كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علمانية الدولة ليست كفرا
نشر في الراكوبة يوم 20 - 02 - 2017

فى خضم الأزمات الفكرية و الإقتصادية و الإجتماعية و الدينية و الطائفية التى نعيشها هذه الأيام يتصاعد الجدل بين المثقفين و المتدينين و العامة هذه الأيام و تنطلق سهام النقد أو التحريض من قبل المتطرفين و تجار الدين نحو دعاة العلمانية أو الفصل بين الدين و الدولة, أنا شخصيا إلى أمد قريب ظننت أن العلمانية هى الكفر بعينه و بما أن الإستعجال هو علة أى عالم أو متعلم فقد إطلعت مؤخرا على كتاب قيم عنوانه (الإسلام و علمانية الدولة) مؤلفه الكاتب السودانى عبد الله أحمد النعيم , الكتاب متوفر على الشبكة مجانا و قد رأيت أن أقتبس منه بعض المقاطع المفيدة (بتصرف) لفائدة القارئ الكريم:-
إن الخلل هو في مفهوم الدولة الدينية نفسه، وليس فقط في تخبط محاولات التطبيق. إن تقرير هذه الحقيقة الجوهرية لازم لمعرفة أن ما حدث في السودان خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين هو مغامرة محتومة الفشل لمشروع باطل من الناحية النظرية بما يستحيل معه النجاح مهما تكررت التجارب. فبما أن الدولة هي دائما مؤسسة سياسية لا تقدر على التدين أو الاعتقاد في ذاتها، فالمقصود بهذا الزعم هو القول بأن القائمين على أمر الدولة يستغلون مؤسساتها وسلطاتها لتنفيذ فهمهم هم للدين، وليس الدين كما هو حقا عند الله. وعندما يظهر الأمر على حقيقته هذه، فسنرى بوضوح خطل الزعم وخطره على مصالح الناس. وقد دفع السودان منذ نهايات عهد مايو وإلى نهايات عهد الإنقاذ ثمنا باهظا لهذه المغامرات الهوجاء. وعلى الرغم من فداحة هذا الثمن فإن أثر هذه التجارب الفاشلة سيكون لصالح السودان ولصالح المجتمعات البشرية كافة في المستقبل القريب، إن شاء الله، لأنه سيكفينا عن تكرار مثل هذه الأخطاء الفادحة ويقودنا إلى سبل الخلاص بتصحيح سوء الفهم وردع سوء القصد والغرض. ولعل المنهج المقترح يعين على استخلاص هذه العبرة الكبرى.
أساس الأطروحة التي يقدمها الكتاب هو التأكيد على أن مستقبل الشريعة الإسلامية إنما يكون في التزام المسلمين بأحكامها بصورة طوعية وليس من خلال التطبيق القهري بواسطة أجهزة ومؤسسات الدولة التي تَفسَد وتٌفسِد إذا حاولت فرض أحكام الشريعة الإسلامية بالسلطة الجبرية. فبحكم طبيعة وأغراض الشريعة لا يصح العمل بأحكامها إلا في حرية كاملة وقصد خالص وهو "النية" المطلوبة في كل عمل ديني، وينطبق هذا على ما يسمى بأحكام المعاملات مثل تحريم الربا وشروط البيع كما يقوم في أمر العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، فكل أحكام الشريعة الإسلامية ملزمة للمسلم دينياً بمعزل عن سلطة الدولة الجبرية. وهذا القول لا يمنع إمكانية إصدار القوانين التي تحقق مقاصد الشريعة شريطة أن يكون معلوما أنها قوانين وضعية صادرة عن الدولة المدنية ونافذة بسلطتها، وليست هي الشريعة نفسها.
وهذا القول لا يعني بالطبع التقليل من أهمية دور الدولة في أداء وظائفها الضرورية، وإنما فقط تأكيد أن ذلك لا يكون باسم الإسلام. فللدولة وظائفها وأغراضها المعلومة والهامة، لكنها مجرد مؤسسة سياسية مدنية لا يصح أن ينسب لها الاعتقاد الديني أو النية اللازمة لصحة العمل الديني. وحقيقة أن سلوك القائمين على مؤسسات وأجهزة الدولة يتأثر بمعتقداتهم الدينية الخاصة لا يجعل الدولة نفسها إسلامية، وإنما يؤكد ضرورة تمييزها عن الإسلام لأن سلوك الحاكم إنما يعبر عن فهمه هو للأحكام الشرعية وهو مجال اختلاف واسع ومتشعب بين المسلمين على مدى التاريخ. فالإسلام هو عقيدة المسلم التي يحاسب عليها حسب صحة علمه وعمله، بينما الدولة تقتضي استمرارية العمل المؤسسي في الحكم والإدارة والقضاء وما إلى ذلك من وظائف عامة.
بل إن موظفى الدولة أنفسهم و خصوصا كبار مسؤليها هم بشر يخطئون و يصيبون و يفسدون فى الأرض و يرتكبون الجرائم و أكبرها التعدى على المال العام و الفساد فمن يستطيع محاسبتهم إذا إدعوا أنهم يحكموننا بإسم الله ؟؟!!!!
الدولة هي نسيج متشابك من السلطات والمؤسسات التي يتم من خلالها حفظ الأمن العام والقضاء وتوفير الخدمات في مجالات مثل الصحة والتعليم والقيام بتحصيل الضرائب وضبط الإنفاق العام. ولتحقيق مهامها تحتاج الدولة لاحتكار استخدام العنف، أي القدرة على فرض إرادتها على عموم السكان. وهذه القدرة على إنفاذ إرادتها بالقوة الجبرية، والتي بلغ مداها وتأثيرها الآن مستوى لم تصله من قبل أبداً طيلة التاريخ الإنساني، سوف تأتي بنتائج ضارة بالمجتمع إذا استخدمت بشكل اعتباطي، أو لأهداف فاسدة أو غير مشروعة. لهذا من الضروري إخضاع جميع أعمال الدولة للضوابط الدستورية، وبخاصة المحافظة على حياد الدولة تجاه الدين، بقدر الإمكان، وهو حياد يستدعي اليقظة المستمرة والعمل من خلال عدد من الاستراتيجيات والآليات السياسية، والتشريعية، والتعليمية، وغيرها من الضوابط.
ومن هذا المنظور يدعو الكتاب إلى الفصل المؤسسي بين الشريعة الإسلامية وأجهزة الدولة، مع اعتماد وتنظيم العلاقة العضوية واللازمة بين الإسلام والسياسة لدى المجتمعات الإسلامية. فالدولة الوطنية المعاصرة لا تقدر على تطبيق الشريعة الإسلامية كقانون عام أو أساس للسياسات الرسمية، ولا ينبغي لها أن تحاول ذلك، غير أن هذا لا يعني إقصاء الإسلام عن الحياة العامة أو إسقاط دور الشريعة وأثرها على السياسات العامة للمجتمع، فإن معالجة جدلية الفصل بين الإسلام والدولة مع الربط والضبط لاستمرار العلاقة بين الإسلام والسياسة إنما تكون من خلال التفاعل الاجتماعي الإيجابي على مدى الزمن، وليس بمحاولة فض التعارض بصورة فورية من خلال التحليل النظري. وهذا يقتضي النظر لعلاقة الدين بالدولة من ناحية، وبالمجتمع والسياسة من ناحية أخرى، في الإطار التاريخي لكل مجتمع على حده، والابتعاد عن تصور تعريف شامل وعام لهذه العلاقة يطبق على جميع المجتمعات الإنسانية.
وقد ينشأ هذا التساؤل عند القارئ، هل هناك استنادات من القرآن الكريم والسنة النبوية تنفي إمكانية الدولة الدينية أو تدعم مفهوم الدولة المدنية الذي أدعو إليه؟ وأول ما أقول في الإجابة على هذا التساؤل المعقول هو إن العبرة هي في فهم النص وليس في توهم وجود نص قطعي لا يقبل الاختلاف في الفهم. صحيح أن الآية 7 من سورة آل عمران تقول إن من القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، لكن القرآن لا يحدد ما هي هذه الآيات المحكمات، كما أن النبي، عليه الصلاة والسلام، لم يحددها في السنة. فأي الآيات هي محكمة وأيها هي من المتشابهات هي مسألة في مجال الفهم والاختلاف بين المسلمين، وكذلك الأمر في تفسير جميع النصوص من القرآن والسنة النبوية المطهرة التي يعتقد المسلم أنها قطعية أو صريحة وواضحة. ولننظر الآن لمسألة السند من القرآن والسنة للمنهج المقترح.
أول ما نلاحظ في أمر الدولة أنه لا يوجد نص قطعي بوجوب الدولة الإسلامية أو الدولة المدنية (وهو ما يسمى بعلمانية الدولة)، بل إن مفهوم الدولة لا يرد في القرآن على الإطلاق ولا مرة واحدة بل ورد بصيغة واحدة تمنع تحول الأغنياء لدولة (ما افا الله علي رسوله من اهل القري فلله و للرسول و لذي القربي و اليتمي و المسكين و ابن السبيل كي لا يكون دوله بين الاغنيا منكم و ما اتيكم الرسول فخذوه و ما نهيكم عنه فانتهوا و اتقوا الله ان الله شديد العقاب) كما أن القرآن دائما يخاطب الفرد المسلم والجماعة المسلمة، ولا يخاطب مؤسسة أو هيئة يمكن وصفها بأنها الدولة، ولا يستقيم من الناحية المنطقية أن يخاطب القرآن غير الإنسان المكلف شرعا، وحتى عندما يخاطب الإسلام الجماعة المسلمة، فإنه في حقيقة الأمر إنما يخاطب الأفراد المسلمين لأن الجماعة ليست كيانا مستقلا قادرا على العمل أو على أن يكون محاسبا عليه. لذلك نقرر أن حجة الدعوة إلى ما يسمى بالدولة الإسلامية أو معارضتها إنما تقوم على فهم نصوص وملابسات موضوعية في أمور تنظيم شؤون السياسة والحكم والقضاء وما إلى ذلك. هذه الحقيقة واضحة في غياب أي خطاب عن الدولة الإسلامية بين علماء المسلمين على مدى التاريخ قبل القرن العشرين، وإن مفهوم الدولة الذي تقوم عليه دعاوى المودودي وسيد قطب وغيرهم ممن ابتدعوا مفهوم الدولة الإسلامية في أواسط القرن العشرين هو مفهوم أوروبي للدولة الاستعمارية التي تقوم عليها أحوال المسلمين اليوم. أنا أقبل ضرورة وجود سلطة لإدارة أمور المجتمعات الإسلامية كغيرها من المجتمعات الإنسانية على مدى التاريخ البشري، وإنما يقوم اعتراضي على وصف الدولة بأنها إسلامية، لأن هذا القول يزعم قداسة الإسلام لمؤسسة هي بالضرورة بشرية وهي بذلك عرضة للخطأ والظلم وعن ذلك يتسامى الإسلام. وسأعود في نهاية هذا الفصل لمسألة تأصيل الدولة في المرجعية الإسلامية وحق تقرير المصير.
ولاستكمال الحديث بإيجاز في موضوع السند من النص، لعله من المفيد أن نشير إلى قوله تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) و(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) و(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في الآيات 44 و45 و47 من سورة المائدة، التي يسوقها البعض في التدليل على وجوب الدولة الإسلامية. والسؤال هنا من هو المخاطب بهذه الآيات وغيرها من النصوص المتعلقة بالحكم بالعدل والقسط. بحكم طبيعة القرآن، والإسلام نفسه، فهذه النصوص إنما تخاطب الفرد المسلم والجماعة المسلمة، في إقامة ما أنزل الله في حكم أنفسهم أولاً، فإذا فعلوا فسوف ينعكس ذلك على إدارتهم لأمور الدولة. ولكن بما أن الدولة هي جهاز مشترك لجميع المواطنين، فإن إتباعها لأحكام الإسلام إنما يكون من خلال أخلاق وأعمال القائمين على أداء المهام والأدوار المختلفة، وليس من خلال توهم أن الدولة أو أجهزتها يمكن أن تكون إسلامية بصورة مباشرة. لذلك من الضروري التمييز بين الإسلام كدين والدولة كمؤسسة بشرية حتى لا يقع التضليل على المسلمين بأن أعمال الدولة هي الإسلام نفسه، مما يجعل المعارضة السياسية للقائمين على الحكم خروجا على الإسلام.
وإنما يكون تحقيق المسلم للتوجيه القرآني بالحكم بما أنزل الله بتطبيق ذلك على نفسه في كل ما يقول ويفعل أو يترك، لأن ذلك هو المجال الوحيد الذي نقدر ونحاسب عليه. فانا لا أقدر على تغيير سلوك الآخرين ولست مسؤولا عنه، ولكني قادر على إصلاح نفسي ومسؤول عن ذلك، وهذا هو منهاج النبي عليه الصلاة والسلام في العلم والعمل، في العبادة والسلوك اليومي بين الناس. وكما سبق الإشارة فإنه حتى عندما يخاطب الإسلام الجماعة المسلمة، فإنه في حقيقة الأمر إنما يخاطب الأفراد المسلمين لأن الجماعة ليست كيانا مستقلا قادرا على العمل أو محاسب عليه. فإذا انصلح الناس كأفراد واستقاموا على مكارم الأخلاق بالتدين الصادق، انصلحت بذلك جميع أحوالهم وأمورهم في السياسة والاقتصاد والعلائق الاجتماعية وغيرها من الأمور الخاصة والعامة، ولا يهم وقتها من يتولى القيادة السياسية نيابة عنهم، وإذا لم ينصلح حال الناس في دخائلهم وحقيقة سلوكهم الذاتي فلن يجدي أن يتولى الحكم من يدعي إقامة الدولة الإسلامية، وهو زعم باطل ومضلِّل لعامة الشعب.
وكذلك تحسن الإشارة هنا إلى الشبهة الشائعة بأن مفهوم علمانية الدولة غربي ودخيل على الإسلام والمسلمين. وأبدأ هنا بتقرير أن المبادئ لا تُقبل أو تُرفض بسبب نسبتها لهذه الحضارة أو تلك، وإنما ينبغي أن ندعم ما نراه حقا ونعارض ما نراه باطلا بغض النظر عن الجهة التي ينسب إليها المفهوم. كما نلاحظ هنا أن من يثيرون هذه الشبهة يقبلون ويعملون بالمفهوم القائم الآن للدولة ونظمها القانونية والإدارية والاقتصادية، وكل هذه المفاهيم غربية ووافدة على المجتمعات الإسلامية من خلال الحكم الاستعماري. فبما أننا قد واصلنا العمل بهذه النظم والمفاهيم الغربية بعد الاستقلال فينبغي أن نأخذ معها بضوابط الحكم الدستوري والحقوق الأساسية التي ثبتت جدواها في تجارب المجتمعات الأخرى في جميع أنحاء العالم. وكذلك لدى البحث المتروي في أعماق التجارب الإنسانية التاريخية والمعاصرة فإننا سنجد أن الفلسفات والمبادئ المنسوبة اليوم للغرب أو الشرق، هي في الحقيقة خلاصة التجارب البشرية المتنوعة والمتفاعلة مع بعضها البعض في كل زمان ومكان. ومن هذا المنطلق فإني أقف مع الحكم الدستوري وحقوق الإنسان، ومع العدل والسلام والتنمية والعدالة الاجتماعية، وكل ذلك من خلاصات التجارب البشرية، وليس بمقتضى نسبة هذه المبادئ لأي من المجتمعات الإنسانية دون غيرها من المجتمعات.
وكما سبق القول فمبدأ حياد الدولة في أمور العقائد الدينية وتجنب وهم الدولة الدينية لا يمنع المسلمين من اقتراح السياسات والتشريعات التي توافق أو تنبعث من عقيدتهم الدينية، كما هو حق لكل مواطن، ولكن عليهم أن يدعموا اقتراحهم ذاك بما أسميه "المنطق المدني". وكلمة "مدني" هنا تشير إلى ضرورة أن تبقى عملية الحوار العام حول السياسة أو التشريع المقترح علنية ومتاحةً لكل المواطنين، دون أي تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العنصر. وفي أمر الدين بالتحديد، يجب ألا تكون أمور الحكم والقانون قائمة على فرض عقيدة البعض على الآخرين، وإنما على أساس المنطق المشاع، الذي يمكن لكل مواطن أن يقبله أو يرفضه، أو يقدم البديل من المقترحات، من خلال الحوار العام، دون الاعتماد على دينه أو تقواه لأن تلك اعتبارات ذاتية لا يقدر الآخرون على الاطلاع على حقيقتها أو الحكم عليها، ولا ينبغي لهم ذلك.
ودعوتي للاعتماد على المنطق المدني لا تقوم على توهم أن ذلك أمر سهل أو ممكن التحقيق بصورة عفوية، وإنما هو منهج علينا تأسيسه وتنميته في أنفسنا وتنشئة أطفالنا عليه ودعم غاياته وإشاعة وسائله من خلال التوعية الشعبية الشاملة. فالمطلوب هو تعزيز الاعتماد على المنطق والتفكير المدني، وتشجيعهما، مع إضعاف نزعة الارتكاز على المعتقدات الدينية الشخصية في مجال السياسة العامة والقانون، ومن خلال الممارسة اليومية في تقديم أسباب موضوعية للسياسة العامة، ومناقشتها بشكل عام ومفتوح، وفقاً لمنطق يستطيع الجميع أن يقبلوه أو يرفضوه بحرية، سينجح كل مجتمع تدريجيا في تشجيع وتطوير إجماع أوسع، بين عامة المواطنين، يتجاوز المعتقدات الدينية. والمقدرة على إظهار ألوان من المنطق، ثم الجدال حولها على أساس مدني، موجودة فعلاً في الكثير من المجتمعات. لذا فإن ما أدعو إليه هو دفع هذه العملية بصورة متعمدة وشاملة، وليس المطالبة بفرضها كاملةً وعلى نحو فوري.
والتعريف التطبيقي لمفهوم الدولة المدنية (ما أسميه علمانية الدولة) يقوم على تنظيم العلاقة بين الإسلام والدولة بما يضمن مقتضيات الحكم الدستوري، والتعددية الدينية والمذهبية والاستقرار السياسي والتنمية، في الإطار المحدد للمجتمع المعين حسب تكوينه الثقافي والعرقي وظروفه الاقتصادية والسياسية. إلا أن هذه الموازنة تأتي من خلال الممارسة العملية، وليس فقط بالتنظير الأكاديمي حول هذه المفاهيم. لهذا، فأنا مهتم بوسائل التوعية الشعبية لإشاعة هذا الفهم للعلاقة بين الدين والدولة والدين والسياسة تماماً كما أهتم بالتحليل والتوثيق لأطروحتي الأساسية حول طبيعة تلك العلاقة. والمسألة الدقيقة هنا هي كيف يكون الفصل بين الدين والدولة مع الارتباط الوثيق والدائم بين الدين والسياسية، خصوصا أن الدولة هي مؤسسة سياسية ومتأثرة بمعتقدات ومصالح القائمين عليها. والمنهج المقترح يقوم على الممارسة العملية وفق ضوابط الحكم الدستوري والمواطنة واحترام حقوق الإنسان.
ومما يعين على تسديد هذه الممارسة التمييز بين المجتمع المسلم والدولة الإسلامية المزعومة. كما رأينا في تجربة السودان فإن مزاعم الدولة الإسلامية إنما تنجح في إشاعة النفاق والفساد ولن تنجح الدولة في أي مكان في إقامة الشريعة بين الناس لأن الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية لا يكون إلا بالنية الخالصة والصدق في القول والعمل، وذلك دائما هو حال المسلم في خاصة نفسه وضميره المغيب عن أجهزة الدولة. فمنهج الإسلام في التربية يقوم على العلم والعمل لدى كل مسلم لتغيير وإصلاح نفسه، وبذلك يتحقق المجتمع المسلم، وليس بإقامة دولة تزعم أنها إسلامية، وتلك مغالطة وخداع للنفس وإرهاب للناس. وهذا التمييز بين الدولة والمجتمع ضروري في كل المجتمعات بما في ذلك المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة.
ومن المفيد أيضا التمييز بين الدولة والحكومة. فالدولة هي استمرارية المؤسسات مثل القضاء والتعليم والخدمة المدنية والخدمة الدبلوماسية، فهذه المؤسسات تلحق بسيادة الدولة ومصالح جميع المواطنين، لذلك يجب أن تبقى مستقلة عن هيمنة الحكومة التي تختلف وتتغير حسب إرادة الناخبين في النظام الديمقراطي. وكما نرى في حالة السودان وغيره من البلدان الإسلامية فإن وجود أغلبية من المسلمين لا يعني اتفاقهم السياسي بل تختلف الفرق والأحزاب بين المسلمين، فالقول بأن أغلبية المواطنين من المسلمين لا يعني بحال من الأحوال الإجماع على سياسة معيّنة، وحتى بالدرجة التي يحصل معها اتفاق فسيكون ذلك على مستوى الحكومة وليس على مستوى الدولة. فالخيار الديمقراطي هو دائما للحكومة، بصورة تقبل تغيير الحكومة في الدورة القادمة، وهذا هو السبب في التمييز بين الدولة والحكومة، لأن الدولة تبقى في خدمة جميع المواطنين دائما على السواء بينما تأتي الحكومة وتذهب حسب خيار الناخبين.
واستحالة تديين الدولة هي مسألة في جوهر الدين وطبيعة الدولة. فالدولة مؤسسة لا تملك ولا تقدر على الاعتقاد الديني إطلاقا حتى لو أجمع جميع المواطنين على هذا المطلب، وهذا يعني أن تكون هناك حكومة منتخبة لمتابعة سياسات يراها البعض إسلامية حسب رغبة الناخبين، ولكن هذا لا يغير طبيعة الدولة نفسها. وفي الدورة التالية قد يتم انتخاب حكومة اشتراكية أو رأسمالية، ليبرالية أو محافظة، ثم تقوم تلك الحكومة بمتابعة سياساتها هي وفق الإرادة الديمقراطية للناخبين، وعلى كل حكومة وضع وتنفيذ سياستها في حدود الحكم الدستوري وضمان الحقوق الأساسية المتساوية لجميع المواطنين، رجالا ونساء، مسلمين وغير مسلمين. فيمكن للحكومة أن تتغير ديمقراطيا شريطة أن تبقى الدولة في خدمة جميع المواطنين. فإذا حاولت الصفوة الحاكمة إلزام المواطنين بفهمها هي للإسلام، فإن ذلك ينتهك حقوق المسلمين المعارضين سياسيا كما ينتهك حقوق المواطنين غير المسلمين.
على ضوء هذا المنهج يمكن أن نظر الآن في أمر الخلاص من وهم الدولة الدينية، وإصلاح حال الدولة بما يمكن المسلم من تصحيح وتسديد التزامه بالإسلام في خاصة نفسه، وفي الانتفاع بهدى الإسلام في كل أحوال المجتمع من حكم وإدارة واقتصاد وأمن وتنمية وعدالة. والسؤال هنا هو كيف ننتقل من الحالة الراهنة إلى تحقيق الدولة المدنية المنشودة؟
بطبيعة الحال، فإن التحول والتصحيح إنما يبدأن دائما من الواقع القائم عمليا، ثم يتصاعدان إلى تحقيق الغاية المنشودة. فإن الإصلاح لا يكون قفزا في الفضاء، ولا بتمني الغايات، وإنما بتلمس أوجه الخلل وتصحيح كل منها في إطار المفهوم الشامل للدولة المدنية كما يكون باعتماد ما هو صالح وتنميته أيضا في إطار المفهوم الشامل المطلوب. ومن هذا المنظور علينا أن نأخذ بالمبادئ العامة التالية.
أولاً: إن الإصلاح يبدأ فورا في موقف كل منا تجاه القضية بإدراك خلل مفهوم الدولة الدينية ثم بمعرفة وممارسة مقتضيات الدولة المدنية، وكذلك بالعمل مباشرة في تصحيح سلوكنا في مواقفنا المختلفة كمواطنين في الدولة وفي مجال عملنا الرسمي أو التجاري أو المهني. وهذا المنهج الفردي الذاتي والمباشر هو أساس التزام تعاليم الإسلام في التربية الذاتية كما هو أساس العمل العام في أحوال الدولة والمجتمع.
ثانيا: في ما يتعلق بأمور الدولة والحكم وما يلحق بها من أعمال ومهام، إنما ننطلق من العلم بأن الدولة الدينية لم تقم أصلا، وأن الدولة المدنية هي قائمة فعلا في هياكل الدولة وأعمال الحكومة والمناشط العامة، رغم ما لحقها من خلل وفساد بسبب قصور القائمين على أمور الحكم والإدارة والتعليم وسعينا وراء سراب الدولة الدينية المزعومة. فنحن لا نحتاج إذن إلا لاستجلاء متطلبات الدولة المدنية لتحديد النموذج الذي تتم على أساسه معالجة أوجه القصور في النظرية والتطبيق. ولعل معالم ومتطلبات هذا النهج تظهر بصورة عملية من التحليل والشرح التالي:
الدولة المدنية المنشودة هي تلك التي تقوم على مبادئ الحكم الدستوري وضمان حقوق الإنسان وعلاقة هذا وذاك بمفهوم المواطنة الإيجابي والمتفاعل مع أمور السياسة والحكم والإدارة. وجوهر الحكم الدستوري هو الحقوق الأساسية وهي ما أشير إليه هنا بحقوق الإنسان، وغاية الحكم الدستوري هي تمكين المواطن من الحياة في أمن وسلام والاستمتاع بحريته وكرامته الإنسانية. ومركزية الحقوق الأساسية والمواطنة تتجسد وتتشكل في هياكل الدولة ومؤسساتها وتقيد أعمال الحكومة والأجهزة المختلفة وتوظف جميع المناشط في المجالات الرسمية والشعبية العامة في خدمة الأمن والسلام والتنمية، وكل ذلك لتمكين المواطن من الاستمتاع بحريته وكرامته الإنسانية. فالحقوق الأساسية ينبغي أن يحميها الحكم الدستوري، إما بنصه عليها وضمانها في أعمال القضاء والحكم أو بتجسيدها في الهياكل والمؤسسات الرسمية والمدنية ومتابعتها في المحاسبة السياسية والقانونية.
إن ضوابط ومعايير الحكم الدستوري هي قائمة فعلا وعلى مستويات متفاوتة، سواء كانت هناك وثيقة دستور أم لم تكن. ففي تاريخ السودان الحديث مثلا، لم تغب كافة ضوابط ومعايير الحكم الدستوري بشكل مطلق في أي فترة من الفترات، بل كان بعضها قائما بشكل نسبي حتى في عهد الاستعمار، وكذلك خلال مختلف مراحل الحكم الوطني، سواء كان مدنيا منتخبا أو عسكريا انقلابيا، وحتى خلال مراحل التسلط الدكتاتوري، كما كان عليه الحال في أواخر مايو وبدايات عهد نظام الإنقاذ خلال العقد الأخير من القرن العشرين. فالدولة المدنية لم تكن غائبة تماما كما لم تكن كاملة الصحة والنفاذ في جميع مراحل تاريخ السودان الحديث.
ثالثا: ومن منطق البداية الفورية والذاتية لكل منا حيثما يكون موقعنا الرسمي والمدني، وبحكم الوجود النسبي للدولة المدنية، فإن التصحيح يبدأ هنا والآن، بدلا من انتظار استكمال الشروط المثلى للتطبيق. فلا يجدي أن تنتظر تغيير نظام الحكم الراهن أو اكتمال الوعي بالمواطنة وقيام مؤسسات الحكم الدستوري الرشيد. فكل هذه المواصفات إنما تقوم وتتنامى من عملنا جميعا في حدود ما هو متاح لكل منا في مواقعنا المختلفة.
صلاح فيصل/باحث وكاتب مستقل
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.