الأماكن ذاتها؛ الملامح والصور والتفاصيل المعشعشة في رؤوس سكان المدينة القدماء، ممن عاصروا عهدها الذهبي قبل سيرها في طريق التدهور بسرعة تقارب سرعة الصاروخ خلال العقدين الماضيين من الزمان، فالشوارع والبيوت الفسيحة لم تزل كما هي مشرعة أمام كل من يعرفونها ويعلمون مداخلها ومخارجها وسر الترابط الأليف بين مجتمعها، فودمدني بالرغم من الانحدار السريع في مختلف مميزاتها القديمة لم تفقد بعد سر وجودها وتميزها الممتد بين أبنائها الذين لم يزالوا حتى الآن يحتفظون ويحتفون بذاك التميز والإبداع في كل المجالات، ولم ينسوا ليالي المدينة الباهية ومساءاتها الراقية إبان النشاط الثر في المسرح والغناء الرياضة والسينما، كذلك وفي هذه تحديدا؛ ثمة دور عرض ظلت راسخة لدى الناس هناك رغم انقطاع الضوء عنها. سينما الخواجة، أو سينما ودمدني، وإن غلبت الأولى على الثانية سبقت رصيفاتها في المدينة في التوقف عن عرض الأفلام لسنوات طويلة وتوارت خجلا على مايبدومن انحدار مستوى التذوق للأفلام التي كانت تشتهر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتفشي السطحية منها. توقف خلف وراءه حسرة عند جمهورها الذي تمشي الروايات بينهم بأن التوقف يعود لحادثة يقولون إنها أقرب للمشاهد التي كانت تعرض على شاشتها من الأفلام الهندية لتتوقف ماكينات سينما الخواجة عن الدوران وإرسال الضوء من الطاقة المواجهة للشاشة العملاقة المنتصبة في الناحية الشرقية من السينما الشهيرة الواقعة في ناصية شارع المحطة وقبالة دوران المسلة التاريخية بودمدني،ويفصلها من نادي الخريجين وفندق إنترناشونال شارع،حيث تحكي الذكريات المخزونة في عقول وقلوب عشاق السينما عن حادثة تقارب الأساطير عندما يؤكدون أن السينما التي صارت اليوم مبنى مهجورا يتوق الجميع لاسثماره بحجة الموقع المتميز الذي يحظى به في قلب المدينة، رغم شبح الخرافة الذي يرجح بعض الناس أنه السبب في توقفها،باعتقاد سائد مفاده وجود جن أوشيطان بكل ما تحمل الكلمة من معنى يسكن تلك الدار الجماهيرية وأنه في أحد الأيام شاهد الجمهور شبحايحاكي لقطةمن الفيلم المعروض يتراءى أمامنواظرهم على مسرح الشاشة المنصوبة فهرول الحضور إلى خارج السينما مخلفين وراءهم ذكريات أيام كانت تعج وتحتشد بالمواقف المرتبطة بطوابير الاصطفاف الطويلة من أجل الظفر بتذكرة الدخول ومشاهدة العروض السينمائية المتميزة التي كانت تشتهر بها سينما الخواجة. صاحب كلوزيوم ينشئسينما مدني ويرجع الفضل في إنشائها للخواجة "ليكووس"صاحب سينما كلوزيوم بالخرطوم، وإن صادفت أيا من رجال ودمدني ممن حضروا تلك الأيام لن يمل السرد والتطوافبعوالم الخواجة فالمشاهد مازالت تجول بخاطر الجميع إلى الآن فصوت العربة (البولمان) التي كانت تطوف أحياء ودمدني للدعاية للأفلام التي تعرض فيها حاضرةولم ينسالناس شراء الباسطة من فندق(سنترال) المجاور للسينما التي تقول الروايات الشعبية إن مالكها سماهاسينما ودمدنيعلى اسم المدينة ولكن أهل المدينة سموها على صاحبها (الخواجة) وطبعا يقصدون الخواجة ليكوس. ويتواصل السرد عن وقائع سينما ودمدني حيث يقولالممثل محمد السني دفع الله عبر مدونة في منتديات ودمدني اسكوب قبل سنوات وهو يصف أول أيام ذهابه للسينما برفقة والده الذي كان يعمل فيها بأنها سينما جميلة ذاتبناء شامخ ضخم مطلي باللون الأصفر بها ملصقات كبيرة لصور جذابة وعند المدخل جناح مدهون باللون الرمادي، مكتوب عليه سينما ودمدني،ويصف لحظة دخوله في المرة الأولى وانبهاره بالصور الفوتوغرافية والإضاءة تنير الصالة الجميلة التي بها شباكان واحد لتذاكر الدرجة الأولى والثاني لجمهور الثانية أما جمهور الدرجة الثالثة فيدخل من باب آخر منفصل في الجهة الشمالية من السينما جهة نادي الخريجين، وحكى عن لقائه بأحمدبابكر خطاط السينما وإسحق وعلي حسن مهندسي تشغيل ماكينة الأفلام إلى أن يصل في وصفه للشخصيات التي شاهدها في ذلك اليوم وأصبحت فيما بعد شخصياته الأثيرة، مثل جون وين، كلارك جيبل، ريتا هيوارت روبرت تايلور، سبينسر تريسي، وغيرها سواء المنصوبة على لوحات الإعلان أو الشاشة. ومع أشواقالعودة لمساءات جميلة تهبط على سماء المدينة من جديد يبقى سكانها في حيرة منواقع تردى ليطول كل قطاعاتها بما فيها السينما التي كانت لوقت قريب متنفسا قبل زحف الأفلام الهندية والأطباق الهوائية وشكلت ترابطا وحلقة للتلاقي والتعارف بين أبناء المدينة فالخواجة التي صارت أثرا بعد عين يتوق الناس هناك لمستثمر شجاع يذهب عن الوجوه شبح الخرافةالمسيطر على الجماهير بمدني وبقليل من الذكاءومعرفة ما يحبذه الجمهور يمكن أن تعود سيرتها الأولى وتؤوب السينما لعهدها البائد بأمر الأساطير اليوم التالي