أصعب واشق عقبة على الشعوب ان تجتازها في سبيل التطور والتقدم هي عقبة الارتقاء بالوعي الجمعي للشعب، فالثراء يمكن ان يتحقق عن طريق اكتشاف بترول في الدولة أو نجاح الزراعة أو ازدياد الطلب العالمي على سلعة محتكرة لدى الدولة المعنية ، ولكن الوعي لدى الشعوب لا يحدث عن طريق الطفرة أو بسبب خارجي يحدث فجأة فيقلب حال الشعب ما بين ليلة وضحاها من شعب متخلف إلى شعب يتمتع بالوعي والحس الحضاري ، فالوعي ينمو لدى الشعوب عن طريق التقطير البطئ ليترسب ويتراكم خلال الزمن المتمادي ، ومما يزيد الأمر صعوبة ومشقة ان هذا الترسيب للمفاهيم الجديدة لتشكيل الوعي الجديد للشعب لا يتم في فراغ ، إنما هي عملية إحلال وابدال ، إحلال المفاهيم الجديدة محل المفاهيم البالية المتخلفة التي اقعدت بالشعب واورثته التخلف والانحطاط ، وعملية الإخلال والابدال تقابل عادة بمقاومة عنيدة من قبل الشعب لأنه وبسبب تخلف الوعي لا يعي ولايدرك ما يعيش فيه من تخلف وانحطاط ، بل قد يكون فخورا ومعتزا بهذه المفاهيم المتخلفة التي تشكل النسق السلوكي الجمعي للشعب ، من هنا تنبع صعوبة محاولة تعديل أو تغيير هذا النسق السلوكي أو منظومة الأخلاق التي تنظم حياة الشعب والارث التاريخي الذي يشكل وجدانه ، وللتدليل على صعوبة تعديل المنظومة السلوكية للشعوب ومحاولة الارتقاء بالوعي الجماعي نضرب المثل بالسودان ، ففي القرن التاسع عشر استنهض محمد أحمد المهدي الشعب السوداني لمقاومة الاستعمار التركي عن طريق مخاطبة أو دغدغة المشاعر الدينية البدائية البسيطة المغلفة بالغيبيات ونجح في ذلك لأنه كان يخاطب الوعي البدائي الذي تكون خلال الحقبة السنارية ، وبعد أكثر من قرن من الزمان تعرض خلاله السودان للحكم البريطاني الذي خطى خطوات مقدرة بالسودان في طريق الحداثة والتمدن ، حيث يبدو للناظر أو الدارس من أول وهلة أن الشعب السوداني قد تجاوز المرحلة السنارية في تطور الوعي ، نجد أن الأمر ليس كما بدا للوهلة الأولى ، فبعد أكثر من مائة عام نجد أن الترابي استعمل نفس الأداة التي استعملها المهدي في القرن التاسع عشر وكانت استجابة الشعب في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين متطابقة تماما مع الاستجابة التي ابداها في منتصف القرن التاسع عشر ، إي ان القيم السلوكية لدى الشعب أو تطور الوعي الجمعي للشعب ظل كما هو ولم يداخله أي تغيير أو تطور خلال مائة عام أو تزيد. كمال علي - فيسبوك