مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكومة ما بين قشّتى الغريق والبعير
نشر في الراكوبة يوم 12 - 12 - 2016

هناك المثل الذى يقول الغريق يتعلق بقشّة، أو الغرقان يتعلق بى قشّة حسب الإستخدام السودانى، والمثل الآخر الذى يقول القشّة التى قصمت ظهر البعير.
لقد كَفتْ هذه الحكومة عن أن تصبح حكومة، بما تعارف عليه الناس حول الدور المناط بالحكومات، أى أن تدير شئون البلاد بما يؤدى إلى نموء مواردها وتطور وسائل وأدوات إنتاجها، وتحقيق مصالح أهلها وتطلعاتهم لحياة تليق بآدميتهم، بأن يتحصلوا على قُفة الملاح دون إهدارٍ لكرامتهم وأن يتعلم أبناؤهم، وأن يتعالج مرضاهم. هذه هى المهام البسيطة أو المتوقعة من أى حكومة فى الدنيا، فالناس لا تريد حياة الرفاهية والراحات التى يمكن أن تتيحها لهم موارد بلدهم، فقط يريدون حياة مستورة، وما يفيض عن ذلك تركوه لأفراد المؤتمر الوطنى حلالاً بلالاً يكتنزونه فى خزائنهم أو يشيدون به عماراتهم الشواهق، أو يحولونه أموالاً سائلة لإستثماراتهم فى الخارج، دون حسدٍ أو مَنٍ أو أذى، أو حتى تبرمٍ أو إحتجاج. هذا كل ما يتمناه الإنسان البسيط. وعلى بساطته إلّا أن الحكومة لا تعيره إهتماماً. فقط هى مهمومة أولاً وأخيراً بالبقاء فى السلطة على حساب الوطن والمواطن، وهذا ما جعلها على شفير الهاوية، وحافة السقوط. وكلما أحست بالغرق الوشيك أتت بالأفعال المشاترة، وأطلقت التصريحات الكذوب المجافية للواقع والمنطق، قشّة تتعلق بها علّها تصبح طوق نجاة يعصمها من الغرق، وكلما أحست أن ظهر بعيرها على وشك أن ينقصم تحت وطأة ما حمّلته به من أوزارٍ وآثام، وأخطاء وخطايا، عمدتْ للتخلص من بعض الأحمال بتغيراتٍ فى الوجوه أو المواقع. وإطلاق الوعود الجوفاء بغدٍ أفضل، علّها تخفف بعض الضغط الذى تشكله الحمولة الحرجة على ظهر البعير المتهالك، مما يجعل زيادة الحمولة عليه مهما كانت طفيفة ولو بمقدار قشّة قد تقصم ظهره. هكذا ظلّ هذا النظام بكنكشته المُستميتة على السلطة يُراوح ما بين هاتين القشّتين.
لقد إندفع نحو لجّة الماء الآسن بمحض إرادته، وخاض غماره بكامل وعيه، تحت دعاوى التمكين، وتوغل فيها دون حذر حتى وصل إلى الأعماق المُهلكة. هكذا ظلّ يسبح لعدة سنوات غير عابٍ بالأصوات التى تدعوه بالعودة إلى بر الأمان والتصالح مع الناس، قبل فوات الأوان. ولكنه ركب رآسه وتعالى على النُصح، وظلّ يسبح فى بحر جرائمه، تغولاً على الحقوق، وقتلاً وتشريداً للأطفال والنساء والشيوخ. واصل سباحته عكس تيار هموم الناس ومصالحهم، حتى بدأ الوهن يتسلل إلى أطرافه، لكنه لا زال يكابر ظناً منه أنه يمتلك من القوة ما يمكن أن يبقيه عائماً فوق سطح الماء إلى أن يهدأ التيار ويفقد قدرته على المقاومة والمدافعة، ولكن وبينما هو فى غفلته تلك لسعته المحكمة الجنائية الدولية كما (البَرَدة)، فإرتعد وإرتعش وإرتجف، وغطس عدة غطسات ظن أنها النهاية، وطفق يبحث عما يُبقيه على سطح الماء وكانت قشّة سد مروى قريبة منه، فتعلق بها وصار يهذى الرد السد، السد الرد. ومنذ تلك اللحظة إستشعر الخطر الحقيقى الذى يحيق به، وأحس أن قواه قد لا تسعفه طويلاً فى البقاء على هذأ الحال، وبدأ يتطع إلى ما يمكن أن ينقذه إذا ما خارت قواه وإنهارت قدرته، وأصبح حيله ما شايله. وبينما هو فى تخبطه هذا جاءت هبة سبتمبر بلسعةٍ أخرى جعلت فرائصه تختلج وجسده يرتعد وتملكه الجزع من هلاك وشيك، وفى هذه المرة رأى أن القوة وحدها لا يمكن أن تحميه ولابد من دعمها بالمكر والدهاء، لذا بدأ يفكر فى التخلص من بعض الأثقال العالقة بجسده والتى يمكن أن تجره نحو القاع، فخلع فردتى حذائه ورمى بهما فى الماء، رغم أن هاتين الفردتين ظلتا تحميان خطاه، وتحثانه وتشجعانه على السير فى مسالك الشر الوعرة، وتجنبان قدميه أشواك الطريق وحواف الحجارة الحادة. ولكن عندما أحس بثقلهما الذى يمكن أن يعجل بهلاكه، حَزَم أمره وقرر التخلص منهما، فرمى بهما فى عرض البحر. ولم ينسَ أن يتخلص أيضاً من محفظته التى طالما ساعدته فى إخفاء المال المنهوب، فألحقها بهما، وواصل بحثه عن وسيلة يمكن تنجيه مما هو فيه. أما فردتى الجذاء والمحفظة فقد جرفهم التيار إلى مكانٍ ليس ببعيد، فإستقر أحد الفردتين فى نواحى سوبا، وهناك بدأ يبحث عن مكانٍ يقيه غدر الزمن وتقلباته، فزحف نحو الأراضى الزراعية، علّ الشجيرات تغطيه وتحميه من مغبة ما تخفيه له الأيام، وبينما هو فى الطريق كان يتطلع فى وجوه الناس لأول مرة وقد هاله ما رأى، مما جعل الشفقة تتسلل إلى نفسه الشفيفة فأحس بمعاناة الناس وبؤسهم. ففكر فى وسيلة لمساعدتهم، تمسح الدموع عن مآقيهم، وترد لهم بعض كرامتهم المهدرة، وتعينهم على ما هم فيه من سقمٍ وشظف عيش. فقرر مساعدة المعاقين منهم وسكت.
أما الفردة الأخرى فقد قذفت بها الأمواج إلى ناحيةً أخرى فتسكعت أولاً فى مشاويرٍ هائمة بين الفرقان والأحياء بحثاً عما يحفظ لها ما إنتهبته من أموال تحول بعضها إلى عقاراتٍ من عماراتٍ سامقة وبيوت ودكاكين فى العاصمة والأقاليم، وبعضها الآخر إلى قطعان إبل وأبقار وضآن فى السافل والصعيد، مع مزارع حول النيل وإستثمارات فى الخارج. بعد أن إطمأن على الوضع المالى بدأ البحث عمّا يحفظ له المكانة الإجتماعية المرتهنة بالمنصب. فإستقر المقام فى مكاتب البرلمانات الأفريقية. أما المحفظة فقد جُرفت بعيداً نحو شواطئ الصين التى كان يطلب منها العلم مَجازاً، فأصبح يطلب منها المال حقيقةً وواقعاً، من خلال الإستثمارات والتسهيلات والسلع الرخيصة المضروبة التى تدر الربح السهل الوفير.
كل ذلك وغريقنا لا زال يتخبط فى الماء ويبحث عن القش الذى يمكن أن يتعلق به، فرمى إليه أحدهم بقشّة يمكن أن تبعد عنه شبح الغرق وهى شركة سيبريان للتعدين، فتعلق بها غير مصدق. وأتى أصحاب تلك القشّة بخواجة من مكانٍ ما، جاءوا به إلى القصر الجمهورى، وشارك الرئيس وهو يرتدى عمة وجلابية وقفطان فى مراسم التوقيع، وكمرات الصحفيين ووسائل الإعلام تصور، والفضائيات تهلل،خمسة مليارات من الدولارات سوف تصب فى شرايين الإقتصاد المتهتكة المهترئة، وسوف يتبعها إنتاج مائة طن من الذهب قبل نهاية العام. ولكن القشّة كانت أضعف من أن تتحمل الجسد الثقيل العليل المترهل، فإنسحقت، وأعلن الروس أن ليس لديهم شركة بهذا الإسم. وعاد الغريق يستنجد فهل من مغيث، فنصحه البعض بأن يتماسك ويستجمع قواه، فإذا كانت (برَدَة) المحكمة الجنائية هى التى صعقته وهدّت حيله، وأوهنت قواه وجعلته غير قادر على السباحة مثلما كان فى الماضى، فعليه الوقوف فى وجهها وتحديها بل والسخرية منها أمام العالم. ورموا إليه بقشّة جوهانسبرج، فتعلق بها وذهب إلى المؤتمر ولكنها بدلاً من تطفو به شدته نحو القاع حتى توارى تحت الماء وإنقطع نفسه، وكانت زنقة تاريخية دفعت بالبعض للبكاء فى المطار جزعاً عليه وعلى أنفسهم. أما صاحبنا فقد عاد يجلبغ فى الماء على وشك الغرق، وكاد القش أن ينفد ولم يتبق منه إلّا كل ما هو خفيف وضعيف ورقيق الحال، ولكن مهما كان لابد من تجريبه علّه يحقق النجاة، أو على الأقل يبقى بصاحبنا فترة أطول على سطح الماء. فرمى إليه أحدهم بواحدة من هذا القش الهزيل. فجاءت الخواجية إلى الرئيس فى منزله بكافورى وهى جزلة تتضاحك، يتبعها بعض سماسرة القصر محدودى الخبرة ضيقى الأفق، وسلمت المرأة البيضاء السيد الرئيس فنيلة اللاعب الشهير التى فرح بها أيما فرح، وشكر المرأة الشكر أجزله على دورها فى إيصال هذه الهدية التى لا تقدر بثمن، وشكر اللاعب العالمى الكبير على ما حباه به من تكريم، وخصه دون رؤساء العالم وملوكه بهذا التقييم والتقدير الذى يؤكد ويدعم الإنجازات التى حققتها حكومته على مستوى العالم. وحمل رسائل الإحتفاء بهذه الهدية للمرأة التى جاءت بها وهو يصرح أمام وسائل الأعلام التى إلتقطت له الصور بأن جماهير الشعب تحب اللاعب وفريقه بنسبة تسعين فى المية، وما عارف النتيجة دى طلع بيها من وين، وفى أى إستفتاءٍ تحصل على هذا الرقم الذى يشبه أرقام إنتخابات الخج. القشّة هذه المرّة كانت تحمل من القبح والصفاقة والضعف ما جعلت المتعلق بها نفسه يخجل منها، ويتمنى أن تمحى من ذاكرته وذاكرة الآخرين، فأوعز لرجال أمنه بأن يمنعوا الصحف من الكتابة عنها. وليته إتعظ وكف عن التعلق بالقش الميت، ولكن خوفه من الغرق يدفعه لطلب المزيد، وإجتهد البعض وعملوا بجد من أجل إيجاد قشّة قوية يمكنها أن تكون طوق نجاة، فهداهم بعض أصحاب الذكاء المثقوب، إلى واحدة لا بأس بها، تبدو متماسكة وشادة حيلها. لدرجة أن الكثير من القنوات الفضائية بدأت تبشر بها وبقوتها ومفعولها السحرى قبل عدة أيام من تجريبها، وتبارى الضيوف على هذه القنوات فى إمتداحها والتغنى بأثرها وتأثيرها الذى سوف يقضى على القرارات والمقررات الدولية، وصرح أحدهم بأنها آخر مسمار فى نعش المحكمة الجنائية، هكذا بكل بساطة وكأن العام حديقة حيوانات. وأظن من أرسل هذه المقولة له معرفة كبيرة وعلاقة وطيدة بالقش وأنواعه، وربما كانت الدكتوراة التى يحملها تعود لدراسته الموسعة والمتعمقة لهذا النوع من المواد، لذلك يطلقون عليه دكتور قش، التى تُختصر إلى د. قش ثمّ أصبحوا ينطقونها دقش للتسهيل. على العموم لقد بدى الرئيس متحمساً لهذه القشّة، أما طاقمه الإعلامى فقد كان أكثر حماساً، فقد تكبّد المسؤول عن هذا الملف فى القصر مشاق السفر إلى بلاد الفرنجة، وجلب معه عدد من الحسناوات البيض لمرافقة الرئيس فى رحلته الميمونة، نحو أرض العزة والكرامة، حتى تكتمل الصورة بظهورهن معه أمام العدسات لزوم البهرجة. إكتملت اللمة وسافر الرئيس والوفد المرافق إلى موقع الإحتفاء، ولكنه لم يجد أحداً عليه القيمة فى إنتظاره، فما كان من بين الأرزقية الذين جاءوا للحفل من هُم فى مقام رئيس دولة، أى من الذين يحتلون نفس المنصب الذى يحتله هو بكل أسف فى بلاده. فلم يغبّر أحدهم حذائه ويأتى لتحيته، ولا حتى رئيس الدولة المضيفة القريب من مكان الحفل. ولكنه مع ذلك لم يخجل أو يستحى على دمه، بل بكل ثقالة تقمص الدور حتى النهاية، فوقف فى منصة التكريم وهو يتبسّم فى عبط بينما كانوا يلبسونه كما الأبله زياً نسائياً ذو لونٍ أحمر مرصع بورودٍ صفراء، ومن فرط هبله عزّ عليه أن يخلعه بعد إنتهاء مراسم الإحتفال، وظلّ متوشحاً بهذا الزى النسائى منذ وضعوه على كتفيه المتهدلين وإلى أن وصل إلى الخرطوم، وإمتطى العربة المكشوفة، بجواره الوالى الضاحك بلا سبب، ثمّ وهو يلقى بخطبةٍ عصماء أمام مستقبليه، مسترسلاً فى الحديث عن المجد الذى حققه والشرف الذى ناله بإرتدائه لهذا الزى. ولكن عندما تكسرت هذه القشّة رمى بالإعلامى النبيه حديث التعيين، الذى جاء بالحسناوات، مثلما رمى من قبل فردتى حذائه. وصار كلاهما يبحث له عن مغيث، والماء تكاد تبتلع الجميع.
وعاد الغريق يضرب فى الماء دون هدى ويستغيث، فرموا إليه بقشة الحوار الخائر وأوعزوأ إليه أن يكمل فصول مسرحيته ويعلن عن مخرجاته وبالفعل إبتهج بهذه القشة وقدم الدعوة لرؤساء أربعة من دول الجوار وذهب في اليوم التالي إلى الساحة الخضراء ورقص كما لم يرقص من قبل، ونسى أنه لا زال في لجة اليم، ولكن ذلك لم يدم طويلاً إذ سرعان ما أدرك أنه على وشك الغرق وهو يسمع الشباب يتنادون لعصيانٍ مدني فطاش عقله وفقد صوابه إن كان له صواب، ونصحه البعض بأن يمتطي طائرته ويتنقل بين عواصم الدول إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وبالفعل عمل بنصيحتهم إلى أن مضت الأيام الثلاثة، وأعلن من أبوظبي أن العصيان فشل بنسبة مليون في المائة ولكنه ظل خائفاً ولم يَجُر رجليه عائداً إلى بلده بل ظل لابداً هناك إلى أن طرد عشية الإحتفال بالعيد الوطني فعاد مطأطأ الرأس كسيفاً، وقبل أن يستقر به المقام أعلن الشباب عصياناً آخر يوم 19 ديسمبر، الآن أصبح الغرق وشيكاً ونرجو ممن لديه قشة معتبرة ألّا يبخل بها عليه.
أما البعير فبعد أن وضعوا على ظهره أحمال لا طاقة له بها، من الجرائم المثقلة بدماء الناس وعذاباتهم، خمٌ وحروب، صنفوا فيها أبناء الجنوب كفاراً وشنوا عليهم الحروب الجهادية فأتاحوا الفرصة لدول العالم أن تتدخل لحماية شعب يباد دينياً. فكانت النتيجة أن إنفصل الجنوب وفقد السودان ثلث أراضيه، ولم يعد لهم وهُمْ أدعياء حمّلة لواء الإسلام موطء قدم فيه لنشر الدين بين أهله مثلما كانوا يحلمون. وذهب الجنوب بما يحمل من ثروات كانت تدعم وجودهم فى السلطة، فأضيفت إلى حمولة بعيرهم أحمال. زاد من وطأة ثقلها إستمرار الحرب فى دارفور حيث دمروا المدن والقرى وأبادوا البشر، وشروا من نجا من آلات قتلهم نزوحاً ولجوء. ومما زاد الطين بلة ما قاموا به من زرعٍ للفرقة بين السكان، فدعموا بعض القبائل بالمال والسلاح للوقوف فى وجه قبائل أخرى، فإنتشر التفلّت الأمنى والقتل العشوائى المجانى. فتلقفت المنظمات الدولية الأمر وصعدته حتى وصل إلى مجلس الأمن الذى أدان عمليات الإبادة، وأحال القضية إلى المحكمة الجنائية التى أجرت تحقيقاً ثمّ أعلنت أن ما يجرى فى دارفور هو حرب إبادة جماعية، وأن الرئيس هو المُتهم الأول فى هذه الجرائم التى ترقى لأن توصف بأنها جرائم حرب، وطالبت بالقبض عليه ومعه بعض أعوانه، ومن هنا حصل الجقليب وأصبح الرئيس محاصراً ومطارداً، وكانت هذه حمولة زائدة على ظهر البعير. ترتبت عليها حمولات أخرى، نتيجة دخولهم فى حالة لهاث مستمر من أجل إجراء تسويات يمكن أن تسترضى الحركات المسلحة، وذلك بشراء قادتها وتوزيرهم فى الحكومة فتوسعوا فى مسألة إنشاء المناصب الدستورية على مستوى المركز والولايات، فإزداد ترهل الحكومة المترهلة أصلاً، وأصبح الصرف على هذا الجهاز التنفيذى المتضخم عبء ثقيل على ميزانية دولة تقف عارية بلا موارد أو مقومات إنتاجية. وهذا الإستوزار أضاف عليها عبءً آخر ولم يوقف الحرب، فإضطرت الحكومة لبذل المزيد من الأموال على الأمن بأذرعه المتعددة حتى بلغ الصرف على هؤلاء ما يزيد عن السبعين فى المائة من ميزانية الدولة، أما ما تبقى فيتم الصرف منه أولاً على الحكومة مهولة العدد، ثمّ إذا تبقى شئ يذهب للتنمية والخدمات من صحة وتعليم وغيرها. فهل يتبقى شئ من هذه الميزانية المستقطعة أساساً من قوت وعرق الغلابة. لذلك أصبحت الحكومة عبء ثقيل على المواطن يتمنى أن يتخلص منها اليوم قبل الغد، وهو لن يتوانى فى أن يضع القشّة الأخيرة على ظهر بعيرها المتهالك، الذى لم يعد قادراً على إحتمال المزيد، فهل توضع القشة الأخيرة، يبدو أن ذلك قد أصبح وشيكاً. لذلك أصبح شغل الحكومة الشاغل هو أن تتوفر على قشّة للغريق علّه ينجو، وأن تتحاشى وضع أخرى على ظهر البعير حتى لا ينقصم، أما هَمْ إدارة الدولة وتحقيق مصالح الناس فلم يعد لها وجود ولا حتى فى مؤخرة رأسها. لذلك فإن القش سوف يقصم ظهر البعير، ولن ينقذ الغريق ويوم 19 ديسمبر قريب. فهو يوم تاريخي في طريق سحب آخر قشة من يد الغريق وتركه ليغوص غير مأسوف عليه، ووضع آخر قشة على ظهر البعير لينهار ويبرك بعدها وإلى الأبد.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.