الفصل التاسع جسر الحب 1950 السنة الرابعة لجكومة بيرون بدأت بشكل سيء بالنسبة لإيفيتا. في خلال إحتفال جرى في ضواحي (افيلانيدا) كان عليها أن تقص شريط إفتتاح فرع جديد لنقابة سائقي التاكسي الموالين لبيرون ، أغمي عليها ونقلت بسرعة إلى المستشفى. على مدى الأربعة أيام التالية لم يرد ذكر لإسمها في الصحافة مع أنه كان دائم الذكر. في يوم 13 يناير أعلن أنه تم إزالة الدودة الزائدة لها في اليوم السابق وعندها حمدت البلاد على زوال الحطر ، في الوقت الذي جاء إلى زيارتها الوزراء ، السفراء ، رجال الكنيسة بما فيهم (نتنسيو) القاصد الرسولي للإطمئنان على حالتها ، بينما أقيمت صلوات القداس على إمتداد البلاد طلبا لشفائها. كان (أوسكار ايفانيسيفتش) أحد الأطباء الذين كشفوا عليها في ذلك ويشغل منصب وزير التعليم وأقترح لاحقا إجراء عددا من الإختبارات الطبية عليها بينما هي في المستشفى والتي كشفت معاناتها من مرض سرطان الرحم. وافقت (إيفيتا) على إجراء الإختبارات لكنها رفضت عملية الإستئصال حينما أقترحت عليها وغضبت ولم تعد تستمع إليه. لقد كانت مقتنعة بأنه لا يقدم إستشارة طبية نزيهة ، قائلة (سوف لن أدعك تلمسني لأنه لا عيب فيني .. كلهم يرغبون في أن أكون بعيدة عن السياسة لكنهم لن ينجحوا) الأمر الذي الجم الدكتور بهذا الهيجان. إن معايشة (إيفيتا) لأعراض مرضها لأول مرة بعيد عن التحديد . بعد وقت قصير من مرض (إيفيتا) قدم (أوسكار) إستقالته من منصبه ، غير أن هذه الإستقالة لم تعزى لصراحته مع إيفيتا بل لمعاملاته في السوق السوداء هو الذي أدى إلى مغادرته الحكومة. ربما كان (بيرون) هو الشخص الوحيد الذي أخبره (أوسكار) بالحقيقة ، حيث كان يشار بشكل دائم وخاطيء إلى أن زوجته تعاني من الأنيميا وأن هذا المرض قد إبتدأ قبل عام ونصف من تشخيصه الأول. في ذلك الوقت كان من الواضح لكل شخص أن (إيفيتا) مريضة . كان رأي بيرون الذي يردده أنها مريضة وأن موتها حتمي وهو ناتج من الرغبة في التدمير بالعمل المفرط. إنه إيحاء يأتي من شخص ماتت زوجته الأولى بنفس المرض. ربما قال لها (أوسكار) أنها مريضة وأن عليها أن ترتاح وربما تجاهلت نصيحته. في الأشهر التي تلت تلك العملية عملت (إيفيتا) بأكثر مما كانت تعمل من قبل ومع أنه قيل أنها كانت في سباق مع الزمن لمعرفتها أنها ستموت – مع أن ذلك لم يثبت – إلا أنه يظهر أنها كفت عن الإهتمام بنفسها ، حتى حينما أنهكت وأصبح من الواضح أنها مريضة ، إستمرت في العمل. إن واحدا من كثير من التحريفات التي دارت حول حياتها والأقرب إلى الحقيقة الرأي الذي مفاده أنها إختارت أن تموت من أجل بيرون والبيرونية. تلك السنوات شهدت ذروة نفوذ (إيفيتا) وكان حضورها العلني يبدأ كل صباح في الجناح الخاص في الطابق الثاني للمقر الرئاسي. تتذكر المصورة (جيزيل فرويند) : (أنها كانت تجلس في مدخل الصالة الواسعة بعد أن تكون قد سرّحت شعرها). في معية (إيفيتا) كان هناك حضورا سكرتيرتها (إيما نيكوليني) إبنه صديق إيفيتا التي عملت مع إيفيتا في السياسة ضد رغبة والدها ، أتيليو رينزي المشرف على المقر الرئاسي والذي ساعدها في المؤسسة ووزراء أمثال (ارماندو مارتن) أو (نيكوليني) نفسه الذي ولاؤه لإيفيتا مقنع تماما أو مسئولي النقابات من أمثال (خوزيه إيزبيجو) الذي إخلاصه فوق الشك ، أما (إيلينا ميركانتي) زوجة صديق بيرون القديم فلم تعد هناك وكذلك (إيزابيل إيرنست) السكرتيرة السابقة لإيفيتا والتي غادرت في عام 1948 ، أما بالنسبة ل (ليليان قواردو) فقد إختفت بعد أن أستبعد زوجها من دائرة مستشاري بيرون. حارج هذه الغرفة كان هناك جناح مؤلف من عدة غرف صغيرة تحفظ فيها (إيفيتا) ملابسها ومجوهراتها والتي كانت سعيدة بإظهارها للصحفيين من امثال (جيزيل فرويند). في المقابل كتب بيرون وبكل حس حقيقي أنه في الأعوام 1950 و 1951 (لقد فقدت زوجتي .. كنّا نلتقي فقط من وقت لأخر كما لو كنّا نعيش في مدينتين مختلفتين . كانت إيفيتا ولليالي عديدة تعمل طوال الليل وتعود عند الفجر لتنهض عند السادسة في الصباح لنذهب إلى – كاسا روسادا – وأقابلها عند الباب وهي منهكة لكنها راضية بعملها. في إحدى المرات قلت لها : إيفا أحصلي على بعض الراحة .. تذكري أنك زوجتي. نظرت إليّ بشكل جاد وقالت : إن فعلي هذا يجعلني أشعر أنني زوجتك). من جهة ألح بيرون على طبيب إيفيتا أن يمنحها راحة طويلة في (سان فيسينت) ، مثلما حدث في الأيام من زواجهما وهناك كانت تطبخ قليلا وتركب الخيل مع بيرون وترتدي بزته ، لكنها كانت تتحدث كثيرا في الهاتف ، مما حدا ببيرون لقطع أسلاك الهاتف ، غير أنها أعادت توصيل الهاتف ووضعته تحت الوسادة بحيث لا يسمع بيرون رنينه. في بيونس أيرس أحبطت محاولات بيرون العديدة لجعلها تأكل بإنتظام. إن المثالية المتقدمة لإيفيتا جاءت من جمالها وقوتها وكذلك من عادتها على العطاء. كان هناك متجر في فندق المؤسسة للفتيات العاملات ، حيث كانت (إيفيتا) تأكل في الغالب مع (دي بريسكو) وتقابل أتباعها في الشهور الأخيرة من عام 1950 . كان الشعراء يراقبون (إيفيتا) وهي تعمل . كانوا يتناولون طعام العشاء معها ثم يجمعوا كراسيهم في دائرة للإستماع إلى عمل كل واحد منهم . كانت هناك قصيدة بعنوان المجد للشاعر الكاثوليكي / خوزيه كاستنيريا يصف فيه أعمال إيفيتا ويجمعها مع السيدة العذراء. قبل وقت قصير من رحلتها إلى أوروبا عام 1947 قدم الصحفي الإسباني / مانويل بينيلا دي سيلفا إلى إيفيتا وكان قد هاجر إلى الأرجنتين من سويسرا وأثار إهتمامها بتصوره لكتابة سيرة ذاتية عنها. وافقت (إيفيتا) على العرض ودفعت له 50.000 بيسو وفي مرحلة ما من العام 1950 بدأ العمل في المشروع . حينما قرأت (إيفيتا) الصفحات الأولى من النص إنفجرت باكية وظلت تردد (كما لو أنها رواية) ، غير أن هذه المذكرات واجهت العديد من الصعوبات في إصدارها. وفقا لدي سيلفا فإن (إيفيتا) رغبت في البداية أن تصور مثالية وأسطورة بورجوازية ثم غيّرت رأيها ورأت أن تظهر تلك الصورة الورعة عنها وتضع نفسها في جلسات مع الصحفي تبرز فيها غضبها وما هو غير ملائم. أخبرت (إيفيتا) دي سيلفا بأنها تحب بيرون ولكنها بنفسها شخص عادي. كان دي سيلفا مهتما دائما بالجوانب النسوية لأعمال إيفيتا ويبدو أنه ضّمن أهميتها بهذا التفسير في المسودة الأولى للنص. من جانبه رأى الأب (بينيتيز) أنه يتضمن الكثير من التعابير الإسبانية ، أما (بيرون) فلم يعجبه ذلك العمل فطلب من (راؤول) مينون إعادة صياغة الكتاب ، مما جعل المسودة النهائية المعدلة تختلف كثيرا عن النص الأصلي لدي سيلفا.إيفيتا من جانبها كانت قد وافقت على ما ورد في كتابها (غاية حياتي) والذي أعيدت فيه مواضيع خطب (إيفيتا) بذات اللغة والصياغة ، غير أن الكتاب لم يتضمن حياتها قبل (بيرون) ، فقط هناك رواية محرّفة عن 17 أكتوبر وأكاذيب عن عملها (مثلا عدم تدخلها في الشئون الحكومية). إن هذا الكتاب يدعم أسطورة بيرون السخي ، الجاد في عمله ، المضحي بذاته ومع أنه يساهم من خلاله في أسطورة إيفيتا ، إلا أنه يجسّد كذلك فضيلة كل إمرأة ، الحب ، التواضع ونكران الذات. وفقا لسيرة (إيفيتا) الذاتية وسبب عدم إنجاب أطقال قالت أن أطفالها الحقيقيين هم أؤلئك الذين تحميهم – الفقراء ، الكبار ، العجزة من الأرجنتينيين – والذين يشتركون معها في الإعجاب ببيرون أباهم. لذا فقد أصبحت أمهم المثالية. إن بروز (إيفيتا) الإحتفائي في نظام بيرون كان يلي بروز بيرون نفسه فقد كانت لها الأسبقية على نائب الرئيس في كل المناسبات عدا المناسبات العسكرية حيث البروتوكول الصارم لا يسمح لها بذلك وحينما تجيء لإفتتاح مصانع غاز ، خطوط بحرية ، جسور ، أبراج ومحطات فإن إسمها يستخدم أكثر من بيرون. لم تكن هناك سابقة للسلطة التي مارستها ، لذا فقد كان ذلك أمرا داعيا للتأمل بشكل دائم. (إن التأكيد على أن إيفيتا تحكم البلاد أصبح أمرا شائعا في بيونيس أيرس) إستنادا إلى مواطن أرجنتيني عاد للبلاد عام 1951 وعزى إليها نسبا غامضة من الأسطورة ، مما يعني أنها كانت تملك كامل القدرة بشكل حقيقي . بالرغم من كل الحرية التي منحها بيرون لزوجته ، إلا أنه لم يتجاهل أبدا مضامين ما تفعلهإ إذا بدأ أن نشاطها يعرض مصالحه للخطر فهو قادر على السيطرة عليها. إن الروابط بين النقابات والبيرونية صيغت على الوعود وجرى تقويتها بواسطة (إيفيتا) في الوزارة وفي المؤسسة ، لكن إذا لم توف الوعود فإن الأرجنتين كانت ستتوقف عن أن تكون (دولة فعلية للعمال) ، كما أن العلاقة كانت ستتعرض للإجهاد . في بداية عام 1951 كانت النقابات لا تزال تصوت لبيرون تشارك بحماس في طقوس البيرونية ، لكن كانت هناك ظروف لا يستطيعون فيها التخلي عن وظائفهم لأن أعضاء النقابات لا يسمحون لهم بذلك. كانت نقابة السكة حديد هي الأقدم افضل نقابة منظمة في البلاد وتمثل العمال المهرة في البلاد. مع أن الإشتراكيين كانوا يهيمنون عليها ، إلا أنها ظلت تدعم بيرون منذ عام 1944 . لقد عانى عمالها من التضخم وهم الأن يجدون أنفسهم في مستوى معيشة أدنى مما كانوا يعيشون فيه عام 1946. كانت هناك مطالبات بزيادة كبيرة في الرواتب لكن مرشحي بيرون رفضوا ذلك. في يتاير 1951 شكل أعضاء النقابة لجنة سرية لتنظيم إضراب على نطاق البلاد وبالتالي تعطيل كامل شبكة السكة حديد في البلاد. إن الإضراب يهدد ميزان مدفوعات البلاد وذلك من خلال إغلاق المواني ، كما أنه يجد التشجيع من المعارضة خاصة الإشتراكيين ويجد متابعة لصيقة من قبل الجيش وبعض الذين يأملون في تشقق الصرح البيروني. لقد وقع دور الوسيط على (إيفيتا) التي حاولت التأثير على المضربين من خلال قيادتها الرسمية للمهمة. لقد ذهبت شخصيا إلى محطات السكة حديد في (بيونس أيرس) وأخبرت الخفر أن المعارضة تلعب بهم، ثم إستقلت عربة على مسار السكة حديد ، متنقلة من محطة لأخرى ، حيث أستقبلت في بعضها لأن عمال السكة حديد لا يزالون يدعمون الحكومة ويحبونها. بالرغم من هذا التحرك إلا أن العمال إستمروا في الإضراب. لقد رمى (بيرون) باللوم على بعض المحرضين ، لكن بدأ في تحمل مسئوليته الشخصية بإصدار القرار. مستخدما كل سلطاته القانونية على الإكراه ، أصدر مرسوما يستوعب فيه كل المضربين في الجيش في حالة طواريء وأزال بالتالي الحق القانوني للأضراب. أقال وزير النقل وأعتقل مئات العاملين وأوقف مائتان عن العمل. خلال أسبوع فشل الإضراب وبدأت السكة حديد في العمل من جديد. لقد أدى قرار (بيرون) الكارثي المتعلق بإضراب السكة حديد إلى إرتكاب واحدا من أكثر الأخطاء غرابة في مهنته العملية. كانت صحيفة (لا برينسا) واحدة من الصحف القليلة التي تناولت الإضراب بدقة وبالتفاصيل. لقد كانت هذه الصحيفة القديمة والمحترمة واحدة من الصحف المؤيدة للأراء التحررية للأقلية وكانت معارضة لبيرون منذ عام 1944 . كان توزيعها بسيطا لكنها كانت معروفة عالميا وسمح لها بيرون بمواصلة الصدور كون كتاباتها غير مزعجة. خلال الشهر الذي تلى إضراب السكة حديد كان هناك إضراب لنقابة البائعين الجدد البيرونية للصحيفة ، تسبب في شغب فيها وأدى إلى مقتل أحد الموظفين. في المقابل جرى تحديد حصة الصحيفة من الورق على خلفية أن الصحيفة مدينة للحكومة بمبلغ كبير في ضرائب الدعم ، مما أدى لاحقا إلى تشكيل لجنة من ممثلي الإتحادات التجارية الذين أصدروا صحيفة مختلفة تماما بقضايا تحريرية متوقعة. في عام 1951 سنة الإنتخابات الرئاسية أصبح قرار إضراب السكة حديد وإغلاق صحيفة (لا برينسا) من القضايا الهامة للمعارضة ، تلك الصحيفة التي كانت تتحدث إنابة عن قرائها عن الفكرة المميزة لحضارة الأرجنتين وتورد أخبار المواليد ، زواج ووفيات الأرجنتينيين ومع أن أسلوبها متسم بالغرور ورؤيتها للسياسة الأرجنتينية مستمدة من تسعينات القرن التاسع عشر ، إلا يبدو أنها كانت هامة للمؤسسة القديمة. إن إغلاق الصحيفة جعلها رمزا للتعدي على حرية الصحافة. لقد رضي المسئولون بالبيرونية على أساس أنها النظام الوحيد القادر على إصلاح النظام الإجتماعي ، لكن يبدو أن بيرون إنحنى أمام تدمير القيم الإجتماعية. بدأ المسئولون غاضبون على (إصلاح الدستور) حتى أؤلئك الذين ليسوا أفرادا في (الأقلية) ، ألمهم ما يرونه من حديثي النعمة ، النقابات القوية والمفضلة وما يرون أنه طبقة عاملة متكبرة تدعمها الحكومة. عند هذه المرحلة لم تعاني الطبقة الوسطى الأرجنتينية وحدها من التضخم ، بل كذلك فئات العمالة الماهرة الذين لم يعودوا أغنياء مثلما كانوا عام 1946. كان كثير من إستيائهم موجه إل بيرون وإيفيتا كذلك التي مارست السلطة داخل النقابات وهي الأن تمثل بلغة ذلك الوقت الأمية ضد الثقافة والسوقية ضد الفكر. لقد عملت (إيفيتا) منذ عام 1948 لإعادة إنتخاب (بيرون) ، لكنها عرفت على نطاق واسع بحيث كان لها سببها الخاص لتمضي بعيدا. إن الإعلانات المتعددة إنابة عنها كان تلقائية فقط في الشكل ، غير أنها لم تصدر إلا بموافقتها. في ذلك التاريخ لم تكن هناك إمرأة قد أنتخبت لمنصب هام كنائب الرئيس في أي بلد. بالتأكيد فإن (إيفيتا) كانت ترغب في هذا الشرف ، مع أنها كانت تنكر ذلك بشكل دائم. إن تحفظها كان نابع من الإعتراض على أي تحرك مكشوف يرتد عليها. في ظل الدستور الأرجنتيني فإن نائب الرئيس يخلف الرئيس مباشرة في حالة وفاته وتوقعات نجاح أي إمرأة تشغل منصب الرئاسة مقيد بنظرة عدائية عميقة بالنسبة لكثير من الأرجنتينيين. إنه ليس من الواضح عمّا إذا كان الجيش قد إشتكى إلى بيرون بشكل رسمي عن هذه المسألة ، لكن (بيرون) كان مدركا لما يسببه ترشيحها من إزعاج. إنه لم يتحدث أبدا عن ذلك وموقفه تجاهه كان هدفا للكثير من التأمل. إن كان ضد هذا الترشيح بسبب معارضة الجيش كما زعم فلماذا يشجع حملات الملصقات التي تحمل إسم (إيفيتا) وهي تلصق على الجدران في كل البلاد ؟؟ ربما كان المفتاح لهذا الموقف ينبع من الشعور بأن عليه أن يمتلك في هذه المرحلة دعم ترشيحها والضغوط ضدها حتى تكون غير ذات صلة بشكل متعادل. إن (إيفيتا) نفسها لم تفهم كيف هو مرضها لكن حالتها الصحية كانت تبدو جلية لأؤلئك الذين من حولها فقد أصبحت نحيفة وشاحبة أكثر مما مضى وظهرت ظلال حول عينيها فيما تورمت رجلاها بشكل دائم. لقد كانت تخفي مرضها ونوبات الحمى التي تنتابها عن الأخرين عدا خدمها ، لكنها تشكو الآن من آلام حادة في البطن وحينما إقترح الأطباء سلسلة من الإختبارات الطبية ، أخذت تغادر المقر الرئاسي في الصباح الباكر لتفادي مقابلتهم. من جهته جعل بيرون الأمور تسير في مجراها. عند الأسوأ فإن ترشيح (إيفيتا) يمكن أن يتوقف في الدقيقة الأخيرة وربما لقب جديد يمكن أن يرضي (البدون قمصان) وربما كان بيرون مدركا للإنطباع الذي يخلفه التضحية بإلإلغاء في اللحظة الأخيرة خاصة في الجيش. لقد كان (بيرون) مندهشا بشكل عميق للدعم الذي تجده (إيفيتا) فهو لم يكن متيقنا من ذلك حتى علم ذلك لاحقا مما قلب حساباته وهي الآن أصبحت مهمة لأتباعه مثلما هو. في المقابل دعا إتحاد العمال العام إلى إجتماع بإعلان تمسك العمال بارشيح بيرون – بيرون وسمي بعد ذلك ب (كابيلدو ابيرتو) وهو بالأساس أول تجمع سياسي تلقائي لسكان بيونس أيرس دعي إليه في 25 مايو 1810 لإسقاط الحكومة الإستعمارية الإسبانية. بخلاف (كابيلدو) الأول فإن هذا الإجتماع الثاني الذي حدد له 22 أغسطس 1951 جرى التخطيط له بعناية. لقد أستؤجرت البصات والقطارات لجلب (البدون قمصان) من المقاطعات البعيدة مع توفير الوجبات ، الطعام ، تذاكر السينما من قبل الحكومة. في ساحة 9 يوليو الكبيرة جرى نصب ركائز ضخمة لحمل منصة بإرتفاع ستين قدما تحمل رسمتين لبيرون وإيفيتا و (جسر الحب) الذي يحمل نقش بيرون وإيفيتا . كتب مراسل صحفي يعمل في صحيفة (لا رازون) النسحة المسائية : عند الفجر كان قد هيمن على المدينة شعور من التوقع فيماغطت الأعلام شوارع المدينة التي فاضت بالجماهير. كانت هناك خيام عند أسفل المنصة حيث نام القادمون الأوائل للحصول على أفضل المقاعد ، فيما كانت هناك رايات متدلية بين أشجار النخيل لروية أفضل. عند المساء كان هناك أكثر من مليون شخص قد شغلوا الحيز الكبير للساحة ، ينشدون الأناشيد ويلوحون بالرايات ، بينما حلقت طائرة فوقهم كتبت على السماء المغيمة : بيرون ، إيفيتا ، إتحاد العمال العام. عند الساعة الخامسة مساء إعتلى (بيرون) المنصة يرافقة الأعضاء البيرونيين حسب التسلسل الهرمي ، الوزراء ، النواب ، أعضاء الحزب ومسئولي إتحاد العمال العام ، لكن من دون (إيفيتا) ثم بدأ (خوزيه إيزيبجو) رئيس إتحاد العمال في الحديث لكن صرخات الجماهير كانت تقاطع خطابه بالهتاف لإيفيتا وهو أمر لم يتحسب له سلفا مما أجبره على التوقف ، ثم واصل حديثه لكن ظلت الهتافات تقاطعه منادية بإسم (إيفيتا) فأعلن للجماهير أن تواضع إيفا بيرون قد منعها من المجيء إلى التجمع ثم غادر المنصة وعاد مرة أخرى ومعه (إيفيتا). بعد ذلك المدخل المؤثر ألقت إيفيتا خطابا مليء بالتهديدات المبطنة للأقلية والتعابير العنيفة. كان الخطاب يقاطع في الغالب بالأناشيد التي تهتف بإسم إيفيتا وبيرون ، غير أن (إيفيتا) لم تشر لموضوع الترشيح على الأقل بشكل مباشر. أنهت (إيفيتا) خطابها بالتالي (إنني أفعل دائما ما يريده الشعب ، لكني أخبركم مثلما أخبرتكم قبل خمس سنوات أنني لست سوى إيفيتا زوجة الرئيس إن إستطاعت أن تفعل شيئا لتخفيف ألم البلاد وأقولها الآن لست سوى إيفيتا). هل هذا رفض ؟؟ لقد فهم الحشد كذلك مما جعله يقاطع خطاب بيرون الثاني وحينما إنتهى أعلن بيرون موافقته وبدأ الإنشاد لإيفيتا . عندها ذهب (إيزيبجو) إلى المايكرفون مكررا طلب الجماهير طالبا من (إيفيتا) الحديث غير أنها مانعت. بعدها حمل إليها المايكرفون لتسمع الجماهير حجتها وبالتالي بدأت في التجاوب بشكل إستثنائي. واجهت إيفيتا الجماهير التي كانت تصرخ بحزن وغضب على الإحباط الذي أصابها وبدأت إيفيتا خطابها بالقول (أحبائي البدون قمصان .. أطلب من الرفاق في إتحاد العمال العام ، النساء ، الأطفال والعاملين للتجمع هنا ، لا لجعلي شيئا لم أرغب أن أفعله أبدا . أطلب من إتحاد العمال العام وبحق العاطفة التي وحدتنا وبالحب الذي نشعر به تجاه بعضنا البعض وعن هذا القرار الهام في حياة إمرأة مسكينة أن تعطوني على الأقل مهلة أربعة أيام لدراسته). كانت الإجابة من الجماهير (لا .. الآن .. علينا أن ندخل في إضراب عام). تكرر إيفيتا حديثها (أيها الرفاق) أربعة مرات قبل أن يصمتوا : إنني لن أتنازل عن موقعي في الصراع ، فقط أتنازل عن التشريفات ، إنني أحمل آمالا مثل الأسكندر لمجدكم وحبكم وللقائد بيرون) بينما كانت الحشود تصرخ (الآن .. الآن) ، ثم بدأت إيفيتا تقدم تبريرا ذاتيا مشوشا وتطلب وقتا : (أيها الرفاق .. لقد قيل على إمتداد العالم أنني إمرأة أنانية وطموحة .. إنكم تعرفون جيدا إن هذا ليس هو الواقع .. لأنكم تعرفون أن أي شيء فعلته لم يكن أبدا لأنال منصبا سياسيا في بلدي .. أنا لا أرغب أن يعوز أي عامل في بلدي الحجة حينما لا يفهم أؤلئك المستاءون ولا يصدقون أن أي شيء فعلته كان بأقل الدوافع) غير أنها لم تستطع أن تكمل جملتها حين قاطعتها الجماهير فطلبت مهلة يوما واحدا للتفكر في الأمر ، لكن الجماهير صرخت (لا) لتواصل : (إن ذلك باغتني بالدهشة .. أعلم أنه ولفترة طويلة وضع إسمي في الأمام لكن ذلك يحبطني .. إنني فعلت ذلك من أجل الشعب ومن أجل بيرون الذي لا يجاريه أحد ، بحيث أن هؤلاء الرجال بفكرة أن يكونوا (كاوديلوس) سوف يعرفون وأن القائد مع أسمي يقف فوق النزاعات ، لكن ليس في قلبي أبدا أن أفكر في قبول هذا المنصب). بينما كانت (إيفيتا) تمضي في تبريراتها غير المقنعة تحت صورتها الضخمة ، تحولت المنصة إلى هرج من الأصوات المجادلة يعلوها صوت (بيرون). لم يكن أحد يتوقع أن يأخذ الإجتماع هذا المسار. تناشد إيفيتا الجموع بمهلة (الليلة) فيكون ردها (لا). عندها طلبت مهلة ساعتين وحينما ردت الحشود (لا) نقلت المايكرفون إلى (إيسبيجو) الذي قال (دعونا ننتظر لقرارها .. علينا أن لا نتحرك حتى تعطينا ردا ينسجم مع رغبة الجماهير). حيت الجماهير المناشدة ثم مع دخول الليل أوقدت الصحف مشاعل مثلما حدث عام 1945 وبقي الناس في إنتظار رد إيفيتا وحينما عادت مرة أخرى كانت كلماتها (أيها الرفاق مثلما قال القائد بيرون سأفعل ما يقوله الشعب). كانت هناك صرخات وشكاوى وأخيرا إنفض الجمع وأعلن اليوم التالي عطلة عامة وغادرت الحشود المدينة بشكل آمن ، غير أنه لم تتأكد مسألة ترشيح إيفيتا من عدمها. لقد تلقت (إيفيتا) الكثير من التقدير والتشريف في حياتها السياسية ، غير أن أيّ منها لا يجاري ما حدث في (كابيلدو ابيرتو) من حيث الكثافة. للمرة الأولى في مهنته العملية وجد بيرون نفسه متراجعا إلى دور ثانوي ، حيث باغتته الدهشة بالإلهام الذي أحدثته علاقة إيفيتا بالبدون قمصان. بينما كانت هذه العلاقة قد أعطت بيرون السلطة ودفعته للرئاسة ، فإن هذه العلاقة مثلت لإيفيتا ذروة النجاح ونهاية سيرتها المهنية. لقد نجحت في ترك مسألة الترشيح مفتوحة . بعد تسعة أيام من ذلك الحدث أذاعت (إيفيتا) رسالة عبر الراديو تعلن فيها قرارها الحاسم الذي لا رجعة فيه وهو رفض الشرف الذي منح لها. لقد نبع هذا القرار من الإقتناع الذي برز أولا في يوم (كابيلدو ابيرتو) والتشديد على أنها (لن تبدل موقع معركة بأخر). لقد أشارت إلى 17 أكتوبر بأنه ميلادها السياسي لتختم (بأنها لم تكن تملك ولا تملك الآن أدنى طموح لنفسها أكثر من ذلك ، ذلك أنه يجب أن يقال عني حينما يكتب فصل رائع في التاريخ من أنني أخلصت لبيرون وأن هناك إمرأة وقفت بجانبه ، كرّست حياتها لمهمة نقل آمال الشعب إلى بيرون وأن الشعب إعتاد على أن ينادي تلك المرأة بحب إيفيتا .. هذا كل ما أرغب فيه أن يكون) . بالنسبة لإيفيتا إذا كان بعيد الإحتمال أن لا تكون قادرة على الترشيح فلماذا حضرت الإجتماع ؟؟ ربما أن مسار الأحداث كان مدهشا لها مثل بيرون وبكثافة الدعم الذي وجدته. لقد قرر بيرون في النهاية أن لا تترشح وهي لا تستطيع أن تمضي ضد قراره. لقد أصبح 22 أغسطس 1951 يوما معروفا لدى الحركة البيرونية بأنه (يوم نكران ذات إيفيتا) وكما هو متوقع فقد أثار الإجلال لروحها في التضحية ، إحساسها بالإنضباط ، إخلاصها وتواضعها. بعد ثلاثة أيام من خطاب (إيفيتا) أعلنت النقابات أن يوم 17 أكتوبر هذا العام سيكون مخصصا لنكران الذات الذي أبدته إيفيتا وبعد ثلاثة أيام أخرى عقد الكونغرس جلسة خاصة على شرفها. في 10 سبتمبر دعا بيرون كرئيس أعلى للحركة البيرونية إلى إنشاء وسام جديد في ذكرى إيماءة إيفيتا. إن إيفيتا لم تختار تخليها عن طموحاتها السياسية ، لقد فرض عليها القرار ، لكن الحقيقة أن ذروة عملها المهني ونهايته معا كانا قد شارفا على النهاية والذي كانت محطته المميزة هي (كابيلدو ابيرتو) الذي أكد بقاء أسطورة التضيحة التي أختيرت بعناية. بعد ال (كابيلدو ابيرتو) سقطت إيفيتا فريسة المرض وخلال شهر بدأ واضحا حتى لها مدى خطورة المرض الذي أصابها. [email protected]