من يبتعد عن منبته طويلا .. ثم يعود قطعا لن يجد الأشياء كما تركها في تلك الأرض التي نما فيها عوده.. لا في مبناها ولا معناها .. فعوامل الزمن ومستجدات المعطيات في شكل البنيان وتشكّل نفسية الإنسان هي ما يجب تقبلها على قلة إيجابياتها وكثرة سلبياتها وفقاً لتقديرات من سافر وقد ترك الحال على غير ماهو عليه الآن ..! فيصبح القادم بعد غيبة طويلة مثل الغراب الذي اراد ان يقلّد مشي البلبل فلم يستطع وحينما قرر العودة لمشيه .. نسي الأمر فاخذ يتقافز كما نراه حسبما حكت الأسطورة ! جلست الى الزميلة أو الإبنة الجسورة شمايل النور بمكتبها في دار التيار .. فجاء من يبحلق في وجهي بإعجاب وشغف يسالني إن كنت الأستاذ الفنان مصطفى السني ..! لكن زميلاً لشمايل .. قال له مصطفى أصغر بكثير يا رجل .. هي حقيقة ليست صادمة فيما يتعلق بالعمر الذي مضى ولكن التسليم لفرضية يخلق من الشبه اربعين يظل يلاحقني في أكثر من موقف .. بالأمس قالت لي إحدى العاملات بفضائية وليدة .. ألست الأستاذ الصحفي عبد الباقي الظافر .. قلت لها لم تبتعدي كثيراً بل هو زميل قديم وإن لم التقيه منذ سنوات.. مثلما كانت أجابتي لسائق الأمجاد الذي ظن أنني الموسيقار أحمد المك أو قد أكون أمت له بصلة غير الصداقة و الإخاء في الله ! أقف عند المحطة وسيارة الشرطة تحتل مكاناً قريبا من تكدس الحافلات والجمهور فيها..وأنا في إنتظار ما يقلني الى وسط العاصمة.. فجأة تصرخ فتاة مرعوبة .. الحقوني لقد خطف أحدهم هاتفي .. الشرطي من داخل السيارة الرسمية يمط شفتيه دون أن يتفاعل مع توسلات المسكينة طالما ان السارق ذاب في لجة ذلك الصخب المائج.. ولا يملك الواقفون إلا إسعافها في صدمتها بنظرات الأسى المصطنعة وتمنيات أن يعوضها الله خيراً .. سا عتها احسست ان الأمر بات عاديا وليس فيه ما يثير النخوة .. فعضضت على هاتفي المشقق الشاشة بالنواجز وتحسست محفظتي الهزيلة ..! الشباب بكل عنفوانهم يتدافعون وسط صغار الفتيات وكبار السيدات بالمناكب لإزاحتهن عن بوابات الحافلات دون رحمة أو شفقة وحينما مددت يدي لبعضهن وأفسحت قليلا ليركبن قبل مني .. إنتهرني الكومساري وهو في سن اصغر ابنائي .. طالبا مني ان أبطّل ظرافة ولا أعطل الحافلة و أدرك الجميع أنني قادم من زمان و مكان آخريّن ! داخل الحافلة شذ أحد الشباب بان ترك مكانه لسيدة تحمل صغيراً.. وهو مشهد يبدو انه اصبح منةً يتكرم بها القليلون رحمة بجسد ضعيف يكاد يسقط أرضاً من شدة إهتزازات المركبة المتهالكة المسماة ببصات الوالي .. وقد كان ذلك حقاً في الماضي للسيدات على الرجل في المركبات العامة مهما كان عمره يؤديه بتلقائية تخلو من التكلف ! ما أقسى ان تعود من غربتك الطويلة لتجد نفسك اكثر غربة ..! وما اشقاني في تلك اللحظة التي كنت أجلس فيها الى من توهمت أن صداقة قديمة بيننا فزرته بشوق ٍ و ظننت أنني ربما أمثل قليلاً من الوحشة في نفسه .. فإذا به يخرج ساندوتشا من كيس كان في درج مكتبه ويستأذننا في ضرورة تناول إفطاره قبل أن يسري مفعول الأنسلين في دمه..دون أن ينافقنا بعزومة مراكبية حتى ..بل و لم يتكرم علينا طيلة جلستنا معه ولو بجرعة ماء .. وحينما خرجنا عنه و الألم يعتصر قلبي .. قال لي إبني نادر .. أنسى يا والدي .. فادركت بان الأمر ايضاً اصبح عادياً ..وربما يستحق إنشاد المثل القائل .. بليلة مباشر ولا ذبيحة مكاشر ! هي معادلة تتطلب وضعها في ميزان الواقعية التي تحتم ان لا نطلب من الآخرين ان يعيشوا في زماننا وبذات الروح التي جبلنا وتربينا عليها ..ولكن بالمقابل هل يجب ان نستسلم نحن لهذا الواقع المستجد والمرير على مذاقات حسنا القديم هروباً من الذات الأصيلة لنسبح في ذلك المجرى الجارف السائد والسائر عكسها ! حقاً هي ذات نخشى ان تغيب كلياً في الداخل .. بعد ان حبسناها كثيراً جمرة في أعماقنا رغم عواصف الخارج التي تلوي الأذرع نحو إتجاهات التحول الذي طحن بدولابه السريع الدوران من عاشوا في الغرب .. بينما لازال هناك شيء من قبس الماضي يضي الدواخل فينا نحن من نعيش في كنف الثقافة الإسلامية قريبا من شواطي اوطاننا .. بيد ان الحسرة الأكبر هي ان يندلق زيت ذلك الضياء داخلنا ونحن نعود حيث ينطفي وسط ظلمة التبدل الذي اخذ الكثير من الماضي الذي عشناه جميلا على الأقل في عيوننا .. فيمضي في رياح اقدام هذا الزمان اللاهثة بلا هوية ولا ملامح لوجهة غير تقديس القيمة المادية للحياة .. قاتلها الله من قيمة دنيئة وبلا قيمة! و يظل عزاؤنا رغم كل تلك الشواهد الشائنة في أغلبها أن في أهلنا الطيبين مالا نقول بقية منه .. ولكن نؤكد أنه الخير كله . [email protected]