وقفت أنا وهي تحت شجرة الليمون، تحلّق حولنا عدد من الصبية والفتيات من اولاد الجيران ، إتفقنا علي أن نلعب (دس دس ) فإنطلق الجميع مهرولين علي اثر هذا الاتفاق ، بقينا انا وصديقتي تحت شجرة الليمون التي تفتّح نوارها ، شجرة يتيمة تقف لوحدها في حوش البيت لها اريج مميز تكاد ان تذوق له طعما وهو يختلط مع الحر الفظيع في ذاك الصيف القائظ..فالشمس تبرجت في قلب السماء ومنحتنا سخانة بسخاء منقطع النظير لم تعبا بها طفولتنا الشقية. نظرت حولي بحثاً عن مخبأ يناسبني وصديقتي صاحبة الضفيرتين المعقوصتين علي قمة رأسها ، صافح ناظري حوشهم العريض المفروش رملة نظيفة ، سريرين حديد، لحاف مطوي باهمال تربعت علي قمته بطانية كاروهات تاكلت اطرافها ونحل وبرها، كومة من (المروق) القديمة رصت الي جانب الحائط، بقربها كمية من الخردة ، شوية سراير مكسرات ، كراع تربيزة وشوالات ، كفتيرة وصواني قديمة علاها الصدأ وكانون ضخم تحطم معدنه شاهد علي قدور وضعت من فوقه سترت حال اصحاب البيت فدفع هو المسكين ثمن سترة الحال هذة ، فكرت في الاختباء تحتها جرتني صحيتي من يدي و بعينيها خوف . - لا ياتماضر ممكن يكون في(دبيب) تحت الحطب دا ...امي قالت لينا الكلام دا قبل كده. - دبيب عديل كده !! غاص قلبي ، وبلعت ريقي النشف فجاة وعدلت تماما عن فكرتي ، وبدأت أبحث عن مخبا اخر ، مخبأ لن يخطر علي قلب أحد من هؤلاء الصبية الدراويش. هناك في اخر البيت ،عندهم اوضة بعيدة ، تشبه القراش او المخزن ، برقت عيناي عندما رايتها فهذا مخبا مثالي بكل المقاييس ، وتوجهت نحوه وصديقتي تحاول ان تمنعني من الوصول اليه ، متوعدة ومهددة تارة ومترجية ومتوسلة تارة أخري . لكن لاشيء يثنيني أنا .. وصلت للباب الحديدي القديم الذي يشبه ابواب الدكاكين في السوق الكبير ، ولكن لقصر قامتي لم استطيع ان أفتح الترباس المتيبس العاصي . لكن لاشيء يثنيني أنا .. أتيت بطوبتين وضعتهما فوق بعضهما البعض ، وصوت صديقتي ياتيني متهدج من خلفي وسمعتها تقول ان أمها لن تغفر لنا ذلك واننا سوف نذوق الامرين ان خطونا داخل هذة الغرفة وكلام كتير تلاشي امام صخرة اصراري الطفولي العنيد ، كلام لم يزدني الا عزما علي المضي قدماً ، اختلط مع صرير الترباس المصدي وانا اعافره لافتح هذة الغرفة العجيبة . إنفتح الباب . دخلت انا و صديقتي خلفي كالماخوذ وقد تحول صوتها المتعوّد الي همس . - ارجعي ياتماضر ... قلت ليك ارجعي .... لكني كنت داخل الغرفة اللغز فعلاً . المكان مظلم به طاقة قرب السقف يدخلها شيء من شعاع الشمس العاملة حفلة برة دي ، دعكت عينيي لكي اري ، جلت بنظري المشحون بالفضول ورايت ثم رايت شيء يبدو كعفش قديم مركون في نهاية الغرفة بنت عليه العنكبوت بيتها واستوطنت ، رايحة عطنة، رطوبة خانقة وغبار كثيف يغطي كل شيء . بالجنبة ... وضع عنقريب (مخرطة) عتيق ، اجرد الا من حبال تقطعت بهن السبل فاعيد وصلهن بطريقة بائسة .. وسمعتها!! سمعت شيء يئن... صوت غريب ترك اذني وداهم فؤادي الغض الطفل فلم اخف .. صديقتي خلفي تجمدت كتمثال صغير من الشمع ...نظرت اليها مستفسرة فرأيت دمعا يبرق في عينيها وتقدمت باتجاة الصوت . مخلوق جالس علي الارض . تقدمت اكثر ... حبى نحوي ... نعم حبا ولم يمشي ... تعثر بصحن موضوع علي الارض به بقايا طعام وقربه كوم (براز)... مددت يدي الصغيرة له فامسكها ووقف . كانت فتاة. عمرها قد يكون في بدايات العقد التالت .... عارية تماماً الا من ظلم كساها اياه البشر ... نحيلة كما الخيال ... شاحبة كعوالمنا التي تعشعش فيها الخرافة . نظرت الي وضحكت ضحكة لاتعني شيء ... وذبت أنا . يالقسوتنا . وسألتها: انت اسمك منو ؟ همهمت وغمغمت واطلقت ضحكة اخري داوية ... نظرت الي صديقتي التي نكست راسها ... ثم اتاني صوتها دامعاً - دي صباح اختي يا تماضر ياطول ليلك يا صباح .... ليل نسجه البشر هؤلاء والبسوك اياه ... ليل حيك حولك لاحول لك فيه ولاقوة نظرت اليها ... نظرت الي هي بعينين خاويتين الا من ذعر وقلة حيلة .... نظرة توسدت كبدي ساعتها فانفطر ... نظرة لم تفارقني طوال سنين عمري الي تاريخ كتابة هذة الاسطر ...نظرة جعلتني انتمي اليها والي من يشبهها ...نظرة احزنتني وجعلتني اقودها خارج سجنها بطفولتي التي لم تعي مايحدث فعلا ...تبعتني وهي تقبض علي يدي وجسدها يهتز ... وخرجنا الي الضياء . شهقت المسكينة عندما صافح نور الشمس بشرتها التي ماعانقت الضوء يوما ... اغمضت عينيها البريئتين لحظة وبقوة وقبضت علي يدي باظفارها الطويلة الملوثة ببرازها وسال لعابها فوق راسي وبلله ...ولم اجفل رغم صغري وواصلت التحديق نحوها وتشجيعها علي المسير والخروج من كهف عزلتها هذة ... تقدمت خطوتين وتعثرت وسقطت مني ارضا . ولم تحتمل المسكينة كل هذا ...فبدات بالصراخ .... صراخا شق عنان السماء واختلط بصوت صديقتي المرتعد بان هذا ماحيعدي علي خير ...فشلت كل محاولاتي لاسكات (صباح) وتذكرت قطعة حلوي في جيبي فاخرجتها ونفحتها اياها...لون الحلوي الزاهي وغلافها اللامع شتتا انتباهها لحين ...لم تفهم ماذا تفعل بها ...فوضعتها انا في فمها واعجبها طعم السكر فطفقت تمضغ ولعايها يبلل صدرها وفرحة حلوة ارتسمت في وجهها وهي تلمس وجهي وشعري بيديها النحيلتين . وفرحت انا ...فرحت جدا وجثوت علي ركبتي امامها اتاملها كاني مارايت بشرا قط في حياتي وأتت (امها )...وصدمت عند مشاهدتها للمنظر وتوعدتنا بالويل والثبور وعظايم الامور ...اخذت صباح بكل قسوة العالم (او هكذا خلتها) ووضعتها في (سجنها) ذاك واغلقت الباب . وذهبت لاتلوي علي شيء ..... وصراخ صباح يشق عنان السماء ويشق قلبي ... لصغري لم افهم ان صباح مختلفة ... لم استطيع ان افهم لماذا فعلت ام صباح هذا ... لم احس بشيء غير ذلك الالم الممض الذي اجتاحني من قمة راسي الي اخمص قدمي ... رعب شديد تملكني ....سؤال تردد في راسي الصغير حينها .... اذا صرت الي ما صارت اليه صباح ...اهكذا سيكون حالي !!!!! هرولت انا لامي التي كانت تجلس مع النسوة حينها وارتميت في حضنها حتي كدت اصير جزء من نقوش ثوبها الفاتن... تمرغت في حضنها الوثير وعطونة القراش الموحش تسكن مني المسافة التي بين عيني ورمشي .. ونظرت الي عينيها بحثا عن وجة ام صباح .... حمدا لله لم اجده فإبتسمت لي العزيزة بمحبة ومحنة ارجعت قلبي المرتعد الي مكانه وطامنت روحي التي تطايرت شعثا فدفنت راسي في حضنها لاتكرف عطرها ورحمتها ونبض قلبها الذي اعشق... كبرت.. وعرفت باي ذنب قتلت صباح .. ورأيت صباح عند الكثيرين باختلاف درجات المعاناة والمرض ... صباح في الحلة ...وعند الاصدقاء ...وفي المدرسة ... فقوي انتماءي الي عوالمهم ...وصفي لهم قلبي ...وامتدت جسور تواصل خفيات بيني وبينهم ..... اخترت ان اهب لهم حياتي وان اقضي عمري بينهم ..... افتح باب الحديد المصدي بكل اشكاله ومسمياته واقتادهم نحو الضياء مااوتيت لذلك سبيلا...حتي وان استدعي الامر الي ان ارص كل طوب الارض لاصل لذلك الترباس اللعين في كل حين هم صباح فلا تحرموهم من صباح العافية ...وصباح محنتكم وتفهمكم ودعمكم .... الي كل اسرة بها صباح كل المحبة ملحوظة ... صيغت القصة بطريقة لاتشي باصحابها ....والاسماء من صباح افكاري .. تماضر الحسن طبيبة امراض نفسية بريطانيا [email protected]