لكل مدينة في السودان عبقها الخاص، وسحرها الخفي. على سبيل المثال اشتهرت مدينة شندي بالعديد من الخصائص، وأبرزها التعايش السلمي بين الأديان. ضمت المدينة الحنينة آلاف الأقباط الذين أمضوا فيها أكثر من قرن، وعاشوا مع إخوانهم المسلمين في ودٍ وتحابٍ وسلام، لا تكاد تشعر بوجود فوارق بينهم. كانوا في ما مضى يعيشون في مناطق بعينها (مربع واحد وحلة البحر) ثم تمددوا لاحقاً وانتشروا في كل أحياء المدينة الوارفة، مطمئنين وادعين، لا يعكر صفو معاشهم كدر. } ضربوا لإخوانهم المسلمين المثل الأعلى في الكد لكسب العيش، بمغازلهم اليدوية، ومصانع نسيجهم المنزلية، التي ينسجون فيها (الفُراد والملافح) الجميلة والعديد من المنتجات الأنيقة، علاوةً على عملهم في مجال تجارة الأقمشة التي احتكروها تماماً، وبرعوا فيها. أشهر موزعين للصحف في شندي من طائفة الأقباط، وقد ظلت (مكتبة لطفي وشقيقه سمير هابيل) تمثل منارةً للثقافة في عاصمة الجعليين لأكثر من أربعين عاماً. وصاحب أشهر مطعم شعبي في شندي قبطي، وأعني الراحل (أبو الزيك)، وقد خلفه على المهنة ذاتها ابناه بركات وشاءول. وصاحب أكبر وأشهر متجر لبيع الأقمشة في دار جعل من طائفة الأقباط، وأعني به حزقيال. وأشهر (بصير) يعالج الرضوض ويجبر الكسور قبطي، وهو الراحل (بسخرون). وصاحب أول وأشهر متجر للتحف وأول مؤجر لمكبرات الصوت في شندي من الأقباط، وأعني الراحل أديب فاخوري، ومالك أكبر وأشهر بقالة في شندي هو زعيم الأقباط حالياً، العم نبيه قلادة (أطال الله في عمره). في (الأهرام اليوم) تشرفنا جميعاً خلال الأيام الماضية بتولي الأخ الأستاذ نبيل غالي جرس منصب رئيس التحرير بالإنابة، ولم تنبع الثقة التي أولاها له مجلس إدارة شركة هايد بارك من فراغ، فهو صحافي مخضرم، وناقد متمكن، وقاص مجيد، نالت مجموعته القصصية التي تحمل اسم (اتكاءة في عيون حبيبتي) شهرة كبيرة،وله «ببلوغرافيا» عن الرواية والقصة القصيرة في السودان اصبحت مرجعاً للكتاب والنقاد والباحثين وقد نال عدداً من أنواط الجدارة الرئاسية والأوسمة الذهبية في عهدي مايو والإنقاذ. عمل نبيل كمدير لتحرير (الأهرام اليوم) منذ صدورها، وأضاف إليها أكثر مما أضافت له، وهي تتشرف به قطعاً. عرفته في هذه الإصدارة عن كثب، فأسرني أدبه الجم، وخلقه الرفيع، وشدتني حكمته. لا يتحدث إلا همساً، ويفيض لسانه أدباً. وإذا كانت الشقيقة مصر قد اكتوت بنيران التعصب الديني إلى درجةٍ جعلت الدماء تسيل أنهاراً؛ فقد ظل السودان بحمد الله وتوفيقه بمنأى عن مثل هذه الإحن، بتعايشٍ سلمي لم تعكره أي مظاهر فرقة أو تعصب. تحية من أعماق الدواخل لأقباط شندي الجميلة، ولكل أبناء الطائفة القبطية بالسودان، وعلى رأسهم زعيمنا وكبيرنا الأستاذ نبيل غالي جرس، أمدَّ الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية. ولشباب (الأهرام اليوم) الذين أحبوا نبيل ووقروه (ألفين مسا وتحية).