الثلاثة الكبار.. الإمام الصادق المهدي ثم الأستاذ ياسر عرمان ثم الدكتور خليل إبراهيم.. قدم ثلاثتهم مرافعات قوية لتعزيز موقفهم القاضي بالمضي قدما نحو التفاوض مع الحكومة.. غير أن مرافعة الأخير.. بدت بالنسبة لي على الأقل.. هي الأكثر إثارة لعدة أسباب.. صبيحة استشهاد الدكتور خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة.. تمكنت من التحدث إلى الدكتور جبريل إبراهيم أخ خليل وأقوى المرشحين يومها لخلافته.. وذلك بمقر إقامته يومذاك في لندن.. والذي أذكره أن جبريل يومها كان بعيدا نسبيا.. صحيح أنه كان محسوبا على قيادة الحركة العليا.. ولكن الصحيح أيضا.. أنه وربما بحكم تخصصه واختصاصه كان بعيدا عن الميدان قريبا من الدعم اللوجستي والعلاقات الخارجية للحركة.. الشاهد أنني وحتى جاءني صوته عبر الهاتف لم أكن أدري ماذا يمكن أن أقول في ذلك الظرف الاستثنائي.. غير أنني أذكر الآن أنني قد بدأت الرجل في مواساته في فقده.. ثم الترحم على الراحل وتقدير أنه قد قدم روحه في الميدان.. وهو مقبل لا مدبر.. ثم قلت له مهما اختلفت الأفكار والأساليب فالغاية واحدة.. هي رفعة الوطن وإعلاء شأن بنيه.. قال لي الدكتور جبريل.. شتان بين من يسعون لإعلاء شأن الوطن.. وبين من يسعون لتحطيمه.. ولما لم يكن الموقف يحتمل.. قلت له بعد صمت ثقيل.. أنا آمل صادقا أن يكون الشهيد هو آخر ضحايا هذه الحرب اللعينة..! كان رد الدكتور جبريل أنه لا يتحدث عن ثأر شخصي.. ولكن الحرب لن تتوقف إلا إذا ساد العدل ونال كل ذي حق حقه.. ونال كل من أجرم جزاءه..! شكرت الرجل على تلقيه مكالمتي.. وأغلقت الهاتف وأنا لا اشعر أن ثمة كبير خلاف بيننا. ثم.. وبعد سنوات طويلة ينقل لي من أثق في نقله.. أنه وفي معرض التحفظ على الدعوة الحكومية للحركات المسلحة للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني.. وكنت من دعاة المشاركة وبحث مطلوبات تهيئة المناخ على الطاولة.. ليلتها هاتفني محدثي نقلا عن الدكتور جبريل قوله.. كيف أبيت في فنادق الخرطوم وإخواني يفترشون الأرض في سجون النظام..؟! لقد كان من ضمن مطلوبات تهيئة المناخ للحوار إطلاق سراح سجناء الرأي والمحكومين.. شعرت يومها بحرج بالغ.. وأنا أتأمل في حديث جبريل.. نعم له إخوة سجناء.. إخوة مباشرة بالمعنى البيولوجي للكلمة.. وإخوة سلاح ودم وأهداف..! ثم وأنا أتابع المشهد السياسي حتى لقاء نداء السودان الأخير.. والتطور المهم الذي حدث فيه لفت نظري من بين بيانات الثلاثة الكبار.. بيان جبريل إبراهيم.. وفي بيان جبريل إبراهيم لفتت نظري هذه الفقرة والتي يقول فيها.. (أخيراً أقول لزملائنا في المعارضة الذين يحلو لهم تقسيم الناس إلى فسطاط للتسوية وآخر لإسقاط النظام: أعيدوا قراءة أدبيات الجبهة الثورية، وإعلان باريس، ومواثيق نداء السودان، وستجدون أن جميعها تقدّم التسوية السلمية التي تفضي إلى تفكيك النظام، وإعادة هيكلة الدولة السودانية على أساس من العدل والمساواة ودولة القانون، على غيرها من الخيارات. ولولا تمنّع النظام ورفضه لخيار الحل السلمي الذي يرفع المظالم ويرد الحقوق، لما لجأت قوى المعارضة إلى الخيارات المفضولة. نحن لا نزايد على الناس بتضحياتنا التي ملأت القبور والسجون والمشافي من أجل إسقاط النظام عندما ندعو إلى الابتعاد من مثل هذه التصنيفات التي تضر ولا تنفع، بل نعلن استعدادنا لتقديم المزيد منها متى ما دعا داعي الوطن. ولا ندعو القوى السياسية إلى خيار الحرب وحمل السلاح في وجه النظام، ففي البلاد ما يكفي من حروب ومآسٍ. ولكننا نقول لهم اتركوا الهتاف في البيوت والمكاتب، والمزايدات الإسفيرية التي لا تزيد المعارضة إلا تفككاً. أنزلوا إلى الشارع، وعهدنا لكم أننا سنكون معكم في مقدّمة الصفوف لا في مؤخّرتها. وأخيراً لا تطالبونا بوقف الحرب في الوقت الذي تدعوننا فيه إلى عدم الجلوس إلى النظام، فلا يمكن وقف الحرب إلا بجلوس الأطراف المتقاتلة إلى بعضها).. هل رأيتم أبلغ وأجرأ واعقل من هذا..؟ قلت يومها اقتربت المعارضة خطوة.. وعلى الحكومة أن تقترب خطوتين.. وحين أتتبع خطوات جبريل اليوم أقول إنه قد قطع شوطا طويلا نحو طي الأزمة.. فهل تفعل الحكومة.. ثم متمنعي المعارضة..؟ اليوم التالي