أحداث السودان تتلاحق بصورة غير مسبوقة بين إرهاصات الثورة وتصاعد وتيرة العصيان المدني الذي انقسم حوله الناس بين مؤكّدين نجاحه من جماعات المعارضة، ومستخفّين ومستهزئين من عناصر الحكومة والأجهزة الأمنية. بين هذا وذاك غطى غبار الأحداث القضايا الأساسية المتمثلة في الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي شكلت أداة ضغط متعاظمة على الجميع والشارع السوداني، حيث قفزت الأسعار بصورة غير مسبوقة، جعلت الكثير من الممكن في خانة المستحيل في ظلّ الظروف الراهنة، خاصة بعد انهيار الجنيه السوداني في مواجهة الدولار. الكل بات يتجنّب الحديث بالصوت العالي عن المحنة التي يعيشها الجميع، وارتفع صوت المرأة الأمّ والزوجة باعتبارها أكثر العناصر معاناة من هذا التضخم الذي بلغ أرقاماً مقلقةً وحتى بناتنا في المدارس والجامعات شاركن في الحراك السلمي لتوسيع دائرة الاحتجاجات على الساحة الأكاديمية. المهم من كل هذا الحراك أن تكون هناك حلول ممكنة ومعقولة بدلاً عن التجاهل والازدراء، والذي أحزنني أكثر في هذه المواجهات السلمية هو تدني الخطاب الرسمي الذي بات يتعامل مع الجميع بدونية وتحقير دون أن يكون هناك داعٍ لكل ذلك، فلا يعقل أن يوصف الشعب بأنه قطيع من المرتزقة والخونة والعملاء، فمثل هذه الأوصاف لا تليق في مواجهة أزمة حقيقية وليست أزمة مفتعلة. كثيراً ما تحدثنا عن تنقية الخطاب السياسي حتى لا يترك أثراً مدمراً في القواعد الجماهيرية، فمثلاً أن يوصف الشعب السوداني أنه مجموعة من «الشحّاتين»، فإن مثل هذا الوصف لن ينساه الناس بسرعة، خاصة في غياب أي اعتذار أو رجوع عن هذه الأوصاف السُوقية، ويجب أن يكون هناك قاموس يتضمن بعض الأوصاف المقبولة، خاصة أن اللغة العربية زاخرة بالمفردات الطيبة والمقبولة والتي لا تجرح ولا تسيء ولا تترك أثراً سيّئاً في الوجدان. أياً كانت طبيعة الحراك والأحداث المتلاحقة في السودان، فمن غير المنطقي تغطية «عين الشمس بغربال» والادعاء بأن كل شيء بخير.. الاعتراف يجعل النظام يكبر في عيون الناس، ولكن الإنكار لن يقود إلا إلى مزيد من المرارة والأسى. لا نرغب ولا نريد أن يتحوّل السودان إلى يَمَنٍ ثانٍ أو إلى سوريا أخرى، وكل هذا ممكن، ومن الأفضل العمل على إطفاء الحرائق قبل أن تشتعل بصورة مجنونة وفوضوية. [email protected]