على مر الأزمنة، تصارع السلاطين والساسة على حق امتلاك المعرفة ومصادر المعلومة. فالمعرفة قوّة وسلاح، بشكلٍ يوازي المال والعتاد العسكري. ولأن المعرفة بهذه الأهمية، هناك من يحاول الاستئثار بها لنفسه. ولهذا تأسس مجال «إدارة الفهم» في الأوساط الأكاديمية والسياسية. تُعرّف وزارة الدفاع الأمريكية مفهوم (ادارة الفهم) أنه أي (نشر) لمعلومات أو أي (حذف) لمعلومات لأجل التأثير على تفكير الجمهور والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح. ولأن النشر والحذف يتطلّبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والإدراك، قام باحث ستانفورد المختص بتاريخ العلوم روبرت بروكتور صياغة ما يُعرف بعلم الجهل (اقنوتولوجي) وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة. بدأ علم الجهل في التسعينات الميلادية، بعدما لاحظ الباحث دعايات شركات التبغ التي تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين. ففي وثيقة داخلية تم نشرها من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة، تبيّن أن أبرز استراتيجية لنشر الجهل كان عن طريق «إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان». ومن حينها انطلق لوبي التبغ في أمريكا لرعاية أبحاث علمية مزيّفة هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعيا ونشر الجهل حول مخاطره. كما هو مُلاحظ هنا، الجهل ليس انعدام المعرفة وفقط، بل هو (مُنتَج) يتم صنعه وتوزيعه لأهداف معيّنة، غالبًا سياسية أو تجارية. ولتوزيع هذا الجهل بين أطياف المجتمع، انبثقت الحاجة لمجال «العلاقات العامة»، الصنعة التي تُعتبر الابن الأصيل للحكومة الأمريكية على حد تعبير تشومسكي. فعن طريق لجان «العلاقات العامة» تم تضليل الرأي العام الأمريكي والزج به في الحرب العالمية الأولى سابقا وغزو العراق لاحقا، بما كان يُعرف بال Creel Commission هذا التضليل استراتيجي ومُمنهج حسب أساسيات علم الجهل، والتي تستند على قنوات ثلاث: بث الخوف لدى الآخرين، إثارة الشكوك، وصناعة الحيرة. وليس هناك أنصع مثالا من الحكومات في تجسيد مبدأ إثارة الرعب لدى المواطنين لتمرير مصالحها وأجندتها. فتارة، يتم صنع أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، وتارة يتم ترعيب الجمهور بالقدر المظلم إذا لم يشاركوا في هذه المعركة وتلك، وكأن الأرض ستفنى بدون هذا «الهجوم المقدّس». لا غريزة بشرية تنافس غريزة حب البقاء، ولذا من الممكن أن تبييع الماء في حارة السقايين عندما تهدّد أمنهم وبقاءهم! وأما إثارة الشكوك فهو ثاني أعمدة التجهيل، ويتم توظيفه غالبا في القطاع التجاري والاقتصادي، وهذا بالتحديد منهج الكثير من الشركات. فبعد هبوط مبيعاتها بنسبة 25%، بدأت شركة كوكاكولا العالمية بدفع ما يقارب 5 ملايين دولار لباحثين أكاديميين لتنفيذ مهمة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتوجيه اللوم إلى عدم ممارسة التمارين الرياضية! هذه «الأبحاث المدفوعة» يتم نشرها لإثارة الشكوك في ذهنية الفرد حتى يعيد تشكيل موقفه بما يتناسب مع أجندة هذه الشركات. ولأن كثرة المعلومات المتضاربة تصعّب من اتخاذ القرار المناسب، يدخل الفرد في دوّامة من الحيرة حتى يبدو تائها وجاهلا حول ما يجري، ويزيد العبء النفسي والذهني عليه، فيلوذ بقبول ما لا ينبغي القبول به، طمعا في النجاة من هذه الدوامة، وهذه تحديدا هي الغاية. في هذا العصر الرقمي، بات الجهل والتضليل سلعة يومية تُنشر وتُساق على الجمهور، من حكومات وشركات وأصحاب نفوذ. والصمود أمام كل هذه القوى يتطلّب جهودا ذاتية ووعيا مستقلا يبحث عن الحقيقة بعيدا عن العاطفة والأمنيات. وسيكون من قصر النظر وفرط السذاجة لو اعتقدنا أن «علم الجهل» و»إدارة الفهم» و«العلاقات العامة» محصورة على الغرب، بل هي أقرب إلينا من أي شيء آخر. و هناك عمود آخر من أعمدة الاقنوتولوجي لم يشر إليه الباحث المذكور و هو السخرية التي عبر عنها المهاتما غاندي خير تعبير عندما قال قولته المشهورة (في البدء يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك فتنتصر),السخرية في تقديري تكون مرافقة لعملية التجهيل الممنهج لتحسم اي خيار فكري لدي المتلقي. الشاهد أنه بالرغم من أن الدراسة العلمية لم تتناول هذه الممارسة بصورة علمية رصينة إلا في هذا العصر؛ عصر العلم و ثورة المعلومات و تحليلها إلا أن الاقنوتولوجي قد عرف منذ قديم الزمان و إستخدمه الحكام و الطغاة المتجبرين خاصة و قد اشير إلي ذلك في القرآن الكريم في قصة الطاغية الشهير فرعون الذي فسر مفسرونا قصته بصورة مبتسرة تحكي فقط عن طاغية قصمه الله بمعجزات حسية لكن قصة فرعون تضم في ثناياها كثيرا من المعلومات ,منها أوصاف الطاغية التي لا تتغير في كل العصور و لنر ماذا قالت الايات القرآنية عن أعمدة الأقنوتولوجي المشار إليها. قال تعالي قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ(57) طه قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ(63) طه قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123) الاعراف وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الفساد (26) غافرَ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ(51) طه قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى(58) طه قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) الشعراء أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53) الزخرف الملاحظ في الايات المشار إليها أن فرعون الطاغية سخر من موسي عليه السلام بالقول أنه ليس فصيحا بما فيه الكفاية (لا يكاد يبين) و أنه لا يلبس حليا ذهبية فخمة ليستحق مهابة أهل الرياسة و لم يأت معه ملائكة ليثبت نبوته (تشكيك). و فرعون الطاغية شكك في سلوك موسي عليه السلام بأننا ربيناك كإبن لنا ثم قتلت منا نفسا و هذا جحود علي المستوي الشخصي, كما شكك في نبوة موسي و هارون بالقول أنهما ساحران. فرعون كما اثبتت أخر الدراسات التأريخية كان من الهكسوس و هم ساميون كنعانيون و قد إحتلوا مصروحكموها لفترة لا تقل عن المائتي عام و كانوا بإستمرار علي خوف من تنتصر الثورة عليهم التي مثلها نبلاءالقبط الذين تراجعوا إلي جنوب مصر, كان الخوف من أن يتمكن الثوار من الانصار عليهم و طردهم خارج مصر بدعم داخلي أو هجوم خارجي و لذا كان يكثر من ترداد (يخرجوكم من أرضكم). الملاحظ أن فرعون ايضا خوف قومه بأن موسي و هارون سيقومان بإفساد المملكة بتغيير عقيدتها و كما شكك في عقيدة موسي و هارون عليهما السلام المنحصرة في التوحيد بالقول (فما بال القرون الاولي) اي يعني إذا كان كان ما تقولانه صحيحا فلماذا عبد الناس آلهة أخري منذ قديم الزمان. كما أراد فرعون بمواعدة موسي و هارون في يوم الزينة بث الحيرة و البلبلة في نفوس القوم بعدما سمعوا لمقالتهما و رأوا المعجزات , قال علماء التاريخ أن يوم الزينة هذا كان يوم عيد النوروز و الذي تحتفل به عادة معظم الشعوب التي تعيش في منطفة الشرق الادني و تلك كانت المنطقة التي قدم منها الهكسوس. استمر فرعون في بث تلك الحيرة في نفوس قومه بعد يوم الزينة بإضافة لقب ساحر لموسي اثناء السنوات العديدة التي إستمرت فيها اللعنات تضرب مملكة فرعون. وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ(49) الزخرف و هكذا حال الطغاة في كل مكان و زمان, يحبون السلطان و لا يريدون عنه تحويلا و يتمسكون به بكل و سيلة و غاية سواء كانت فكرا أم إرهابا أم قتلا و ترويعا إلي أن يأتيهم أمر الله و هم ظالمون, لم نسمع ابدا عن نظام إنطبق عليه تعريف الطغيان ثم تخلي عن الحكم بإرادته ألا أن يضطر إلي ذلك إضطرارا أ و يقتلعه الله, الشاهد أن السلاح الاساس في إقتلاع حكم فرعون كان الاقتصاد, إنشغل المفسرون بتبيان المعجزات الباهرة التي ظهرت في قصة فرعون, لكن كان من المهم تبيان أن إقتصاد مملكة فرعون كان مبنيا علي الزراعة و الآفات التي ضربت مصر آنذاك بإيعاز من الله ضربت الزراعة في مقتل و كان ذلك بداية نهاية ملك فرعون بعد مقتله فضعفت مملكة الهكسوس و تمكن المصريون من الانتصار عليهم و طردهم, قل تعالي (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)القصص 5-6 جنود فرعون و هامان في الاية 6 من سورة القصص يمثلون فصيلة الجند الخاصة بالطاغية ,حرسه المقربين ام جهاز أمنه الذي لا صلة له بالجيش حامي الشعب بل أمنه الشخصي و امن طغيانه الذين يشاركونه نفس المصير ,داخل السلطة أم خارجها و يغرقون معه إن غرق فقد إرتبطت مصالحهم به. [email protected]