاعه المستميت عن مناطق نفوذه حتى سقط شهيداً كغيره من شهداء السودان الذين أزهقت أرواحهم آلة حرب محمد علي باشا وغيره من الغزاة. [email protected]