في مقالين سابقين لي نشرا بالتزامن في أصدارة الانتباهة, و أصدارة الراكوبة الالكترونية عن الخط الجديد لابناء النوبة في الحركة الشعبية/قطاع الشمال بتبني الدعوة للكحم الذاتي كخيار مطروح علي طاولة المفاوضات, و في حالة تعذر ذلك الدعوة لتقرير المصير للاقليم المنكوب, أسوة بما حدث لجنوب السودان, كنت قد ختمت مقالي الأخير بسؤال طرحته علي عجل, ولكن بإلحاح للاخوة ابناء النوبة في مختلف التنظيمات السياسية: هل الدعوة للحكم الذاتي ردة سياسية ام تكتيك مرحلي الهدف منه الضغط علي الخصم لتقديم المزيد من التنازلات؟! و للحقيقة و التأريخ ما كنت أنتظر ردا علي ذلك, بقدر ما كان هدفي هو أثارة الموضوع وسط الصفوة السياسية من أبناء المنطقة بأختلاف مشاربهم الاجتماعية و انتماءاتهم السياسية لتناول الموضوع بالعصف الذهني المطلوب حتي نري ان كان لدينا نحن جميعا من طرح يمكن الإطمئنان علي مخرجاته, لكي لا نؤخذ علي حين غرة, و نقع فريسة للمباغتة كما فعلت بنا إتفاقية نيفاشا المؤودة بامر الشريكين العدويين اللدوديين. و لنا رأي في امكانية الأجابة عن السؤال سوف نستعرضه محاوليين إستقراء أحد سيناريوهين إثنين, يشكل كل منهما تهديد مباشر للمستقبل السياسي و التعايش السلمي لمكونات الإقليم. و أن إحتمال حدوث مثل هذا الأمر و "إن تظاهرت الحكومة و قالت بغير ذلك" يظل وارد في صفقة سياسية جديدة بين النظام و الحركة الشعبية, طالما كان ذلك يحقق للحركة جزء من رؤية السودان الجديد, و يضمن للنظام الإستمرار في الحكم دون إزعاج. و اننا في حكمنا هذا, لانتحدث جزافا, فما كان من الثوابت غير المسموح بتجاوزها عند نظام الانقاذ, صار مع مرور الزمن و حلاوة السلطان مما يمكن التفاوض عليه. فحتي قبيل عام 1996 صفقة فرانكفوت بين د. علي الحاج محمد, و مجموعة الناصر بقيادة د. ريك مشار و د. لام أكول , كانت الحركة الأسلامية, و هي الحاضن السياسي للمؤتمر الوطني تعتبر أن جنوب السودان هو "البوابة التي يعبر منها الإسلام الي مجاهل إفريقيا و منها للعالم" و بالتالي كان مجرد الدعوة للحكم الذاتي هي "خيانة لله و الوطن", تقرب عنق صاحبها من المقصلة. و في سبيل ذلك جيشت الجيوش و أعدت العدة و عبأت المجتمع في حرب دينية مقدسة كلفت الوطن الكثير, قبل ان تخمد في إطار صفقة سياسية إنتهازية قسمت البلد (سلطة و ثروة) بين شريكين متناقضين, و أقرت للجنوب بحقه في تقرير المصير, الذي توجته نيفاشا كحق دستوري انتهي بالجنوب منفصلا الي دولة مستقلة. و قد طالنا نحن في جبال النوبة/جنوب كردفان ضررا بليغا ما يزال الإقليم يدفع فواتيره الباهظة حتي اللحظة, فقد حلت ولاية غرب كردفان, قربانا لاتفاقية نيفاشا دون مبرر مقبول, و ألحقت بجنوب كردفان, و لما قضي منها وطر, أعيدت للمرة الثانية وابتعثت مثل "البعاتي", ثمنا لمجرد وعد انتخابي, دون تقديم أي توضيح - ناهيك عن الإعتذار - للشعبين المتلظيين بهذا التقسيم العابث, في جنوب و غرب كردفان, بينما لازالت طاحونة الحرب تدور رحاها في الاقليم بين الشريكين دونما هوادة, مما جعل معظم مناطق الإقليم خرابا ينعق فيها اليوم. كما ذكرت, فإن التطور النوعي للمطالب السياسية لابناء النوبة من المشورة الشعبية الي الحكم الذاتي الي تقرير المصير, لهو أمر متفق عليه في الأهداف السياسية الأستراتيجية البعيدة, التي يعمل من أجلها الأخوة من ابناء النوبة في الداخل و الشتات و علي مستوي كل التنظيمات السياسية المختلفة, في النظام و المعارضة معا. و هاهو الأمين العام للحركة الشعبية ياسر عرمان في بيانه ليوم أمس بخصوص إجتماع نداء السودان بباريس و مخرجاته يؤكد, بل يطمئن شركاءه من أبناء النوبة في الحركة الشعبية, ان الحركة لاترضي بديلا غير الحكم الذاتي لجبال النوبة و جنوب النيل الأزرق في أي مفاوضات سياسية قادمة. و تأكيد صادق لما قلناه, و ما سنقوله, إن الأجندة الإنكفائية لأبناء النوبة في الحركة الشعبية قد أخذت بعدا إستراتيجيا واضحا, و إن كان ثمة أختلاف في ذلك, فهو في الوسائل و التكتيكات السياسية فقط, و هي قابلة للتغير بدرجة كبيرة. فقد شهدنا الهجرة الجماعية السياسية الكبيرة لابناء النوبة قبيل و بعيد توقيع إتفاقية نيفاشا, من أحزابهم السياسية و الإلتحاق بالحركة الشعبية دون عناء, و الدفع بأجندتها السياسية حتي للذين كانوا الي وقت قريب يناصبونها عداء سافر و يرفعون في وجهها راية الجهاد المقدس. إذا نحن بإزاء حدوث تجريب سياسي جديد, قد يعبث للمرة الثانية, ان لم نوضح للناس مراميه البعيدة, و آثاره السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية علي المستقبل السياسي لسكان الإقليم. فهل الدعوة للحكم الذاتي أو بديله تقرير المصير هو ترتيب سياسي موثوق يمكن ان الاطمئنان اليه ليضع حدا لمشكلة السودان في جبال النوبة؟؟! نحن نجيب علي هذا التساؤل بالفم المليان و نقول "لا". فما هي مبرراتنا إذا للوقوف ضد المقترح مبداّ؟ في رأي المتواضع, كثيرة هي الاسباب التي نؤسس عليها موقفنا الرافض هذا, و نبدأ بأهمها و هو غموض مفهوم الحكم الذاتي في حد ذاته كمفهوم سياسي لقادة الحركة الشعبية الذين طرحوه في المفاوضات الاخيرة دون اي تفاسير او تفاصيل تفصح عن كنه حول كيفية ممارسته في ظل الأوضاع السياسية المأزومة لواقع اليوم, الصلاحيات و السلطات و المكاسب و الإمتيازات التي ينطوي عليها مما لم توفره إتفاقية نيفاشا؟. و في عالم اليوم الإفتراضي فإن حركة بسيطة بعلي محرك البحث "قوقل" أو غيره من المحركات تستطيع ان تتحصل علي معلومات علمية عن أي موضوع, رغم إختلاف الناس عن درجة موثوقيتها العلمية. و من خلال ذلك يتضح ان "مفهوم الحكم الذاتي ارتبط تاريخيا بتصفية الاستعمار من القارة الافريقية بعد النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي, و كان يعني الاستغلال التام للدولة المستعمرة من ربق المستعمر". أما في الوقت الراهن فالحكم الذاتي يعني: "نظام حكم لامركزي مبني علي أساس الاعتراف لأحد الاقاليم في الدولة بانه يتميز عن الآخرين عرقيا أو ثقافيا, و يعاني بذلك نوع من الظلم و الاضطهاد يهدد بقاءه ضمن الدولة الام, ما يؤهله للمطالبة بنوع من الاستغلال في ادارة شئونه الداخلية تحت اشراف و رقابة السلطة المركزية في أطار الوحدة القانونية و السياسية للدولة الام. و قد يكون ذلك عن طريق حق دستوري معترف به, أو في شكل تفويض إداري يمنح بموجب قرار جمهوري من رئيس الدولة". و بناء عليه تكون الفدرالية شكلا متقدما من أشكال الحكم الذاتي. و بالفهم البسيط لذلك فان الحكم الذاتي ما هو الا ترتيب سياسي اداري بغرض حماية أقلية عرقية متجانسة ثقافيا و مميزة تأريخيا و جغرافيا. فاذا كان هذا هو ما يرمي الي تحقيقه الاخوة في الحركة الشعبية في منطقتي جبال النوبة و جنوب النيل الازرق, فان ذلك غير موجود البتة في المنطقتين, لا من حيث التجانس العرقي أو الميزة التأريخية. و بإصرارهم علي ذلك فانهم بذلك يدفعون المنطقة الي مصير مجهول يستند الي فرز عنصري في تحقيق المكاسب السياسية و الاقتصادية و ذلك بتقسيم الناس الي سكان أصليين يتمتعون بكل شي, و آخرين وافدين عليهم السمع و الطاعة مما يجافي حقائق التأريخ و الاجتماع و الجغرافيا. فالتأريخ السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي للمنطقة, الشفاهي منه و المكتوب, قد تشكل من تلاقح التأريخ و الجغرافيا و ان تيارات أثنية و ثقافية كثيرة و متنوعة قد شاركت في صياغة و اقعه اليوم و أصبغت عليه تلك الملامح التي لطالما ميزته عن سواه من أقاليم الأخري, إذ هو عصارة تمازج عميق بين أعراق و ثقافات و أديان و ملل متنوعة علي مر الزمان. و هذا يؤكد علي حقيقة تنوع إثني كبير ساهم في التطور الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي و السياسي للمنطقة حتي هذه اللحظة. و الا لما انتشر الاسلام و الثقافة العربية و حلّا بسلاسة و يسر محل المعتقدات المحلية التي كانت سائدة في المنطقة, بل حفزتها علي تأسيس أول دولة ذات سلطة مركزية قوية تقوم علي هدي القرآن و السنة. فمملكة تقلي الاسلامية و هي أول مملكة في تأريخ المنطقة بكل زخمها لم تكن سواء نتاج طبيعي لتمازج الاسلام و العروبة مع المكونات النوبية المحلية. فهذه عملية مثاقفة و حوار حضاري مستمر لقرون من الزمان حتي انتج هذا النسيج الراقي من الواقع الاجتماعي لجبال النوبة اليوم. أما اذا كان للاخوة المطالبين بالحكم الذاتي اي مبررات خالية من الاسقاط العنصري فليفصحوا عنها للعلن حتي يطمئن الناس علي حسن نواياهم, فتجربة الحركة الشعبية في الحكم خمس سنوات في جنوب كردفان, تركت ذكري مؤلمة في نفوس الشعب, تجعله يتحسس رأسه كلما جاءت الحركة الشعبية بفكرة جديدة. و إذا كانت الحركة الشعبية و المؤتمر الوطني يظنان ان بإمكانهما اللعب بمصائر الشعب في جنوب كردفان للمرة الثانية, فانه ظن خائب, و سوف لن يسكت المواطن علي ذلك, وما أسهل ان تمتشق سلاحا هذه الآيام و تعلن تمردا ضد السلطة (فالكل مدرب, و يجيد التعامل مع جميع أنواع الأسلحة, و هي علي قفا من يشيل). و متي ما تساهلت الدولة في أحتكار وسائل العنف, وجد المغامرون الفرصة للتمرد عليها و العصيان, و ما أكثرهم!!!! ثانيا: ان المتفحص لاتفاقية نيفاشا المؤودة يجد ان النظام الفيدرالي الذي قامت عليه الاتفاقية يعطي الولايتين كامل الحقوق السياسية و الاقتصادية, و يذيد عن ذلك بأن ميزهما عن باقي الولايات بأن ضمن لهما حق دستوري بممارسة حق "المشورة الشعبية" و ذلك لسد اي نقص أو ثغرة لايشعرون معها بإطمئان, و هي حقوق غير متاحة للولايات الأخري. فإن كان من عيب في ذلك, فهو ان المشورة لم تنفذ حتي النهائية في كلا الولايتين, بسبب المشاكسة و المعافرة و السلوك غير المسوؤل للشريكين. فأي حقوق جديدة, و أي ضمانات جديدة يمكن تحقيقها عبر الحكم الذاتي و لم تحققها نيفاشا بكل ضماناتها الدستورية (الدولية و الغقليمية و القومية). ثالثا: يجب ان يتنبه مواطني جنوب كردفان ان مصيرهم السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي يجب ان لا يقرره شريكان متشاكسان يسعي كل منهما لتحقيق مآربه الذاتية الضيغة المتقاصرة دون المصلحة القومية, فقرار مثل الحكم الذاتي لابد و أن تتم مناقشته و الاتفاق عليه من كل القوي السياسية في الدولة, فالطبيعة الثنائية لاتفاقية نيفاشا اثبتت الايام خطلها و خطرها الماحق علي وحدة السودان و ترابط نسيجه الاجتماعي, ولسنا علي إستعداد لتكرار ذلك, و أمامنا القول المأثور: "من جرب المجرب حاقت به الندامة". اننا نهمس في اذن الاخوة في الحركة الشعبية ان يعيدوا النظر في دعواهم تلك, و التي هي بكل المقايسس مغامرة غير محسوبة النتائج. فالعبرة ليست بتحقيق مكسب الحكم الذاتي, بل في واقعيته و قبول الناس به, و التزام الدوله بانفاذه في نهاية المطاف. ان الحكم الفدرالي "الاصلي" غير المعدل الذي اتت به نيفاشا هو مما يمكن تعزيزه و تقويته في أي مفاوضات أو ترتيبات دستورية قادمة, لانه الوحيد الذي يعطي كل حزب و كل مواطن حقوقة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية كاملة غير منقوصة. فبدلا من تضييع الوقت في دعاوي غامضة, يجب العمل علي حمل النظام الحاكم علي إرجاع الحكم الفيدرالي الي نسخته الاصلية و بصورة حقيقية و بإرادة لا تشوبها دغمسة. فإنتخاب الوالي حق دستوري لمواطني الولايات يجب العمل علي إرجاعة من مؤسسة الرئاسة, و بتفويض كامل الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور الانتقالي 2005. ان نكوص المؤتمر الوطني عن تلك الاستحقاقات الدستورية التي تم تعديلها مؤخرا و القبضة الحديدية التي يدير بها المنطقة منذ 2011 و المنهج الإنتقائي لإدارة المفاوضات مع الحركة الشعبية لهي من محفزات تطاول الأزمة في جنوب كردفان, التي نصطلي بنيرانها اليوم. أما الحركة الشعبية فإذا كانت حريصة علي سلام شامل و مستدام, عليها إعادة النظر في أجندتها السياسية بما يتوافق و المصلحة العامة "لسكان الأقليم", أما إصرار الشريكان و تعنتهما في فرض مشاريعهما السياسية المغامرة علي سكان الإقليم بالطريقة النيفاشية, سوف لن يكتب لها النجاح, و ربما: "سوف لن تسلم الجرة في كل مرة", فهلاّ إنتبهنا قبل فوات الأوان؟!. د. أحمد الحسب عمر الحسب أستاذ الإقتصاد المساعد/ جامعة الدلنج [email protected]