الشاعر الكبير عمنا عمر محمد أبو شناح المشهور بقريميط رجل مرهف الإحساس ورقيق المشاعر وصاحب مدرسة متفردة في شعر الدوبيت قولا ونماً وهو في ذات الوقت راوية لشعر أعمامنا عبد الرحيم أوب شناح وعيساوي وعبد الرحيم قيناوي أبو أم شيوم رحمهم الله. وكل هؤلاء الرجال هم من كبار شعراء الدوبيت في دار الريح وكأن هذه العائلة، ما شاء الله، يجري الشعر في دم أفرادها فما منهم شخص إلا وهو شاعر رجلاً كان أو امرأة. فهل يا ترى يورث الشعر أن ينتقل عن طريق الجينيات. عمنا عمر قال: الليلة الصعيد هبهب فروع النيم وبوجد نفسي في الغرغير مفارق الليم وين العنقه باهي مكجرو الهضليم ضقنا ليالي كان الزايلة فيها نعيم وعندما يستخدم شعراء الدوبيت كلمة الصعيد إنما يعنون بذلك موسم نزول الأمطار وما يصاحب ذلك من بروق ورعود وسحب تهيج في النفس الشوق إلى الأحبة والديار؛ خاصة في حال البعد عنهم. وما يتضح من صياغ هذه الأبيات أن الشاعر قد شط به البعد عن ديار الحبيب وحل في منطقة تكثر فيها أشجار النيم ولذلك بلغ به الشوق والفراق درجة جعلته يشعر كأنه قد شارف على الموت حتى بلغ مرحلة الغرغرة كمن " تردَّدت الروح في حَلْقه عند الموت" وهذا لعمري معنى غير مسبوق كما أن الاشتقاق نفسه يؤكد رأي الذي أردده دائماً بأن شعراء الدوبيت يستخدمون لغة عربية فصيحة في كثير من أشعارهم وهذا ليس بأمر مستقرب لأن الدوبيت نفسه إنما هو امتداد طبيعي للشعر العربي البدوي وإن كان في قالب سوداني محلي أملته ضرورة الوضع الجغرافي الذي يحدث تغيراً بسيطاً في مفردات اللغة طالما أنها قد خرجت من موطنها الأصلي وهذا أمر شايع في كل لغات العالم بما فيها العربية. وفي البيت الثالث يتحسر الشاعر ويتساءل عن مكان المحبوب الذي يكني عنه "بالعنقه" باهي وكل هذه مفردات فصيحة ولا تحتاج منا لكثير شرح، ولكن شاهدنا هنا في قوله "مكجرو الهضليم" فكلمة "مكجرو" مشتقة من الكجرة التي هي الخباء يضرب للعروسين وغالباً ما يكون ظليلاً ويقصد الشاعر هنا شعر المحبوبة الفاحم السواد وقد تدلى على عنقها الطويل حتى يكاد يضرب عليه خباءً. والبيت الرابع يؤكد الشاعر تحسره مرة أخرى على فراق الحبيب لولا أن الدنيا قد فرقت بينهما لأن نعيمها لا يدوم وكأني به هنا يشير إلى قول أبي البقاء الرندي: لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ فَلا يُغَرَّ بِطِيبِ الْعَيْشِ إِنسانُ هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدْتَهَا دُوَلٌ مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ وَهَذِهِ الدَّارُ لَا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ وَلا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَانُ [email protected]