الفصل العاشر - الأخير وفاتها وإذاعة النبأ في مساء ذلك اليوم الذي ألقت فيه خطابها في (كابيلدو ابيرتو) أغمي على إيفيتا من الألم والإنهاك وفي الاسابيع التالية إشتكت بشكل متزايد من آلام حادة في بطنها بحيث لم تستطع إستئناف عملها وفي بعض الأيام كانت غير قادرة على النهوض من فراشها. بناء عليه طلب منها بيرون والأطباء السماح بإجراء سلسلة من الإختبارات الطبية ، مشيرين إلى أن رفضها سيجعلها عرضة لمزيد من الآلآم والتردي في المرض. في النهاية وفي منتصف سبتمبر وافقت على قضاء بعض الأيام في الفراش في المقر الرئاسي ، حيث أجرت تلك الإختبارات في يوم الإثنين 24 سبتمبر إنتحى الأطباء ببيرون جانبا وأخبروه بأن إيفيتا تعاني من سرطان الرحم وأن المرض في حالة متقدمة وذو تأثيرات جانبية خطيرة. يقول الأب (بينيتز) الذي كان حاضرا عند إخبار بيرون ذلك إن (هذه كانت ضربة قوية لبيرون بشكل لم يعايشه من قبل فحياته سوف تتغير بشكل كلي وهو يدرك ما قفز إلى ذهنه في تلك اللحظة التي أخبر فيها فزوجته الأولى أوريليا عانت من نفس المرض وعايشت ألما عظيما ولم تفلح معها كل انواع العلاجات ، مما أثر على بيرون بشكل أكبر مما أثر عليها وماتت في النهاية). بسبب الضعف الجسدي لإيفيتا فإن الإطباء كانوا مجبرين على إستئصال الرحم ثم تلقيها سلسلة من نقليات الدم. إن إيفيتا التي لم تخبر أبدا بطبيعة مرضها الحقيقي رفضت العلاج ، مما أجبر الأطباء إلى اللجوء أولا ما سماه الأب بينيتز (الأكاذيب الدينية) لضمان الإستجابة للعلاج. لقد أخبروها أن هناك بديل للعلاج عن طريق العقاقير أو الخضوع إلى عملية فأختارت الخيار الأول. في صباح 28 سبتمبر كانت إيفيتا تتلقى نقلا للدم في المقر الرئاسي ، حينما حاولت وحدات من الجيش ، البحرية والقوات الجوية الإطاحة ببيرون (كانت المحاولة بقيادة الجنرال بنجامين مينينديز القائد للعديد من الإنقلابات الفاشلة). لقد إتضح أن كثيرا من قطاعات الجيش لا تزال موالية لبيرون وحينما أعلن الإتحاد العام للعمال بداية إضراب لمدة (24) ساعة وأمتلأت الساحة التي أمام ال (كاسا روسادا) بجموع البدون قمصان ، وجه بيرون حديثا عنيفا من الشرفة باعثا الحماس في مؤيديه. بعد ذلك حلق سرب من الطائرات بقصد قصف ال (كاسا روسادا) أثناء حديث بيرون ، لكن السرب كان قد تأخر كثيرا ورأى قائد السرب أن ذلك سيحدث مجزرة بين الحشود لا نفع من ورائها ففر ومعه سربه إلى اوراغواي. لقد لاحظت الحشود غياب إيفيتا عن الشرفة عند إلقاء بيرون خطابه وكانوا يهتفون بإسمها لتظهر ، مما أضطر خدمة الإعلام الحكومية أن تصدر اول إقرارا عاما عن مرض إيفيتا وأنها تعاني من (أنيميا ذات حدة عالية). نتيجة لتوصيات الأطباء فإن أخبار القلاقل أخفيت عن إيفيتا ، مع أنها أحست شيئا من خلال الاعمال الروتينية المتقطعة والقلق الذي إنتاب من حولها. حينما عاد بيرون ذلك المساء إلى المقر الرئاسي ، أصرّت إيفيتا على على توجيه رسالة إذاعية تنقل قوميا إلى الأمة من فراشها وفي هذه الرسالة الصوتية شكرت البدون قمصان للذهاب إل (بلازا دي مايو) لإنقاذ بيرون ووعدتهم ب (العودة للقتال). لقد طلبت منهم أن يصّلوا من أجل صحتها ، ليس إنابة عنها بل إنابة عن بيرون وعن أنفسهم. إن الخطر على بيرون مهما كان قليلا قد جعل مخاوف إيفيتا تتزايد من المؤامرات والخيانات. في اليوم التالي أخبرها من حولها بأنه (إذا لم يدافع الجيش عن بيرون فإن الشعب سيفعل) . عندها ومن دون الرجوع إلى بيرون دعت ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذيو للإتحاد العام للعمال : أتيليو رينزي ، خوزيه همبيرتو ، مولينا قائد القوات المسلحة الذي لا يزال وفيا لبيرون وأمرت بتوفير 5000 مسدس آلي و1500 بندقية آلية ، يتم شراؤها وتخزن في مخازن أسلحة الحكومة وتكون متاحة بشكل فوري لأعضاء الإتحاد العام للعمال في حالة حدوث تمرد أخر للقوات المسلحة وبذلك سوف يكون البدون قمصان قادرين على الدفاع عن أنفسهم. في ذات السياق كان الامير الهولندي / برنار قد ناقش مؤخرا إمكانية قيامه بدور وسيط في توريد السلاح للقوات المسلحة الأرجنتينية ووفقا لأحد هؤلاء الحضور فإنه ومن خلاله تم شراء الأسلحة الخاصة بإيفيتا. في المقابل صدرت نشرة أخرى تلمح إلى ان (الضغط الإنفعالي الناتج من أحداث الليلة الأخيرة قد عمّق من أعياء إيفيتا). بعد ذلك أقامت أولى المجموعات من العمال والبيرونيين قداسا من أجل صحتها. وفقا لصحيفة (ديموقراسيا) فقد أقيمت في الأسبوعين الأولين من شهر أكتوبر إثنين وتسعين قداسا لإيفيتا طلبا لشفائها وذلك نزولا على طلب منظمات مختلفة. في (لوجان) التي تبعد ثلاثين ميلا من بوينس ايرس ، جاء الأرجنتينون الكاثوليك الذين إعتادوا على المجيء بشكل تقليدي طلبا للراحة أو الحظوة ، جاءوا الآن بالالاف من أجل إيفيتا وبدأوا في تقديم القرابين والأعمال الخيرة من أجل صحتها). لقد قدم إلى (لوجان) من بهم عرج وذوي الأرجل المكسورة سائرين من أماكن نائية من الأرجنتين ومجموعات اخرى قطعت مسافات بعيدة ، حاملين صور السيدة العذراء كما رفعت في الشوارع والمنازل صورة لإيفيتا ، السيدة العذراء ، زهور وشموع ومذابح. يقول الأب بينيز بشيء قليل من المبالغة (من الصعب العثور على ظاهرة مماثلة لذلك في التاريخ .. الاشخاص الذين لم يدخلوا في حياتهم الكنائس وجدوا أنفسهم الآن يفعلون ذلك .. بينما يستعيد الكبار ذكرياتهم وهم جاثون على التراب يبكون وهم يصلون). أما المظاهرات ذات الطابع الأكثر علمانية التي نفذتها النقابات مثل نقابة شاحنات البناء فقد جمعت يوم 6 أكتوبر أكثر من الف شاحنة وأتجهت ببطء حول المسارات الأسفلتية لساحة باليرمو في مسيرة صامتة. في نهاية هذه المظاهرة فارقت شاحنتان القافلة وأتجهتا إلى مكان قريب من المقر الرئاسي ، حيث تركتا عند البوابة باقة كبيرة من الزهور ورسالة تعاطف مع إيفيتا. في يوم 8 أكتوبر الذي صادف عيد ميلاد بيرون كانت ايفيتا بحالة طيبة بحيث إستطاعت أن تنهض من الفراش لكنها لم تستطع حضور الإحتفال الذي أقيم بنشر كتابها (غاية حياتي) بعد أسبوع من ذلك. لقد وافق الناشرون (ايدتوريال بيوسير) على نشر الكتاب على أن تذهب كل الأرباح إلى ايفيتا (تغطي الحكومة تكاليف النشر). جرى نشر 300.000 نسخة من ثلاثة طبعات : طبعة ممتازة ، طبعة بغلاف مقوى ، طبعة بغلاف ورقي. وفقا ل (ديموقراسيا) التي نشرت مقالات ومقتطفات من الكتاب فقد جرى بيع 150.000 نسخة في اليوم الأول من نشره وباع صاحب مكتبة لوحده في بوينس ايرس 1500 نسخة وبعد شهر فاقت المبيعات نصف مليون نسخة بحيث فاق مبيعات أي كتاب أخر في الأرجنتين. في يوم 17 اكتوبر 1951 الذي جرى تخصيصه من قبل النقابات لنكران ذات إيفيتا ، تجمع أكثر من مليون ونصف في (بلازا دي مايو) آملين في رؤيتها. لقد أعطيت في ذلك اليوم جرعة من المورفين ومع أنها كانت قادرة على الوقوف في الشرفة ، إلا أنها كانت متعبة ، هزيلة وفي حالة تراجيدية ، ترتدي بدلة سوداء كأنها صممت لشخص أخر. في ذلك اليوم تلقت وسامين : واحدة من (خوزيه إيسبيجو) نيابة عن الإتحاد العام للعمال لنكران ذاتها وهي عظمة تعبر عن أعمال القديسين والشهداء ، أما الميدالية الثانية فكانت من بيرون وهو وسام البيرونية الفخيم وهي رتبة استثنائية تمنح لأول مرة. حينما جاءت لحظة ايفيتا للحديث تقدمت نحو المايكرفون لكنها كانت غير قادرة على التحدث بكلمة. خيّم الصمت على الحضور فيما تراجعت إيفيتا وبدأ بيرون الحديث مرة أخرى بتقدير لزوجته في حديث يشبه خطبة جنائزية في الشكل والمضمون ، تلخيص تام لمهنتها العملية. إن بيرون لم يسبق له ابدا من قبل ان تحدث للعامة عن زوجته بشكل تفصيلي وهو الآن يفعل كما لو أنها ماتت سلفا. تحدث بيرون عن ثلاثة أدوار لها : كرابطة بين النقابات ، منشئة للمؤسسة ومؤسسة للحزب النسائي. (بإمكانياتها الطبيعية للتنظيم السياسي على نطاق واسع ، أعطت الحركة البيرونية توجها جديدا ورمزيا .. إن عملها اليومي في وزارة العمل الذي فقدت فيه جزء من حياتها وصحتها كانت محرقة انابة عن شعبها ، مما مكنني من أن أعيش كل جزء من اليوم في اتصال مع الشعب. فوق ذلك ظل إحساسها الرائع متيقظا ذكاء وولاء لأكثر محددين حاسمين القدر وتاريخ الانسان). لم يحدث أبدا أن تلقت إيفيتا مثل هذا الثناء من بيرون. إستمعت اليه وحينما إنتهى نهضت على قدميها دون مساعدة بينما كان الحشد ينتظر في صمت. إتجهت اولا نحو بيرون وحضنته ثم بدأت حديثها بصوت واهن ومبحوح. بدأت بالإلتزام بأن تكون حاضرة في كل اكتوبر مع بيرون والبدون قمصان ثم إتجهت إلى الجماهير قائلة (إنني لا أستطيع أن اكافئه ابدا ، حتى لو أعطيته حياتي وبأن أشكره على كل جميل فعله ليّ .. إنه كله لبيرون .. لن ألقي كذبة معتادة .. لن أقول أنني لا أستحق ذلك ياقائدي .. إنني أستحقه لسبب واحد فقط ، سبب أكبر من كل ثروات العالم .. أستحقه لأن أي شيء فعلته نابع من حب هذا الشعب .. أنا لست شيئا لأنني فعلت شيئا.. إن كل شيء في قلبي ، يبرح جسدي ويشتعل فوق أعصابي هو حبي لهذا الشعب وبيرون .. أنا أشكرك يا قائدي لأنك علمتني كيف أعرف أن أحب وكيف أقيّم هذا الحب .. حيثما طلب الناس حياتي سوف أعطيها وأنا أغني من أجل سعادة فرد من البدون قمصان وهو جدير بأكثر من حياتي). بينما كانت الحشود تقف في صمت ، بدأت ايفيتا في مناشدتهم بأن يكونوا يقظين نيابة عن بيرون (إنني أطلب منكم شيء واحد يا رفاق ، علينا أن نقسم الآن بالدفاع عن بيرون والقتال حتى الموت من أجله. ليكن قسمنا بالهتاف لدقيقة كاملة بحيث يصل صوتنا أخر الأرض : يحيا بيرون). عندها هتف الحشد المؤلف من مليون ونصف بهذه الكلمات لكن ليس لدقيقة بل لدقائق عديدة. كانت إيفيتا قوية بما يكفي لإنهاء خطابها ومد يديها عبر الشرفة لإعطائها حبها لهم ثم تقع بين يدي بيرون بينما الجماهير تهتف بإسمها. بعد هذا الظهور العلني ساءت صحة إيفيتا وتقرر عدم تأخير إجراء العملية بالرغم من الضعف الجسدي لها. تزامنا مع ذلك فقد ذهب الكثيرون إلى أن هذا الإنهيار في صحتها قد جرى الترتيب له من أجل نهايات سياسية ، فيما حدد لإجراء العملية قبل وقت قصير من إجراء الإنتخابات الرئاسية. كانت إيفيتا بحالة طيبة بحيث تجعلها تختار قائمة المرشحات. لقد نفذت حملتين اذاعتين : الاولى إحتفالا بافتتاح مدينة الاطفال والثانية موجهة للنساء البيرونيات حاثة اياهم على التصويت ، غير أنها في الحالتين كانت تبدو متعبة ومحبطة بسبب غيابها عن الشئون السياسية وعدم قدرتها على مساعدة بيرون. ألمعارضة من جهتها إختارت مرشحين أقوياء : ريكاردو بالبين وارتورو قرونديني كرئيس ونائب رئيس على التوالي وكانت الحملات عنيفة . في اجتماعات بيونس ايرس كانت هناك هجمات الشرطة على التجمعات والمعارضة وحدثت وفيات واصابات. في 3 نوفمبر وبعد وقت قصير من تسجيل جرى اذاعته بعد ستة أيام عشية الإنتخابات، نقلت ايفيتا بواسطة الإسعاف إلى مستشفى بيرون الذي بنته المؤسسة في (افيلاندا). لم يصدر إعلان عام لكن سرى الخبر بين الناس فأمتلأت الشوارع بتجمع يصل غلى عشرين الف وظل بعضا من هذا التجمع باقيا طيلة الوقت الذي بقيت فيه ايفيتا في المستشفى. في واشنطون كانت السفارة الأرجنتينية قد وجهت الدعوة للدكتور / جورج باك وهو جراح يعمل في مكز سلوين – كيتيرينق التذكاري في نيويورك قبل شهروهوالان دعي إلى بيونس ايرس في سرية شديدة. عندو صوله جرى استقباله بواسطة خوان شقيق ايفيتا وصديق يتحدث الانكليزية حيث جرى نقله بسرعة إلى المنتجع الرئاسي للعطلات في (اوليفوس) حيث ظل باقيا طيلة فترة اقامته. إن ايفيتا لم ترى دكتور باك ابدا ففي كل البلاد كان هناك انطباع بأن العملية سيجريها الدكتور / ريكاردو مينونيتو وهو جراح ارجنتيني يعمل مديرا لمستشفى بيرون الرئاسي. بعد يومين من عملية استئصال الرحم غادر دكتور باك البلاد مثلما جاء اليها ، راضيا على الأقل بأن إنتشار المرض قد جرى إحتوائه وأن ايفيتا سوف تشفى من العملية. في 9 نوفمبر اخر يوم من الحملة الرئاسية أجاز مجلس الإنتخابات الأرجنتيني بموافقة أحزاب المعارضة قرار يسمح لايفيتا بالتصويت من فراشها في المستشفى. في يوم 11 نوفمبر جاء اليها رئيس الدائرة التي ستصوت فيها ومعه مراقبيين وشرطيين وهم يحملون اوراق الاقتراع والصناديق التي تضع فيها صوتها ، ثم غادروا الغرفة محترمين سرية التصويت. حينما كان من الممكن لها أن تقوم ببعض المهام من غرفتها ، كانت تستقبل الوفود والنساء البيرونيات ودائرتها من التابعين السياسيين - حيث يتعذر إستقبالها للفقراء بسبب حالتها - وكان وجودهم يؤكد الإدعاء بأنها لا تزال تدير المؤسسة وانها تعمل مع النقابات وفي الامسيات كانت تشاهد الافلام في صالة المقر الواسعة. في الليل وحينما تذهب للفراش كانت تستدعي أصدقائها مثلما كانت تفعل في مكتبها وتتحدث معهم عن السياسة.في فترة من الوقت بدأ وكأن ايفيتا قادرة على إستئناف بعض اعمالها. لقد أظهرت نتائج الانتخابات فوزا لبيرون بهامش أكبر من فوزه عام 1945 وبدعم جديد من النساء البيرونيات مؤيدي ايفيتا. في 2 ديسمبر أذاعت خطابا عبرت فيها عن آمالها بالعودة للقتال وتعاملت مع النصر الإنتخابي كما لو أنها نصرها وذلك بشكرها للشعب للتصويت لبيرون مثلما طلبت منهم ذلك. في الكريسماس كانت قادرة مرة أخرى على توزيع بعضا من ملايين ألعاب وقوارير المؤسسة وذلك من الحدائق الرئاسية. في يناير قضت أسبوعا في اليخت الرئاسي ولكن في فبراير إشتكت من نفس آلام البطن التي كانت تشكو منها في السابق وكشفت عينة أخذت منها أن السرطان آخذ في الإنتشار ، لكن هذه المرة لم يكن هناك سوى القليل فعله لايقاف نموه. يقول الأب (بينتيز) (لم يخبرها أحدا من قبل بما تعانيه ، لكنها كانت تعلم أن الأمور لا تمضي على نحو جيد فقد كانت تعاني من ذات الالام الحادة ، فقدان الشهية ، الكوابيس المزعجة ونوبات من اليأس).كان الصيف رطبا وايفيتا راقدة في فراشتها ببجامتها بينما كانت حولها تمائم ، أحجار وايقونات يفترض أنها تمنح العلاج الإعجازي ، فيما تصل إليها كل يوم باقات الزهور . تقول ايفيتا لممرضتها (إنني أؤمن بالسيدة العذراء لكنني لست لاعقة للشموع). سواء أكان بسبب الألم أو العقاقير أو بسبب أنها تعرف قرب موتها فإن تعابير إيفيتا العامة أصبحت أكثر عنفا وتهديدات بالتدمير واشارات مسيحية لما بعد الموت. في الواقع فإنها كانت صرخات الألم والضعف. في 1 مايو أصبحت ايفيتا قادرة على السير لوحدها الى شرفة (كاسا روسادا) لتحية البدون قمصان حيث دافعت عن بيرون بإعتباره (القائد الحقيقي للشعب) وهاجمت أعدائها بحدة قائلة (إذا لزم الأمر فإننا سنطبق العدل بايدينا .. أسأل الله أن لا يدع هؤلاء المجانين أن يرفعوا ايديهم ضد بيرون .. لنحذر .. في ذلك اليوم سوف أمضي مع الطبقة العاملة ، مع نساء الشعب ، مع البدون قمصان ولن أدع شيئا يكون ماثلا سوى بيرون). بعد هذه الكلمات نقلت من الشرفة بواسطة بيرون. يقول بيرون (في الغرفة وخلف النوافذ التي كان يسمع من خلالها الهتافات التي تنادي بإسمها ، كنت أستمع فقط إلى أنفاسي ، ذلك أن ايفيتا كانت ضعيفة تماما بحيث لا تدرك شيئا .. على أذرعي لم تكن هناك سوى إمرأة ميتة). مرة أخرى وبعد أربعة أسابيع أصبحت ايفيتا قادرة على النهوض من الفراش لمقابلة الحكام البيرونيين ومرة اخرى تستخدم ذات الكلمات الأخيرة لجعل تهديداتها العنيفة في لغة كثيفة. في 4 يونيو جاء (راؤول اليجاندرو ابولد) السكرتير المساعد لوزارة الإعلام إلى المقر الرئاسي ، صباح تقليد بيرون السلطة مع عمل دعائي لايفيتا يحمل عنوان (الأرجنتين إلى الأمام). عبر بيرون لابولد عن قلقه من أن تلعب ايفيتا دورا في ذلك اليوم بسبب الموكب الطويل من الكونغرس إلى (كاسا روسادا). كان على ابولد أن يخبرها بأن الجو بارد. كانت ترتدي بيجامتين وبدأت في التصفح في الكتاب وحينما رأت صورتها أخذت تبكي قائلة (كيف كنت وكيف أصبحت الآن ؟). بدأ ابولد في تغيير الموضوع متحدثا عن برودة الطقس ، غير أن إيفيتا اصبحت غاضبة وقالت (إن ذلك أمر القائد لكنني سأمضي مهما كان .. الشيء الوحيد الذي سيمنعني هذا اليوم من النهوض من الفراش هو الموت). عندها وضع موظف المقر إطارا لاصقا وسلكا بحيث يسندها ثم ارتدت معطف فراء كبيرا عليها واصبحت قادرة على الوقوف بجانب بيرون في سيارة مكشوفة تحي الجماهير مع ابتسامة مبهمة وذلك بعد أن إحتاجت إلى جرعة ثلاثية قاتلة للألم قبل أن تبدأ إحتفالات التدشين ثم جرعتين عند (كاسا روسادا). في يونيو 1952 أي بعد عشرة أشهر من بدء مرضها كان وزن ايفيتا قد وصل الى 80 رطلا (38) كيلو وكان وزنها ينقص كل يوم. بالنسبة للمناوئين لبيرون والصحافة الاجنبية فإن مرضها فسر اولا على انه انهيار عصبي ذو منشأ نفسي جسدي وأنه رد فعل طبيعي لإمرأة ذات طبيعة طموحة إزاء إحباط سياسي كبير عايشته ، ثم لما بدأ جليا أنها لم تشف ظهر تفسير أخر إكتسب التصديق كونه قريبا من الحقيقة. ذلك التفسير بدأ مع افتراض ان ايفيتا مثلت مصدر اعجاب الجماهير وان بموتها وشيك الحدوث فإن الدكتاتور واعماله سوف تنهار بسرعة.إن عروض بيرون المتكررة عن زوجته كانت تبدو كأفعال متهورة وفي هذا السياق المثير نشط حوار حول ايهما استخدم الأخر مع العديد من القصص من أن بيرون أجبر على جر زوجته المكرهة الى المنصة العامة وهي تصرخ من الالم. حينما لا يصور بيرون كمتهور فإنه عادة ما يوصف بالجبن امام معاناة زوجته. في المقابل كان هناك عدد كبير من الأوهام الغريبة تتعلق بالإنتقام ، المرض أو الموت وقد تكررت هذه الأوهام أثناء مرض ايفيتا الطويل وقد عزته الطبيبة النفسية (ماري لانجر) إلى الشعور بالذنب والخوف الذي إستقر لدى الكثير من الأرجنتينيين فيما يتعلق بإيفيتا. لقد إعترف الكثيرون من مرضى (لانجر) بأنهم كانوا يرغبون في موتها وهي الآن تموت ، يشعرون بالذنب والقلق ويعانون من مرض الوسواس (لقد عبّروا عن مخاوفهم من عقوبة الكتاب المقدس – العين بالعين والسن بالسن) . لقد سرى في أكثر أحياء المدينة ثراء أقاويل من أن الأمهات لا يأخذن أطفالهن لمراكز الأطباء والمستشفيات لأن إيفيتا تحتاج إلى دم جديد وحيوي كل يوم وأن الدم يجمع ليؤخذ بواسطة المؤسسة الى المقر الرئاسي. بين مؤيدي بيرون استمرت اقامة القداس والزوار والمواكب وخلق مناخ بالشعور بأن تقدير ايفيتا ليس كافيا وأنه لا يستطع أن يشمل مناقبها. لقد تلقى كتاب (غاية حياتي) ملاحظات نقدية هامة ، حيث سأل أحد النقاد في (ديموقراسيا) : (ما هذا الصوت الذي أيقظ ذات المشاعر في قلوب الرجال ؟) ومضى للأبعد مختتما : إنه فقط صوت المسيح. لقد أعلن الأن عن نسخ من الكتاب باللغة البرتغالية والعربية وبلغة برايل وأصدر الكونغرس مرسوما يجعل فيه الكتاب الزاميا لكل المدارس التي تديرها أو تمولها الدولة. بينما كانت حالة ايفيتا تتدهور في ذلك الوقت قررت مدينة (كويلميس) تغيير إسمها إلى (إيفا بيرون) وبعد جلسة تشريعية خاصة منحها الكونغرس لقب (القائدة الروحية للأمة) وإعترافا بهذا اللقب الذي لا سابقة له منحت قلادة من رتبة المحرر سان مارتين وهي قلادة تحتوي على (753) حجرا ثمينا وضم ستة تشكيلات ممسزة : درع بيروني ، العلم الوطني ، تاج من إكليل الغار ، طائر الكوندور ، دروع الأربعة عشر مقاطعة مصنوعة من الذهب ، البلاتين ، ماسات ومينا مطلية. لسنوات خلت فكرت الحكومة في إقامة نصب تذكاري لثورة أكتوبر 1945 ، غير أن شيئا لم ينجز حتى أوائل 1951. حينها عهدت إيفيتا مهمة إعداد نموذج للمشروع للنحات الإيطالي (ليون توماسي) الذي عرض نموذجه على إيفيتا قبل وقت قصير من إجراء عمليتها ورات الحكومة لاحقا أن تعرف ردها الذي كان (يجب ان يكون النصب الأكبر في العالم .. في قمته يجب أن يكون هناك أحد البدون قمصان وبداخل النصب علينا ان نبني المتحف البيروني في أسفله يجب أن يكون هناك سردابا يحتوي على رفات اؤلئك الذين ماتوا اثناء الثورة). لقد تأثرت ايفيتا بمدفنة نابوليون في باريس وأخبرت توماسي بأن لديها شيئا في ذهنها مثل ذلك. حيث أنه بدأ جليا أن ايفيتا ستموت إجتمع مجلس الشيوخ في 7 يوليو لنقاش عما إذا بالإمكان تخصيص النصب لايفيتا. خلال النقاش استمع السناتورات إلى تقدير بيرون لايفيتا في أكتوبر الماضي وأعطى فيه اربعا وثمانين حديثا على شرفها. هذه الأحاديث جمعت أخيرا في كتاب جلدي وقدم إليها بواسطة السناتورات المخلصين ، حمل عنوان (إيفيتا في البرونز). على إمتداد شهري مايو ويونيو وهما أخر شهرين في حياتها أخذت ايفيتا تدعو الذين كانوا يعملون معها الى جوارها وتعطيعهم كثير من التذكارات ، قطع من جواهرها الخاصة ، الميداليات التي تحمل صورتها الجانبية والتي ضربت وفقا لمواصفاتها الشخصية. لقد كانت تعلم بأنها ستموت قريبا وتبجيلها كانت تراه في كل مكان. في ذات مرة وجهت حديثها إلى الأب (بينتيز) وبحضور اتيليو رينزي وجمهور من مسئولي النقابات (كما لو أنني جبانة ..إنني أعلم أنني سقطت في حفرة لا يستطيع أحد أن يخرجني منها) ثم قالت لراؤول ابولد : لقد حلمت بأنني مت وأنت تدعو الصحف لتكتب في عناوينها وفاتي. إنه لبعيد الإحتمال أن تكون ايفيتا قد رغبت في أن تحنط أو أن تختار مكان رقدتها الأبدية. إن اقتراحاتها بفعل ذلك يعكس رد بيرون على الكثير من الإنتقادات لما حدث لجثمانها بعد الموت ، غير أن رغبتها في الموت بشكل علني بالمعنى الذي تحدثت عنه بيونس ايرس هو أمر فوق الشك. لقد رغبت أن تقحم حقيقة موتها بكل عناصر الشفقة والظروف الدرامية في الوعي العام وبالتالي في الوضع اللائق في التاريخ. في الأسابيع الأخيرة وحينما كانت واعية بدأت في كتابة كتاب أخر هو (رسالتي) والذي لم يطبع أبدا. لقد كان مثل خطبها الأخيرة ، مقالات عن سمو بيرون وهجوم حاد على أعدائها خاصة الجيش الذي حل الآن محل الأقلية في ذهن ايفيتا ، كونه يمثل التهديد الأكثر خطورة لبيرون. كذلك كتبت وصيتها بقيت منها نسختين. الوصية الأولى أعلنت للعامة فورا ، أما الثانية فقد سلمت إلى صحفي أرجنتيني بواسطة بيرون في نهاية عام 1975 والوصيتان بنفس الطابع: (أرغب أن أعيش للأبد مع بيرون ومع شعبي .. إن هذه هي وصيتي النهائية غير القابلة للتغيير وهي أيضا رغبتي الأخيرة .. حيثما يكون بيرون ويكون البدون قمصان فقلبي سوف يكون معهم دائما لأحبهم بكل قوة بقيت في حياتي .. بكل التعصب الذي يشعل روحي). لقد أعلنت هذه الوصية على العلن وفي بدايتها إشارة إلى سلسلة من التبجيلات لبيرون ، ثم مضت إلى ممتلكاتها – الجواهر ، الملابس والمؤلفات من الكتب – وذلك بأن توضع تحت تصرف بيرون كممثل وحيد للشعب : (أرجو أن ينشأ صندوق دائم بكل أصولي لكي تستخدم في حالة حدوث كوارث تؤثر على الفقراء وأرغب في أن تشاهد تلك الأعمال كدليل على حبي لهم. أرغب في كل حالة أن تمنح كل عائلة إعانة تعادل راتب شهر. أما المجوهرات التي لا تتعلق بي فإن معظمها قد جاءني من شعبي ولكن حتى القطع التي تلقيتها من الأصدقاء، الحكومات الأجنبية أو من بيرون يجب أن ترجع للشعب والتي لا أرغب أن تقع في أيدي الأقلية وهذا هو السبب الذي يجعلني أن تظل كمصدر دائم للإعتماد بحيث يمكن للمصارف أن تستخدمها لمصلحة الشعب. كذلك أرغب في أن يكتب إليّ الفقراء ، الكبار ، الأطفال والبدون قمصان كما فعلوا في حياتي وأرغب في أن يقام النصب الذي يرغب الكونغرس في تشييده ليجمع آمال كل شخصويحولها إلى حقيقة بواسطة مؤسستي .. إن كلماتي الأخيرة هي مثل كلماتي الأولى .. أرغب أن أعيش بشكل أبدي مع بيرون ومع شعبي .. الرب سوف يسامحني إذا ما فضلت البقاء معهم لأنه مع الفقراء وقد عرفت ذلك بشكل دائم في كل فرد من البدون قمصان بأن الله طلب مني الحب الذي لم أمنعه أبدا). أما رغباتها الأخيرة فقد كانت مختلفة تماما وبدت كأنها لشخص أخر ، غير أنها لم تكتب على الآلة الكاتبة بل بخط (إيفيتا) غير المقروء (أعترف بأنني عانيت لكنني عانيت كثيرا من الإحساس بضعف إمرأة مسكينة تود أن تفعل الخير ولم تفهم ورؤية الفقراء والشعب وهم لا يستفيدون من إنتصاراتهم ، ليس فقط لأن الخونة إستمروا في إستغلال مصالحهم ، بل لأن الفقراء أنفسهم قللوا من هذه الإنتصارات .. أود أن يعرف الشعب كم أحبه كثيرا وكم أحب بيرون نفسه.. إذا لم يساعد الله كل شعوب الأرض فإن ملايين العمال ، النساء ، الأطفال والكبار سوف يستغلون بواسطة اؤلئك الأشرار. إنني لم أبدد وقتي أبدا بالجلوس طويلا على مقاعد الكنائس لأنني أفهم الرب من دون أي وسائط ولأني حينما أساعد فقيرا ، أعالج مريضا ، أمنح طعاما وبيتا ، أقاتل من أجل المساواة وكرامة العاملين وأؤمن بأنني سأكون قريبة إلى الله وأسأله أن يحقق الآن هذه المعجزة ويظهر ساعة الشعب .. لأن قوة رجل مثل بيرون رجل وطني وجدير بالإحترام ، هي قوة لا حيلة لها أمام شر المال) وتواصل : على المؤسسة أن تصبح جزء من الإتحاد العام للعمال ، تدير أصولها إنابة عن أعضائها ، أمر إن تحقق يعني أن رغبتي قد لبيت بإحالة الأمر إلى البدون قمصان. أخيرا وقبل أن تسلم المجوهرات للفقراء يجب أن تمنح كل قطعة جميلة لأخواتي : بلانكا ، إليسا وإيرميندا . كانت رغبتها الأخيرة : أنني أطلب من القائد طالما هي على قيد الحياة أن تمنح أمي 3000 بيسو شهريا وعليه أن لا ينسى أبدا دونا خوانا التي لا أستطيع أن أنساها. إنه من الصعب فهم عدم كشف هذا المستند للرأي العام . لقد بدأ مستندا يائسا ومذكرة متنافرة بأسلوب رسمي من الحداد. إنه من المحتمل تماما أن يكون قد (نقح) بموافقة ايفيتا وأصبحت الوصية الأخرى ، لكن من المرجح أن لا يكون لديها وقتها فكرة عما يجري حولها. في 18 يوليو وعند الساعة الثالثة عصرا دخلت ايفيتا في غيبوبة ولكن في منتصف الليل إستيقظت مرة أخرى ورأت عائلتها والأطباء من حولها وسألت : ماذا حدث ليّ؟ كان عليّ أن أنهض من الفراش ولدهشة الحضور نهضت من فراشها وسارت عدة خطوات على يد بيرون. كانت عائلتها بجانبها كثيرا في الأيام الأخيرة وكانت في الغالب تطلب من الاب (بينتيز) أن يبقى معاها ساعات طوال. في 25 يوليو حضر جراحان من المانيا متخصصين في مرض السرطان وبعد الكشف عليها أخبروا بيرون بأن لا شيء يمكن فعله لإيفيتا. عندها أخبر بيرون الأب (بينتيز) بأن عليه أن (يعد الشعب لوفاتها). كان مساء باردا وممطرا ولم تستطع أوركسترا (كولون أوبرا هاوس) أن تعزف في الهواء الطلق (قداس شوبير) كما كان مخطط له ، غير أن الالاف من سكان بوينس ايرس جاءوا لسماع القداس الذي يرعاه الإتحاد العام للعمال في قاعدة المسلة الكبرى في (افينيدا دي جوليو) وفي عظته تحدث الأب بينتيز عن إيفيتا ك (أختنا وأمنا) وبينما أمر الحشد بالصلاة من أجل معجزة الشفاء ، لفت الإنتباة مرة بعد أخرى إلى كثير من المعجزات الأخرى التي تحققت بالإذعان المسيحي. في يوم السبت صباح 26 يوليو 1953 وفي يوم شتائي رمادي رطب قالت إيفيتا لخادمتها (إنني لم أشعر أبدا بأنني سعيدة في هذه الدنيا). عند الساعة الحادية عشرة دخلت في غيبوبة وفي الساعة الثالثة عصرا قرأ عليها الأب بينتيز كلمات السر المقدس الأخيرة. في تلك الساعة كانت هناك إعلانات دورية في شبكة الإذاعة الوطنية من المقر الرئاسي : أولا عن أن حالتها الصحية تدهورت وفي الساعة الثامنة أن (حالتها خطيرة جدا) وكان حول إيفيتا وقتها : بيرون ، أمها ، أخواتها ، أخوها ، رينزي وأعضاء الحكومة ، نيكوليني ، الوي ، كامبورا وأبولد. عند الساعة الثامنة والخامسة والعشرين دقيقة توقف تنفس إيفيتا وكانت قد إحتفلت قبل شهرين بعيد ميلادها الحادي والثلاثين ، غير أن عمرها في الواقع ثلاثة وثلاثين عاما. بعد دقيقة من ذلك وجه (راؤول ابولد) من سكرتارية الإعلام خطابا للشعب يعلن فيه أن (القائدة الروحية) قد ماتت وأن جثمانها سوف يعرض في اليوم التالي بوزارة العمل حيث يمكن للجمهور رؤيتها. مع أنه لم تعط تعليمات في هذا الحدث ، إلا أن كامل المدينة وكامل البلاد غرقت في حالة عميقة من الحزن : أوقفت السينمات أفلامها ، قطعت المسارح مسرحياتها وأخلت المطاعم والبارات زبائنها. خلال دقائق اصبحت المدينة صامتة ومظلمة . أصبحت الجماهير الآتية من مباريات كرة القدم أو أماكن التسلية ، تتجول تائهة في الشوارع تنتظر صحف المساء لتتعرف للمرة الأولى على الجوانب الطبية لمرض إيفيتا. تجمع حشد كبير أمام المقر الرئاسي ، بعضهم جاث على ركبتيه رغم برودة الجو وهم يتمتمون بأدعية بمسبحاتهم. في الداخل إمتلأ المقر بعدد كبير من أعضاء الهرم التنظيمي البيروني. أحد الذين كانوا في الإنتظار في الطابق الأرضي (ارا بيدرو) وهو بروفيسور في التشريع ومحنط مع أنه يزدري هذا اللقب. لقد درس (ارا) في فيينا وعمل كأكاديمي في مدريد وقدم طوال سنوات كثيرا من الأمثلة عن عمله في التشريح ، مما حدا بصحيفة أرجنتينية بأن تطلق على أعماله (فن الموت). كان أرا قصيرا ، أصلعا كتوما على مهنته وهو غير معروف على نطاق واسع في الأرجنتين ، لكنه كان معروفا في مجتمع بوينس أيرس .كانت طريقته في التحنيط تعتمد على إستبدال الدم بالجلسرين وبالتالي الإحتفاظ بكل أعضاء الجسم والمحافظة على مظهرها النابض بالحياة . كان قادرا على تطبيق النموذج الجديد من النحت التشريحي للجسم البشري ، معطيا الميت مظهر النائم. من بين إنجازاته كان تحنيط جثمان الملحن (مانويل دي فالا) وقد دعي إلى المقر الرئاسي لبحث إمكانية تحنيط جثمان إيفيتا عند دخولها غيبوبتها السابقة والآن وبعد أن أرسل إليه بيرون ، بدأ هو ومساعده في العمل لإنجاز كامل مهمة الحفظ ، لأن ذلك يتطلب كثيرا من الوقت وتجهيزات أساسية ، لجعل الجثمان مهيأ لمواجهة الجمهور. كان (ارا) لا يزال ملازما حينما جاءوا بلباس ايفيتا : أولا جاء الخياط بكفن أبيض ثم جاء مزينها (خوليو الكارزا) ثم (ساريتا) التي كانت تطلي لإيفيتا أظافرها وكانت ايفيتا قد طلبت قبل وفاتها أن يزال اللون الأحمر ويستبدل بطلاء أظافر شفاف. يقول دكتور ارا (كانت يديها باردتين وحينما لم أستطع فتح الأصابع وضعت أصابعي بين أصابعها وبالتالي أصبحت قادرا على أداء عملي وحينما أنتهيت اخذت أشيائي وغادرت – كما لو أنني في حلم). كانت الترتيبات المتعلقة بفترة الحداد الوطني تجري على أوسع نطاق. علقت الحكومة كل النشاطات الرسمية لمدة يومين ونكست كل الأعلام في المباني الحكومية لمدة عشرة أيام وأعلن الإتحاد العام للعمال إضرابا عاما ليومين في كل المرافق عدا الصناعات الأساسية والأشراف على شهر حداد إلزامي لكل أعضاء الإتحاد ، ترتدي فيه ربطة عنق سوداء ، قميص أبيض ، جاكت اسود. كانت الجموع كثيفة خارج المقر الرئاسي وأكثف حول وزارة العمل الذي بدأ الناس يتوافدون عليه منذ لحظة إعلان الوفاة وأزدحمت الشوارع في كل إتجاه بحيث شغلت عشرة صفوف من المباني. حينما تحرك جثمان ايفيتا من الإسعاف إلى الوزارة توفي ثمان أشخاص نتيجة التدافع وفي اليوم التالي جرى معالجة 2100 شخص من الجروح. في المقابل ملأت أكاليل الزهور البيضاء الردهات العلوية لوزارة العمل وتدفقت الزهور في الشوارع وتكدست بأكوام كبير مقابل الجدران أو ديست على الأرض. خلال اليوم الذي تلى وفاة إيفيتا كان من غير الممكن العثور على زهور من أي نوع في محلات الزهور في بوينس أيرس. كانت السماء تمطر وتتوقف طوال يوم الأحد ، فيما أصاب الإنهاك الذين ظلوا ينتظرون طوال الليل تحت المظلات والصحف وذلك بسبب البرد وقلة الطعام وكانوا يقفون في صفوف تنظمها الشرطة وعند النهار سمح لأوائل تلك الجموع بالدخول إلى الوزارة والذين يتحركون في صفوف إلى الأعلى على جانب واحد من السلم الثنائي حيث يعرض في الأعلى النعش. كان حول النعش علم الأرجنتين . بعض الناس لامسوا النعش برفق وبعضهم إنحنى ليقبل الزجاج واخرين صلوا والكثيرين إنفجروا بالبكاء بحيث إحتاجوا إلى مساعدة ممرضة المؤسسة او أخرين من الحراسة. في نهاية الثلاثة أيام التي حددت رؤية إيفيتا بدأ واضحا ان كثيرا من الناس الذين كانوا يرغبون في رؤية ايفيتا لم يتمكنوا من ذلك، مما إضطر الحكومة لأن تمدد المدة إلى ثلاثة عشر يوما أخرى . في عطلات الأسبوع التالية كانت كل المطاعم ، المحلات ، المسارح والسينمات ، النقل العام مغلقة. لقد وضعت صور ضخمة لايفيتا في تقاطعات الشوارع على إمتداد المدينة وفي المسلة كانت هناك شاشات تعرض بإستمرار فيلما أعد على عجل عن أعمالها. مع المطر اصبحت المدينة رمادية والطرق لامعة وسوداء والسماء كثيفة. في كل ليلة كانت هناك مواكب للناس وهي تحمل مشاعل مضيئة ، بينما أشعلت الشموع أمام صورة ضخمة لايفيتا. وفقا لصحيفة (لا ناسيون) : كان يمكن أن تسمع من أبواب الكنيسة المشرعة همهمة الاستجابات وصدى القداس المستمرلروح ايفيتا ومن مكبرات الصوت عند المسلة كانت تسمع الأناشيد الجنائزية. بينما اليوم يمضي أثير الحزن الشعبي مرة أخرى بإجراءات حكومية حينما نقل طلبة المدارس بالبصات وسمح لهم بالوقوف في صف لرؤية جثمان ايفيتا. في الغالب فإن الشعور بالفقد كان معايشا بشكل شخصي وحقيقي تماما. ربما أن الناس الذين شاهدوا ايفيتا بعد موتها أكثر من الذين دخلوا مكتبها في حياتها وبالنسبة للكثيرين فإنهم عايشوا تجربة لن ينسوها ابدا ، حتى النقاد الذين قسوا على البيرونية في الداخل او الخارج أتفقوا مع محرر مجلة (لايف) الذي كتب (إن هذه الأحزان الأرجنتينية ليست نتيجة إكراه من خوان بيرون .. إنها أحزان حقيقية وعميقة ، تظهر أن إيفيتا التي ساهمت بشكل قوي في السلطوية وإفلاس بلادها .. ظفرت أيضا بحب بلدها). إن جثمان إيفيتا لم يحفظ برؤية أن يظل معروضا وحدود عمل الدكتور (ارا) بدأت في النهاية تظهر. في داخل اللوح الزجاجي ظهر ضباب مما حجب ملامح ايفيتا فأضطر إلى سحب الغطاء مرات لتنظيف الزجاج . أخيرا أحدث الدكتور عدة ثقوب ونظف النعش وبالتالي آمن درجة الحرارة التي في الداخل ونظف الضباب. أحس (ارا) أن ذلك يضع التأثيرات الجمالية في خطر ، من خلال إزالة الماء من معظم الأجزاء المعرضة للخطر مثل الأصابع والشفاه.في 9 أغسطس جرى اغلاق النعش ووضع في عربة مدفع وسحبت إلى الكونغرس ، لكن هذه المرة ليس بواسطة الخيول ولكن بواسطة خمسا وثلاثين من أعضاء الإتحاد العام للعمال وهم يرتدون قمصانا بأكمام قصيرة وبناطيل سود. في الكونغرس جرى فتح النش مرة أخرى وفي تلك الليلة وبعد أن أعطيت ايفيتا التشريفات المستحقة لرئيس دولة ، سمح للجميع برؤيتها. في الخارج كان هناك موكب أخر يحمل المشاعل انتهي الساعة الثامنة وخمس وعشرون دقيقة، حينها أوقدت مئات الالاف من المشاعل في وقت واحد. في اليوم التالي 10 أغسطس سحب النعش الموضوع في عربة مدفع بواسطة عربات ذات منصة من إتحاد العمال ونقابة عمال البترول ووراءه جموع البدون قمصان متجها نحو (أفينيدا دي مايو). في ذلك اليوم أصبحت السماء رمادية مرة أخرى وغطيت صابيح الشوارع بالقماش الرقيق وجرى حفظ النظام ب 17000 جندي. بجانب النعش سار ممرضات المؤسسة ، التلاميذ العسكريين ، أعضاء النقابات ، مزيد من الجنود ، ثم بيرون ، عائلة إيفيتا والمسئولين الحكوميين ، فيما عزفت فرقة عسكرية اللحن الجنائزي لشوبان وبكت الحشود في صمت. إزدحمت النوافذ والشرفات بالناس الذين كانوا يلقون الزهور. كان الأمر يحتاج إلى أكثر من ثلاث ساعات لقطع المسافة بين الكونغرس وال (كاسا روسادا) ، ثم تحول الموكب إلى المبنى المشيد بالإسمنت الخرساني والزجاج والذي كان قد بنته إيفيتا كمقر للإتحاد العام للعمال. هنا سوف يكمل الدكتور ارا عمله ريثما يبنى مرقدها الأخير. [email protected]