سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
لمن تدق الأجراس؟..أنا عشت في السودان أيام الجنيه يساوي دولارين. كنا ندخل متجر (جلبرت اليهودي) حيث لم تكن نظم العزل والفرز والتعصب والكراهية والاستعلاء العرقي قد نمت في هذا المجتمع المسالم المثقف الواعي.
الجميع يطلقون على ما يجري في السودان قضية انفصال الجنوب، ولا ندري من أصل لهذا التوصيف ومدى دقة التسمية واتساقها مع تطور المجريات التاريخية للأحداث، ونطمع الى أن تفيد هذه المداخلة باستبيان مدى دقة تسمية أو توصيف الحدث، وهل هو انفصام أم انفصال باعتبار القضية خطيرة ونتائجها لن تظل بأي حال محصورة في نطاقها الجغرافي، فتعبير انفصال سبقه بالطبع تعبير الانفصاليين على زعماء هذا الحراك، وهو تعبير يوصم ويرهب به (مع بقية مرادفاته) كل من يحاول الوقوف في وجه أغلبية، ليعرض فكرا مخالفا أو مغايرا للسائد المستقر، من يحاول الاعتراض على فرض الهيمنة الثقافية أو الدينية على غيره من الأعراق، لا لسبب سوى أنهم أقلية. وفي السودان أطلق النعت على الكوادر الاولى التي أسست لهذا الحراك منذ نصف قرن أو يزيد، وتعبير انفصال في هذه المنطقة يسبب فوبيا تاريخية يتداعى عند ذكره مشهد الحدث المأساوي الشهير، انفصال سورية عن مصر وانهيار حلم عبد الناصر في جمهورية عربية، وبسرعة تنطبق اوصاف معروف الدواليبي ومأمون الكزبري وأديب الشيشكلي على جون قرنق وسلفا كير وياسر عرمان، وعملية الانفصال في أي بلد عندما تحدث فهي المرحلة الاجرائية النهائية لتدشين واقع معاش استحال معه (دوام استمرار العشرة) بين الأعراق بعد فترة (انفصام) طويلة يطلق عليها البعض تعايشا، وهو التعبير المهذب لعملية العيش (على مضض)، العيش بين أطراف متضررة مضطرة للانتظار حتى تحين اللحظة. وقد حانت في الصومال وحانت في السودان وحانت في فلسطين، وهي على وشك في العراق ولبنان والمغرب واليمن، وهي قادمة في مصر والجزائر والسودان مرة ثانية والسودان مرة ثالثة، وهي آتية لا محالة، بينما الجميع يتشاغلون بإخفاء رؤوسهم في الكثبان الناعمة، لكن العواصف العاتية القادمة ستكتسح الرمال وتنكشف الرؤوس، وساعتها لا مناص من مواجهة المشهد الذي حاول الجميع انكاره والتستر عليه بالباطل والكذب على الشعوب عند كل أزمة، واعتبار ما يحدث سحابات صيف بيضاء عابرة، وعلى الفور يطفو على السطح التعبير المضاد وهو الوحدة، ويتم تعديل ديكورات المشهد البائس حتى تعبر السحابة، لكن السحب تجمعت وأصبح لونها داكنا وبدأت البروق والرعود تصم الآذان، ولا زال الكذبة المضللون مصرين على أنها سحابات صيف بيضاء عابرة. وإمعانا في الكذب يصطنع المضللون تعبيرات الدهشة على وجوههم وكأنها مفاجأه، مع ان نصف قرن من المقدمات الدامية لا يبدو فترة قصيرة، نعم نصف قرن من محاولات التوفيق بين الرؤوس والعقول للانصياع لمبدأ العيش المشترك وقبول الآخر المختلف، نصف قرن جرت فيها أنهار دماء وتآكلت فيها كل الحلول بمرور الزمن واحدا تلو الآخر، ولم يتبق سوى حل وحيد وخيار أوحد، ويدعي الكاذبون وحتى اللحظة أنه من الممكن تفاديه ولم يقل أحد كيف؟ كيف بعد نصف قرن من الانفصام والدماء؟ ويمارس الناس كعادتهم النواح على اللبن المسكوب والبحث عن الاسباب وكأنها مجهولة، مع انها معلومة أشخاصا وأموالا ودولا ورعاة، وأنا عشت في السودان أيام أن كان الجنيه السوداني يساوي دولارين، أيام أن كنا ندخل متجر (جلبرت اليهودي) في شارع الجمهورية ونغترف بضائع لم نكن نسمع بها في المحروسة، أيام أن كان الشباب في مثل هذه الايام يجوبون شوارع الخرطوم في مسيرات الكريسماس السنوية مرددين الاهازيج الدينية ورافعين الصلبان في أجواء احتفالية ترتسم فيها البهجة على كل الوجوه، حيث لم تكن نظم العزل والفرز والتعصب والكراهية والاستعلاء العرقي والديني قد نمت في هذا المجتمع المسالم المثقف الفقير الواعي، ورأيت وسمعت في النادي المصري وغيره من الأندية في العاصمة المثلثة أنماطا من الثقافات السياسية والدينية والعرقية، أحباشا وعفرا واريتريين وزنوجا وعربا وأقباطا، حيث لم تكن بذرة الانفصام التي زرعوها قد نمت، وها قد توحشت وأصبحت غابة سنط متغولة تنفث الاشواك في كل ارض السودان، بينما لم يستطع الرعاة الممولون أن يفعلوا شيئا للسودان الجريح، تركوه يتشظى متفرجين كما سيتركون غيره. وسيظل السودانيون يدفعون الثمن كل صباح من أرضهم ودمائهم وكرامتهم التي باتت على الميديا فرجة للعالم، باسم الدين وهو منها براء، فالاسلام الفطري الهادئ لم يدخل السودان بجلد النساء الفقيرات بالسوط، بل دخل بمتصوفين أجلاء سمحي الوجوه لم تتلطخ أياديهم أبدا بدماء شركائهم في الوطن، ولازالت طرائقهم في وجدان السودانيين الأصلاء، الذين لم ينحازوا للتمويل النفطي المدمر وأظنهم أغلبية حتى اليوم، ومع تدمير نظام العيش المتناغم بين الأعراق في العراق ومصر والسودان ولبنان والجزائر واليمن، لم يتبق سوى سورية. وقد بدأت تظهر بوضوح إرهاصات الموجة الأولى للمد الأصولي، في ظل ظروف دولية تجعل منها المحطة التالية المرشحة بقوة لبدء السيناريو المنظم بدقة، مرحلة انفصام ثم مرحلة (تعايش) على مضض تبدأ فيها إسالة الدماء لتصنع خطا أحمر ثم تأتي مرحلة الانفصال، ترى لمن تدق الاجراس إنها تدق للعراقيين، ولقد أعلنها الأكراد صريحة من دون مواربة ويتمناها الشيعة، وتدق للمصريين وها هم الأقباط والنوبيون وقد فاض بهم الكيل ويملكون صكوكا للجغرافيا والتاريخ غير قابلة للطعن، وتدق للبنانيين حيث الاحلام المستترة للموارنة والدروز والشيعة وغيرهم، وتدق لكل المجتمعات التي انفصمت فيها الاعراق عن بعضها وعن مجتمعاتها، انفصمت ثقافيا واجتماعيا منذ عقود طويلة وصنعت الدماء المسالة خط اللاعودة الاحمر القاني، الأعراق التي سبق وتداخلت وعاشت معا بالمعروف وصنعت نهضة فتية، لو قدر لها أن تنمو لكانت هذه المنطقة من العالم هي القوة الاولى بلا منازع، فالثقافة والتنوع والحضارة والارض الخصبة والمياه العذبة والبشر والموارد كلها مقومات التقدم، لكننا لا مفر من العود لسماع سمفونية النحيب على اللبن الابيض النقي الذي سكب في مستنقعات الأسن والتخلف وعاد بالمنطقة كلها لعصور سحيقة كنا نعتقد أننا تجاوزناها، عصور الاسترقاق والجلد وتغليف النساء. وربما ينشر هذا الطرح بينما تدق الاجراس في كنائس جوبا ابتهاجا بالحرية التي نالها الجنوبيون وأعتقوا من الاسترقاق وأمسيات الجلد بالسياط وقطع العراقيب في حلقات المشاهدة السادية في أقسام الدرك، بينما تدق أجراس أخرى في مناطق كثيرة، أجراس تحذر من غضب الاعراق المقهورة التي يظن البعض أن لا حول لها ولا قوة. عيد اسطفانوس ' كاتب مصري